*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)
القارئ :
قال المؤلف:
الفصل الثاني: كيفية الطلب والتلقين
كيفية الطلب ومراتبه:"من لم يتقن الأصول ، حرم الوصول" ، و "من رام العلم جملة ، ذهب عنه جملة" ، وقيل أيضاً:"ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم" . وعليه، فلا بد من التأصيل والتأسيس لكل فن تطلبه، بضبط أصله ومختصره على شيخ متقن، لا بالتحصيل الذاتي وحده، وأخذاً الطلب بالتدرج . قال الله تعالى: (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكثونزلناه تنزيلاً). وقال تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً). وقال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته)
فأمامك أمور لابد من مراعاتها في كل فن تطلبه :
حفظ مختصر فيه .
ضبطه على شيخ متقن.
عدم الاشتغال بالمطولات و تفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله.
لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب ، فهذا من باب الضجر.
اقتناص الفوائد والضوابط العلمية.
جمع النفس للطلب والترقي فيه ، والاهتمام والتحرق للتحصيل والبلوغ إلى ما فوقه حتى تفيض إلى المطولات بسابلة موثقة.
وكان من رأي ابن العربي المالكي أن لا يخلط الطالب في التعليم بين علمين ، وأن يقدم تعليم العربية والشعر والحساب ، ثم ينتقل منه إلى القرآن.
لكن تعقبه بن خلدون بأنّ العوائد لا تساعد على هذا ، وأنّ المقدم هو دراسة القرآن الكريم وحفظه ؛ لأنّ الولد ما دام في الحجر ؛ ينقاد للحكم ، فإذا تجاوز البلوغ ؛ صعب جبره.
أما الخلط في التعليم بين علمين فأكثر ؛ فهذا يختلف باختلاف المتعلمين في الفهم والنشاط.
وكان من أهل العلم من يدرس الفقه الحنبلي في "زاد المستنقع " للمبتدئين ، و "المقنع " لمن بعدهم للخلاف المذهبي ، ثم "المغني " للخلاف العالي ، ولا يسمح بالطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية… وهكذا ؛ دفعاً للتشويش.
واعلم أنّ ذكر المختصرات والمطولات التي يؤسس عليه الطلب والتلقي لدى المشايخ تختلف غالباً من قطر إلى قطر باختلاف المذاهب ، وما نشأ عليه علماء ذلك القطر من إتقان هذا المختصر والتمرس فيه دون غيره.
والحال هنا تختلف من طالب إلى آخر باختلاف القرائح و الفهوم ، وقوة الاستعداد وضعفه ، وبرودة الذهن وتقوده.
وقد كان الطلب في قطرنا بعد مرحلة الكتاتيب والأخذ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ في دروس المساجد : للمبتدئين ، ثم المتوسطين ، ثم المتمكنين:
ففي التوحيد: "ثلاثة الأصول وأدلتها " ، و "القواعد الأربع " ، ثم "كشف الشبهات " ، ثم "كتاب التوحيد " ؛ أربعتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، هذا في توحيد العبادة.
وفي توحيد الأسماء والصفات: "العقيدة الواسطيه" ، ثم "الحموية" ، و "التدمرية" ؛ ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى ، فـ "الطحاوية" مع "شرحها".
وفي النحو: "الأجرومية" ، ثم "ملحة الإعراب" للحريري ، ثم "قطر الندى" لابن هشام ، وألفية ابن مالك مع شرحها لابن عقيل.
وفي الحديث: "الأربعين" للنووي ، ثم "عمدة الأحكام" للمقدسي ، ثم "بلوغ المرام" لابن حجر ، و "المنتقى" للمجد بن تيمية ؛ رحمهم الله تعالى ، فالدخول في قراءة الأمهات الست وغيرها.
وفي المصطلح : "نخبة الفكر" لابن حجر ، ثم "ألفية العراقي" رحمه الله تعالى.
وفي الفقه مثلاً : "آداب المشي إلى الصلاة" للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ثم "زاد المستنقع" للحجاوي رحمه الله تعالى ، أو "عمدة الفقه" ، ثم "المقنع" للخلاف المذهبي ، و "المغنى" للخلاف العالي ؛ ثلاثتها لابن قدامه رحمه الله تعالى.
وفي أصول الفقه : "الورقات" للجويني رحمه الله تعالى ، ثم "روضة الناظر" لابن قدامه رحمه الله تعالى.
وفي الفرائض : "الرحبية" ، و ثم مع شروحها ، و"الفوائد الجلية".
وفي التفسير :"تفسير ابن كثير" رحمه الله تعالى.
وفي أصول التفسير :"المقدمة" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وفي السيرة النبوية :"مختصرها" للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأصلها لابن هشام ، وفيه "زاد المعاد" لابن القيم رحمه الله تعالى.
