18ـ وَتَرْجِعُ الأَحْكَامُ لليَقِينِ * فَلاَ يُزِيلُ الشَّكُّ لليَقِيِنِ
هذه القاعدة تشير إلى قاعدة فقهية كلية وهي :
" اليقين لا يزول بالشك " .
الأَحْكَامُ : واحدها حُكم وهو في اللغة : المنع 0 تقول : حكمتُ الرجل تحكيمًا ، إذا منعته مما أراد ، قاله الجوهري في " الصِّحَاح " .
والحكم في الاصطلاح هو : إسناد أمر إلى آخر إيجابًا أو سلبًا . قاله الجرجاني في
" التعريفات " ، ومثاله في الإيجاب : زيد قائم ، حيث أثبت القيام لـزيد . ومثال السَّلب : لم يقم زيد ، حيث نفيت القيام عن زيد . مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 61 .
وقد عَرَّفَه الأصوليون بأنه خطاب الله ـ تعالى ـ المتعلق بأفعال المكلفين ؛ اقتضاءً ـ أي طلبًا ـ ،أو تخييرًا ، أو وضعًا .( * ) الحكم الوضعي : هو خطاب الشرع بجعل أمرٍ ما علامة على أمر آخر .
والأحكام الوضعية خمسة هي :
السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحة ، والفساد . الواضح في ... / ص : 48 . الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية / ص : 57 .
اليَقِينِ :
لغة : العلم وزوال الشك . كذا قال الجوهري . منظومة القواعد ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
وقال بعض الأصوليون : إن اليقين في اللغة مأخوذ من الاستقرار ، يُقال : يقن الماء ، بمعنى استقر. منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
وقيل هو الإدراك الجازم الذي لا تردد فيه.منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
اصطلاحًا : هو حصول الجزم أو الظن الغالب بوقوع الشيء أو عدم وقوعه .منظومة القواعد ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
وقيل : اليقين في الاصطلاح : طمأنينة القلب ، واستقرار العلم فيه. منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري . .
الشَّكُ :
لغة : التردد ؛ وهو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر .الدرة المرضية شرح منظومة القواعد الفقهية / ص : 57 .
وقيل يراد بالشك : التداخل ؛ وذلك لأن الشاك يتداخل عنده أمران ، لا يستطيع الترجيح بينهما . منظومة القواعد الفقهية / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
وقيل الشك هو : مطلق التردد .منظومة القواعد الفقهية / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
اصطلاحًا : هو اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما قاله الراغب في " المفردات " .مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية / ص : 61 .
وقيل : يطلق على مطلق التردد ، ويطلق على الاحتمال المتساوي الطرفين.منظومة القواعد الفقهية / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
ـ والمعنى : أن الإنسان إذا تحقق من وجود الشيء ، ثم طرأ عليه الشك في زواله ، فيرجع إلى الأصل المتيقنِ ، وهو بقاؤه واستمرارُه .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
ولا تكاد تلك القاعدة تخلو من باب من أبواب الفقه ويدل على صحة هذه القاعدة عدة أدلة ترجع إلى الخبر ،والإجماع ، والنظر .
فأما الخبر، ما رواه مسلم في صحيحه :
* فعن سعيد وعبَّادِ بنِ تميمٍ ، عن عمهِ ، شُكِيَ إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الرجلُ يُخيلُ إليه أنه يجدُ الشيءَ في الصلاةِ . قال : " لا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحًا " .
صحيح مسلم . متون / ( 3 ) ـ كتاب : الحيض / ( 26 ) ـ باب : الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك / حديث رقم : 361 / ص : 93 .
ـ ففي هذا الخبر : الحكم ببقاء الطهارة وإن طرأ الشك ، لأن الطهارة مُتيقَّن منها ، وأما إذا تُيقِّن من الحدث الموجب نقض الطهارة ـ نُقِضَت الطهارة ـ .
