"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ "15.
قال تعالى في الآية السابقة:
"وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" 13 – 14.
لما أظهر الله علمه ولطفه وأنه بكل شيء خبير، أمتن الله على عباده بمظهر من مظاهر هذا العلم واللطف والخبرة، ألا وهو تمهيد الأرض للسالكين، وذلك يدفع المتأمل إلى الإيمان بالله وحسن عبادته وشكره= هنا =
لما أظهر اللهُ علمَهُ ولطفَهُ وأنه بكلِ شيءٍ خبيرٌ،وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا غَامِضًا، دَلَّ عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مُشَاهَدٍ أَبْدَعَهُ بِلُطْفِهِ وَأَتْقَنَهُ - بقدرتِهِ- لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى مَا أَبْدَعَ لَهُمْ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُمْ، وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ لَهُمْ بَقَاءٌ فَقَالَ مُسْتَأْنِفًا"هُوَ" أَيْ وَحْدَهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ -لِتَتَوَصَّلُوا إِلَى مَا يَنْفَعُكُمْ - الأَرْضَ عَلَى سِعَتِهَا وَعِظَمِهَا وَجَزْوَنَةِ كَثِيرٍ مِنْهَا ،ذَلُولًا أَيْ مُسَخَّرَةً لَا تَمْتَنِعُ، قَابِلَةً لِلِانْقِيَادِ لِمَا تُرِيدُونَ مِنْهَا مِنْ مَشْيٍ وَإِنْبَاطِ-استخراج- مِيَاهٍ ،وَزَرْعِ حُبُوبٍ، وَغَرْسِ أَشْجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ غَايَةَ الِانْقِيَادِ، بِمَا تَفْهَمُهُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ مَعَ أَنَّ فِيهَا أَمَاكِنُ خَوَّارَةً تَسُوخُ فِيهَا الْأَرْجُلُ وَيَغُوصُ فِيهَا مَا خَالَطَهَا، وَمَوَاضِعُ مُشْتَبِكَةٌ بِالْأَشْجَارِ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ سُلُوكُهَا، وَأَمَاكِنُ- ص: 245 - مَلْأَى سِبَاعًا وَحَيَّاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ، وَأَمَاكِنَ هِيَ جِبَالٌ شَاهِقَةٌ إِمَّا يَتَعَذَّرُ سُلُوكُهَا كَجَبَلِ السَّدِّ بَيْنَنَا وَبَيْنِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ....تَزْلَقُ عَلَيْهِ الْأَرْجُلُ وَلَا تَثْبُتُ، أَوْ يُشَقُّ سُلُوكُهَا، وَمَوَاطِنُ هِيَ بُحُورٌ عَذْبَةٌ أَوْ ملحة ، فَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا كُلَّهَا كَذَلِكَ لِيَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَمَا قَسَّمَهَا إِلَى سُهُولٍ وَجِبَالٍ وَبُرُورٍ وَبُحُورٍ وَأَنْهَارٍ وَعُيُونٍ وَمِلْحٍ وَعَذْبٍ وَزَرْعٍ وَشَجَرٍ وَتُرَابٍ وَحَجَرٍ وَرِمَالٍ وَمَدَرٍ - قِطَعُ الطينِ اليابِسِ -وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَقُدْرَةٍ بَاهِرَةٍ، لِتَكُونَ قَابِلَةً لِجَمِيعِ مَا تُرِيدُونَ مِنْهَا، صَالِحَةً لِسَائِرِ مَا يَنْفَعُكُمْ فِيهَا. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور= هنا =
=ولو تأملنا وتفكرنا بنظرة أوسع وأشمل في آيات تذليل الأرض ،ما أكثر الآيات التي نمر عليها ونحن غافلون عنها وعن عظمتها ودلالاتها ومعجزاتها.قال تعالى"أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"النمل: 61.
هذه آية عظيمة للتأمل والتفكر: مَن الذي جعل الأرض قرارًا أي مكانًا يستقرون فيه؟ ومن الذي خلق هذه الأنهار، ومن الذي خلق الجبال، ومن الذي جعل البرزخ بين البحار...
فالإنسان يعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين وهو لا يشعر بأي فوضى أو عدم استقرار ولا يدرك نعمة وقيمة أن تكون الأرض مكانًا يستقر عليه ولا تضطرب حياته فيها.
نعمة الجاذبية الأرضية
حجم الأرض وكتلتها وبعدها عن الشمس وسرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس، مناسب جدًا للحياة، ولو أن حجم الأرض أو كتلتها أو بعدها عن الشمس أو سرعة دورانها كانت أكبر بقليل أو أصغر بقليل لاختلت الحياة على ظهرها.