وفي لسان العرب : العناية بأشعارها ، وكـ"المعلقات السبع" ، والقراءة في "القاموس" للفيروز آبادي رحمه الله تعالى.
… وهكذا من مراحل الطلب في الفنون.
وكانوا مع ذلك يأخذون بجرد المطولات ؛ مثل "تاريخ بن جرير" ، وابن كثير ، وتفسيرهما ، ويركزون على كتب شيخ الإسلام بن تيمية ، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى ، وكتب أئمة الدعوى وفتاواهم ، لاسيما محرراتهم في الاعتقاد.
وهكذا كانت الأوقات عامرة في الطلب ، ومجالس العلم ، فبعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الضحى ، ثم تقول القيلولة قبيل صلاة الظهر ، وفي أعقاب جميع الصلوات الخمس تعقد الدروس ، وكانوا في أدب جم وتقدير بعزة نفس من الطرفين على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى ، ولذا أدركوا وصار منهم في عداد الأئمة في العلم جمع غفير ، والحمد لله رب العالمين.
فهل من عودة إلى أصالة الطلب في دراسة المختصرات المعتمدة ، لا على المذكرات ، وفي حفظها لا الاعتماد على الفهم فحسب ، حتى ضاع الطلاب فلا حفظ ولا فهم! وفي خلو التلقين من الزغل والشوائب والكدر ، سير على منهاج السلف.
والله المستعان.
وقال الحافظ عثمان بن خرزاد (م سنة 282هـ) رحمه الله تعالى : "يحتاج صاحب الحديث إلى خمس ، فإن عدمت واحدة ؛ فهي نقص ، يحتاج إلى عقل جيد ، ودين ، وضبط ، و حذاقة بالصناعة ، مع أمانة تعرف منه".
قلت : - أي الذهبي-:
"الأمانة جزء من الدين ، والضبط داخل في الحذق ، فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون : تقياً ، ذكياً ، نحوياً ، لغوياً ، زكياً ، حيياً ، سلفياً يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد ، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمس مائة مجلد ، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات بنية خالصة ، وتواضع ، وإلا فلا يتعن " هـ.
الشيخ :
بعدما ذكر المؤلف رحمه الله آداب طالب العلم في نفسه انتقل إلى الآداب المتعلقة بكيفية الطلب و التلقي ، وأول هذه الآداب أن يحرص على التدرج في التعلم ، بحيث يأخذ كل أناس ما يناسبهم وينبغي أن يكون هذا بأمور :
أولها : الارتباط بعالم ناصح سالم مثبت بحيث إذا ارتبط الإنسان بالعالم استفاد من سمته وهديه ، وكذلك برّزّه في العلم وانتقى له من الكتب ما يناسبه ويكون صالحا لحاله ، وأضرب لهذا مثلا : سألني بعض الطلاب هنا أن أشرح لهم مختصر التحرير ، مختصر التحرير كتاب قويم وصعب وفيه مباحث دقيقة ومبنية على أصول عقدية ، وقد لا يستوعبها هؤلاء ثم قد يضيق الوقت عندهم ، فيأخذون ربع الكتاب أو نصف الكتاب ثم لا يتمكنون من إكماله و إتمامه فيكون عندهم في نفوسهم نوع من التنقص لعدم إكمالهم للكتاب ، ولذلك اخترنا لهم أن يكون لنا دورة علمية في كل أسبوع منها نأخذ متنا علميا ، و يكون ذلك سببا من أسباب التحصيل وإكمال مهمات هذه الكتب وإدراك الأهداف التي سعى إليها مؤلفو هذه المتون .
الأمر الثالث : مما يتعلق بهذا التدرج في التعلم بحيث يبتدئ الإنسان بالنقطة الأولى ، و يبتدئ بالمتن الأقل ليضبطه ويتقنه ويكون بمثابة الأساس الذي يؤسَس عليه البنيان ، و أما إذا أتى ليبني سقف المنزل وهو لم يبن أساسه بعد فإنه لن يتمكن من بنائه ولو وضع سقفه فهو عما قريب سيسقط ، و هذا من أكبر المسائل التي نعنى بها في عصرنا ، تجد بعضهم ينتقل إلى المطولات فيكون سببا لتخليطه في المسائل و إدخال المسائل بعضها بـبعض ، كما أدركنا من أناس رغبوا في الخير فأخذوا كتاب المغني فبدؤوا يقرؤون يقولون نريد الكتاب الشامل المحتوي على العلم كله ، فلما ابتدءوا بقراءته فإذا في أوله مسائل عديدة متعلقة بالمياه لا يفهمونها ولا يدركون مصطلحات أهل العلم فيها فكان ذلك سببا لتركهم التعلم بالكلية ، ويحضرني في هذا: بعض الفقهاء الذين ذكروا أنهم كانوا يدرسون مختصر الخرقي فلما طلبوا من شيخهم أن ينتقل بهم إلى كتاب آخر ، قال : هذا الكتاب قد ضبطته وعرفت ما فيه فأدرسكم إياه ومن أراد غيره فلينتقل لغيري ، ثم قال : أنت يا فلان و فلان لا تنتقلا عن هذا الكتاب حتى تضبطاه ، ولذلك لا بد من التدرج في التعلم .