وهذا أصل في كل أمر قد ثبت واستقر يقينا ، فإنه لا يرفع حكمه بالشك .
* وعن أبي سعيد الخُدري ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ :
" إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ؟ ثلاثا أم أربعا ؟ فليطرح الشكَّ ولْيبنِ على ما استيقنَ ، ثم يسجدُ سجدتين قبل أن يُسَلِّم " .
صحيح مسلم . متون / ( 5 ) ـ كتاب : المساجد ومواضع الصلاة / ( 19 ) ـ باب / حديث رقم : 571 / ص :137 .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 63 / بتصرف .
وأما الإجماع :
فحكاه غير واحد كالقرافي ـ رحمه الله ـ في " الفروق " ، وابن دقيق العيد ـ رحمه الله ـ في" إحكام الإحكام " .مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 64 .
وأما النظر :
فلأن اليقين لا يغلبه الشك ألْبتة ، حيث إنه قطع بثبوت الشيء فلا ينهدم بالشك .
مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 65 .
o فائدة :
ــــــــ
اعلم وفقك الله ـ أن قاعدة : " اليقين لا يُزال بالشك " لها اعتبار عند الاصتدلال بالأدلة ؛ إذ الأصل في الألفاظ أنها للحقيقة ، وفي الأوامر أنها للوجوب ، وفي النواهي أنها للتحريم .
ولا يُخْرَج بتلك الأحكام عن أصولها الْمُتَيَقَنة لاستدلال أو دليل مشكوك فيه إما من جهة الثبوت أو الدلالة .
وقد نبه إلى ذلك العلائي ـ رحمه الله ـ في كتابه : " المجموع الْمُذْهب " ، وقال : " ومن هذا الوجه يمكن رجوع غالب مسائل الفقه إلى هذه القاعدة إما بنفسها أو بدليلها " .
ومن ثَم يتبين أن القاعدة الكلية : " اليقين لا يزال بالشك " ، لها موردان - أي تطبق وتصب على شيئين -
الأول : الأدلة الشرعية ، عند إعمال قاعدة " استصحاب الأصل " ، لأن الأصل له حكم اليقين .
الثاني : أفعال المكلَّف ، عند اشتباه أسباب الحكم عليه. وهذا المورد هو المقصود أصالةً من القاعدة ، قاله ابن القيم ـ رحمه الله ـ في : " بدائع الفوائد " .
وهذا كله عندما يكون للمشكوك فيه حال قبل الشك ، فَتُستصحَب ولا ينتقل عنها إلا بيقين ، وهذا جزم به الجمهور ، ونص عليه ابن القيم في كتابه السابق .
قال ابن القيم : في " بدائع الفوائد " : " ينبغي أن يُعلم أنه ليس في الشريعة شيء مشكوك فيه ألْبتة ، وإنما يعرض الشك للمكلف " . ا . هـ .مجموعة الفوائد البهية ... / ص : 66 .
أمثلة تطبيقية على القاعدة :
______________
* إذا أكل الصائم شاكًّا في طلوع الفجر ، صح صومه ، لأن الأصل بقاء الليل حتى يتيقن الفجر .
أما إذا أكل شاكًّا في غروب الشمس ، لم يصح صومه ، لأن الأصل بقاء النهار ، فلا يجوز أن يأكل مع الشك ، وعليه القضاء ما لم يعلم أنه أكل بعد الغروب فلا قضاء عليه حينئذ .
* من شك في حصول الرضاع بينه وبين امرأة أجنبية ، فيبنِ على الأصل المتيقَّنِ ، وهو كونُها أجنبية عنه .
* من شك في طلاق امرأته ، فإنه يبني على الأصل المتيقن ، وهو بقاء الزوجية .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
* من أتم صلاتَهُ وفرغ منها ، ثم شك في زيادة أو نقص ، فهذا الشك لا يؤثر ، فصلاته تامة لأن الأصل التمام ، ثم طرأ شك ، فلا يُعوَّل عليه لكن من شك أثناء الصلاة فهذا له حكم آخر مفصل بكتب الفقه .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : عبيد الجابري / بتصرف .