إن الذي يتأمل موقع الأرض داخل المنظومة الشمسية يلاحظ أن الله تبارك وتعالى هيَّأ هذه الأرض لتكون صالحة للحياة، بعكس بقية الكواكب. وهذه نعمة من نعم المولى يجب أن نشكره عليها.
ولكن هناك أمر مهم جدًا لولاه لا يمكن لنا أن نستقر على هذه الأرض وهو الجاذبية الأرضية، فكوكب الأرض يمتاز بجاذبية محددة مناسبة للحياة المستقرة، ولو كانت جاذبية الأرض أقل مما هي عليه مثل القمر فإن الإنسان سيطير في الهواء عندما يبذل أي جهد، ولو كانت الجاذبية أكبر مما هي عليه مثل كوكب المشتري لالتصق الإنسان بالأرض ولم يعد قادرًا على الحركة!!!
إنها قوة سخرها الله لجميع الأجسام في الكون لتتجاذب، فالأرض تشدنا نحو مركزها، بفعل قوة جاذبيتها، ولذلك فإننا نشعر بالاستقرار على ظهرها، وبالتالي فهي قرار لنا. لو كنا على سطح القمر مثلاً فإن وزن أحدنا سدس وزنه على الأرض، أي أن الرجل الذي يزن على الأرض 90 كيلو غرام، سيكون وزنه على القمر 15 كيلو غرام فقط!
ولانشعر بنعمة الجاذبية إلا عندما نغادر الأرض! وهذا ما يشكو منه رواد الفضاء، حيث يقول العلماء الذين صعدوا إلى الفضاء الخارجي وعاشوا حالة انعدام الوزن أو انعدام الجاذبية أو انعدام الاستقرار على الأرض:وهذا أدى إلى أمراض كثيرة ، فالدورة الدموية تتأثر بالجاذبية حيث يصعد الدم للأعلى في الجسد بدلاً من الأسفل ، واضطراب الدورة الدموية ينتج عنه كثير من الأمراض -تؤثر على الكلى وضغط الدم وعضلات وعظام الجسم و....-
فنعمة الجاذبية الأرضية المعتدلة المهيأة لعيش الكائنات في استقرار من كل الوجوه من تذليل الأرض للمخلوقات.
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا :والأمر في قوله فَامْشُوا فِي مَناكِبِها للإباحة، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا: جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها..وهو مَثَل لفرط التذليل، وشدة التسخير..
ومادام الأمر كذلك فامشوا في جوانبها وأطرافها وفجاجها.. ملتمسين رزق ربكم فيها، وداوموا على ذلك،
وَلِيَكُنْ مِشْيَتُكُمْ فِيهَا وَتَصَرُّفُكُمْ بَذْلٌ وَإِخْبَاتٌ وَسُكُونٌ اسْتِصْغَارًا لِأَنْفُسِكُمْ وَشُكْرًا لِمَنْ سَخَّرَ لَكُمْ ذَلِكَ - وَاللَّهُ الْهَادِي.
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ:
وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَسَرَّهَا لِلْمَشْيِ، ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ سَهَّلَهَا لِإِخْرَاجِ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ فَقَالَ: وَكُلُوا وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ فَوْقَ الْكِفَايَةِ بِقَوْلِهِ: مِنْ رِزْقِهِ أَيِ الَّذِي أَوْدَعَهُ لَكُمْ فِيهَا وَأَمْكَنَكُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِ بِضِدِّ مَا تَعْرِفُونَ مِنْ أَحْوَالِكُمْ فَإِنَّ الدَّفْنَ فِي الْأَرْضِ مِمَّا يُفْسِدُ الْمَدْفُونَ وَيُحِيلُهُ إِلَى جَوْهَرِهَا كَمَا يَكُونُ لِمَنْ قَبَرْتُمُوهُ فِيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ تَدْفِنُونَ الْحُبَّ وَغَيْرَهُ مِمَّا يَنْفَعُكُمْ فَيُخْرِجُهُ لَكُمْ سُبْحَانَهُ عَلَى أَحْسَنِ مَا تُرِيدُونَ وَيَخْرُجُ لَكُمْ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْأَدْهَانِ وَالْمَلَابِسِ مَا تَعْلَمُونَ، وَكَذَلِكَ النُّفُوسُ هِيَ صَعْبَةٌ كَالْجِبَالِ وَإِنْ قُدْتَهَا لِلْخَيْرِ انْقَادَتْ لَكَ كَمَا قِيلَ "هِيَ النَّفْسُ مَا عَوَّدْتَهَا تَتَعَوَّدُ" .
"وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ" واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا ، إلا أن ييسره الله لكم ; ولهذا قال "وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ"
فالسعي في السبب لا ينافي التوكل
كما قال الإمام أحمد :حدثنا أبو عبد الرحمن ، قال:حدثنا حيوة ،قال: أخبرني بكر بن عمرو أنه سمع عبد الله بن هبيرة يقول : إنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : إنه سمع عمر بن الخطاب يقول : إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول"لو أنَّكم كنتُم توَكَّلونَ علَى اللهِ حقَّ توَكّله لرزقتُم كما يرزقُ الطَّيرُ تغدو خماصًا وتروحُ بطانًا" الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي-
الصفحة أو الرقم: 2344 - خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر السنية =
فأثبت لها رَوَاحًا وغُدُوًا لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسخِر المسَيِّر المُسَبِّب.
شرح الحديث:
حَثَّ الشَّرعُ على التوكُّلِ على اللهِ تعالى والأخْذِ بالأسبابِ، وأنْ يكونَ المسلِمُ مُستعينًا باللهِ تعالى معترِفًا بأنَّ الله بيدِه كلُّ شيءٍ، وأنَّه هو الَّذي يقدِّرُ الأشياءَ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "لو أنَّكم كُنتم تَوَكَّلون على اللهِ حقَّ توكُّلِه"، أي: لو حقَّقتُم معنى التَّوكُّلِ على اللهِ، واعتمَدتُم عليه بصِدقٍ، وأخَذتُم بما تيَسَّر لكم مِن أسبابٍ، وعَلِمتم أنَّ اللهَ بيَدِه العطاءُ والمنعُ، وأنَّ تَكَسُّبَكم وسعيَكم مِن أسبابِ اللهِ، وليسَت قوَّتُكم هي الرَّازِقةَ لكم، "لَرُزِقتُم"، أي: لرزَقَكم اللهُ ويسَّر لكم الأسبابَ، "كما يرزُقُ الطَّيرَ"، أي: كما يَأتي بالرِّزقِ إلى الطَّيرِ عندما "تَغدو"، أي: تذهَبُ بُكرةً في أوَّلِ نَهارِها، "خِماصًا"، أي: جِياعًا وبطونُها فارِغةٌ، "وتروحُ"، أي: وتأتي في آخِرِ النَّهارِ إلى بَياتِها "بِطانًا"، أي: وقد مُلِئَتْ بُطونُها بالطَّعامِ، وهذا نوعٌ مِن أنواعِ الأسبابِ في السَّعيِ لطلَبِ الرِّزقِ دون التَّواكُلِ والتَّكاسُلِ، والجلوسِ والزُّهدِ الكاذِبِ في الدُّنيا، لكنْ يَنبَغي على العبدِ الأخذُ بأسبابِ الرِّزقِ مع اليَقينِ في اللهِ وعدَمِ الانشغالِ بالدُّنيا عن الآخرَةِ-الدرر السنية =
"وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " أَيْ: بَعْدَ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ امْتِحَانًا، وَبُلْغَةً يَتَبَلَّغُ بِهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، تُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَتُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ، لِيُجَازِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ. = قَالَ: وَإِلَيْهِ أَيْ وَحْدَهُ النُّشُورُ وَهُوَ إِخْرَاجُ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ - الأجساد - الَّتِي أَكَلَتْهَا الْأَرْضُ وَأَفْسَدَتْهَا، يُخْرِجُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ - ص: 247 -عَلَى مَا كَانَ كُلٌّ مِنْهَا - عَلَيْهِ - عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَخْرَجَ تِلْكَ الْأَرْزَاقَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، غَيْرَ أَنَّكُمْ لَا تَتَأَمَّلُونَ - فَيَسْأَلُكُمْ - عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَيَا فَوْزَ مَنْ شَكَرَ وَيَا هَلَاكَ مَنْ كَفَرَ، فَإِنَّ هَذَا أَبْعَثُ شَيْءٍ عَلَى الشُّكْرِ، وَأَشَدُّ شَيْءٍ إِبْعَادًا عَنِ الْعِصْيَانِ لَا سِيَّمَا الْكُفْرُ، لِمَا قَرَّرَ مِنْ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، -وَ - الْإِحْسَانِ - إِلَيْهِ - بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ.
مقتبس من نظم الدرر في تناسب الآيات والسور= هنا =
فالذي خلق السماء لا تفاوت فيها ، والأرض ذلولًا قادر فإليه وحده مرجعكم، وبعثكم من قبوركم، بعد أن قضيتم على هذه الأرض، الأجل الذي قدره- سبحانه- لكم.
" وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " أي المرجع يوم القيامة إلى الله لا إلى غيره كما قال تعالى "إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ . ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ " الغاشية :25.،26.
وفي هذا دليل على أن الدنيا ليست دار قرار وبقاء ، وأن الناس فيها غير مستوطنين ولا مقيمين ، بل هم عابري سبيل يتزودون فيها للدار الباقية دار القرار .