الأمر الرابع : معرفة المصطلحات العلمية في الكتب التي يريد الإنسان قراءتها بحيث كلما مر عنده لفظ عرف معناه ، و عرف مراد أهل العلم به ، بحيث لا يُنَزِّل كلام أهل العلم على غير مرادهم ، فإنك إذا لم تفهم هذه المصطلحات فحينئذ ستفهم فهما خاطئا مغلوطا ، وأضرب لهذا مثلا : جاءني إنسان ووجدني أقرأ كتاب الرد على المنطقيين ، كانت هيأته حسنة و أعرف عنه رغبة في العلم وطلب مني استعارة هذا الكتاب فأعرته له ، بعد أسبوع أعاد لي الكتاب وقال : كتاب قيم فيه فوائد كثيرة ، لكن هذا الكتاب اشتمل على كلمة لا أعرف ما مدخلها في الكتاب ، ما هي هذه الكلمة ؟ ، قال : كلمة الحد . قال فما مدخل العقوبات في المناطقة ؟ فقلت : لقد أتعبت نفسك بقراءة هذا الكتاب ، المراد بالحد التعريف ، والمؤلف في الرد على المنطقيين يرد على المناطقة طريقتهم في التعريفات التي هي الحدود ، فعندما يفهم أنّ المراد هو الحد الذي يقصد به العقوبة المقدرة حينئذ يكون قد فهم الكتاب على غير مراد صاحبه.
الأمر الآخر هو الحرص على الحفظ وأول ما يحفظ النصوص الشرعية الكتاب والسنة ، فإنّ الإنسان إذا لم يحفظ هذه الأصول فإنه حينئذ لا ينطلق في تعليمه ، ولا في دعوته ، ولا في علمه من منطلقات صحيحة ، لأنّ منطلقات العلم هي النصوص كتابا وسنة من عرفها تمكن من تأسيس علم صحيح ، ومن لم يعرفها فإنه حينئذ سيعرف شيئا من المعلومات ، وبالتالي لا يكون قد وصل إلى مقصود الشرع ومراده.
الأمر الآخر الذي يتعلق بهذا وهو أن يحرص الإنسان على اختيار الكتب والمؤلفات التي يعرفها الناس في بلده ويكون لها مكانة في ذلك البلد ، من أجل أن يتمكن من ضبطها ، ومن أجل أن يكون ذلك سبيلا لنشرها في الأمة ، ومن أجل اجتماع الناس من خلال تعلمهم في كتب متقاربة ، وأما إذا درسنا كتبا لا يعرفها الناس وجعلناها هي الأساس الذي ننطلق منه في التعلم ، حينئذ نكون قد نفرنا بقية طلبة العلم ولم نكن وإياهم على وفاق.
أيضا من الأمور المتعلقة بهذا عدم الملل في التعلم وقد أشرنا إلى هذا فيما سبق ، فإنّ الإنسان إذا كان كلما قرأ كتابا وانتصف فيه ملّ منه وانتقل إلى كتاب آخر لم يتمكن من ضبط العلم.
كذلك من الأمور التي ينبغي أن تعرف هو عدم الخلط بين العلوم ، وليس المراد به ألا يتعلم الإنسان علمين في زمن واحد في سنة واحدة أو في يوم واحد ، وإنما المراد به ألا يدخل بعضها في بعض في وقت واحد ، لأنّ مصطلحات أهل الفنون تختلف ومراد كل طائفة يغاير مراد الطائفة الأخرى.
كذلك من الأمور التي ينبغي أن تكون عند طالب العلم ألا يدخل في الخلاف حتى يتقن أساس ذلك الفن الذي يدرسه ، لأنك إذا دخلت في الأقوال وفي الأدلة وأنت لم تحط بالمراد بهذه المسائل ، فحينئذ ستُنزِّل كلامهم على غير مرادهم ، ولن تتمكن من فهم هذه المسألة .
كذلك ينبغي أن يعلم بأنّ التعلم في كتاب لا يعني العمل به فطالب العلم يتعلم ما في هذا الكتاب ، لكنه عند العمل يسأل فقهاء عصره إن لم يكن مجتهدا ، و إن خالف ما في الإجتهاد والفتوى ما في ذلك الكتاب فإنه يسأل عن سبب المخالفة حتى يحيط بالقولين ويعرف مستند كل منهما ، هذا شيء مما يتعلق بكيفية الطلب والتلقي ومراتبه.