ـ ضابط القاعدة :
هذا الحكم وهو الرجوع إلى اليقين وتقديمه على الشك ، صحيحٌ متجهٌ إن كان المعارِضُ للأصل المتيقَّنِ ، هو الشك ، بمعنى " الاحتمال المتساوي الطرفين " ، فَيُرَجَّحُ احتمال البقاء على احتمال الزوال .
وأما إن كان المعارِضُ للأصلِ المتيقَّنِ هو الظن ، بمعنى " الاحتمال الراجح " ، فيجري فيه الخلافُ المعروف في تعارض الأصل والغالب .
والأقرب ترجيح الغالب بدليل وجوب العمل بالنية الظنية ، كشهادة الرجلين مع أن الأصل براءة الذمم .
وبدليل عمل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بخبر المرأة ... في الرضاع مع كونه خبر واحدٍ لا يفيد إلا الظن ، فترك به الأصل ، وهو عدم الرضاع .
والأصل والغالب إن تعارضا فقدِّم الغالبَ وهو المرتضى .
وهذا من باب ترجيح القياس على التمسك بالبراءة الأصلية ، كما هو مذهب الجمهور ؛ لأن الظن المستفاد من القياس الصحيح أقوى من الظـن المستفاد من الاستصحاب ـ أي استصحاب البراءة الأصلية ـ ، والحكمُ المسْتَصحَبُ ، وإن كان يقينًا في أصله إلا أنه ظنيٌّ من جهة بقائه واستمراره ، فرجعت المسألةُ إلى تعارض الظنون . وإن كانت هناك فروع مستثناةٌ من القاعدةِ ، تُذْكَرُ في المطوَّلات ، كقواعد ابن رجب ، وأشباه السيوطي .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
صحيح فقه السنة / ج : 2 / ص : 105 .
ـ قواعد متفرعة عن هذه القاعدة :
------------------
* ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين .
* الأصل بقاء ما كان على ما كان .
والمعنى : أن ما ثبت على حال في الزمن الماضي ثبوتًا أو نفيًّا ، فإنه على حاله ولا يتغير ما لم يوجد دليل يغيره ، لأن الاستصحاب في اللغة : الملازمة وعدم المفارقة .
* الأصل براءة الذمة :
وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " البيِّنَة على المدعي ، واليمين على المدعَى عليه " .
سنن الترمذي [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 13 ) ـ كتاب : الأحكام عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ /( 12 ) ـ باب : ما جاء في أن البينة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه / حديث رقم : 1341 / ص : 316 / صحيح .
والمعنى : القاعدة المستمرة أن الإنسان بريء الذمة من وجود شيء أو لزومه ، وكونه مشغول الذمة هذا خلاف الأصل ، لأن المرء يولد خاليًا من كل دين أو التزام أو مسئولية ، وكل شغل لذمته بشيء من الحقوق إنما يطرأ بأسباب عارضة بعد الولادة ، والأصل في الأمور العارضة العدم .
* الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته :
فلو أن إنسانًا استيقظ من النوم لما أراد أن يصلي الظهر وجد في ثيابه أثر مَنِيّ ـ للاحتلام ـ فأشكل عليه هل هذا من نومه بعد صلاة الفجر فتكون صلاة الفجر صحيحة ؟ أم أنه من الليل فيلزمه الاغتسال ثم إعادة صلاة الفجر ؟ . نقول : إذا لم يتأكد ولم تقم قرائن ، فالأصل إضافة الحال إلى أقرب أوقاته ، وعلى هذا نحكم بأنه من نومه بعد صلاة الفجر ، وبِنَاءً على ذلك نحكم بصحة صلاة الفجر .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : خالد بن إبراهيم الصقعبي .
==============