قال المؤلف : (من لم يتقن الأصول حرم الوصول) المراد بالأصول هنا القواعد والأسس التي يتعلم الإنسان بناء عليها ، (حرم الوصول) مراد أهل العلم أنّ من لم يعرف قواعد التعلم ومراتبه فإنه لن يتمكن من الوصول لتحصيل العلم ، (من رام العلم جملة ذهب عنه جملة) فمن أراد أن يحصل العلم كله في وقت واحد فإنه حينئذ سيذهب منه سريعا ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يُقَعِّد القواعد ثم بعد ذلك يبني عليها فروع العلم.
قال : (ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم) فإنّ السمع كلما كان مصغيا لأنواع التعلم مبتدءا بالأقل فالأكثر فإنه حينئذ سيفهم وسينتقل من حال الجهل إلى حال العلم.
قال المؤلف : (فلا بد من التأصيل والتأسيس) (التأصيل) معرفة الأصول وهي القواعد التي ينبني عليها التعلم ، (والتأسيس) يعني معرفة الأسس التي يبنى عليها العلم، فالتأصيل معرفة قواعد التعلم هذا المراد به هنا ، والتأسيس معرفة الأسس والقواعد التي يبنى عليها العلم ، (وذلك بضبط أصل العلم وبدراسة مختصر على شيخ متقن لا بالتحصيل الذاتي وحده) وجدنا من حاول أن يحصل العلوم بنفسه بدون الاستناد إلى شيخ وجدنا منهم أمورا كثيرة منها :
أولا : الخطأ في نطق الكلمات فتجدهم لا يضبطون تشكيل الكلمة ضبطا صحيحا ، وذلك لأنهم أخذوا الكتاب فقرءوا منه فظنوا أنّ ما نطقوه هو الصحيح لأنّ الكتب في الغالب غير مشكلة ، إذا قرأ قال : (مُنَ) مناخ من سبق، وهي (مِنَ) ، إذا قرأ قال : (أَسِيد) وهو (أُسَيد بن حضير) ، إذا قرء (عتاب بن أُسَيد) وهو (بن أَسِيد) وهكذا ، لماذا ؟ ، لأنه اعتمد على ما في هذه الكتب ولم يكن لديه شيخ يأخذ منه طريقة نطق هذه الكلمات.
الأمر الثاني : أن من لم يتعلم على شيخ ، أدخل المسائل بعضها في بعض ، وقد مثلنا له فيما مضى بمن قرأ مسألة من سبقه الحدث في الصلاة ، فحينئذ يقول الفقهاء : يستخلف من وراءه فيقدمون إماما يصلي بهم ، بينما في مسألة من تذكر الحدث في أثناء الصلاة قالوا : تبطل صلاته وتبطل صلاة من خلفه هكذا قال الفقهاء ، فيأتي إنسان فيظن أنّ هذه المسألة هي تلك المسألة فينسب إلى هؤلاء الفقهاء ما لم يقولوه.
وكذلك من الأمور التي تنبني على تعلم الإنسان بنفسه بدون مراجعة شيخ متقن ، أنّ فهم الكلمات والمصطلحات لا يعرف إلا من خلال هؤلاء العلماء الذين يتعلم الإنسان عليهم ، وقد مثلت لكم بأمثلة مصطلح واحد يختلف من باب إلى باب ، وهناك مصطلحات تختلف من عالم إلى عالم ، وهناك مصطلحات تختلف من فن إلى فن ، وهناك مصطلحات تختلف من مذهب إلى مذهب ، مثال هذا : إذا قال إنسان أو فقيه : الكفالة جائزة ، ما المراد بالكفالة ؟ إن كان حنبليا فهو يريد الالتزام بإحضار بدن من عليه حق هذه الكفالة ، وإن لم يكن حنبليا فهو يريد الالتزام بدفع ما في ذمة الآخرين الذي يسميه الحنابلة الضمان ، إذن من أين اختلف المصطلح ؟ باختلاف المذهب ، و قد يكون باختلاف الأبواب ، فكلمة الضمان يراد بها مرة ضم ذمة إلى ذمة ، ومرة يراد بها دفع التعويض ، والكل في كتاب واحد كيف يعرف الإنسان التفريق بينهما ؟ بكونه يتعلم على معلم يدله على مراد أهل العلم بذلك.
الفائدة الرابعة : معرفة الصحيح من الضعيف ، عندما يأتي الإنسان ويقرأ الكتب يكون كحاطب لا يميز بين صحيحها وضعيفها ، و عندما يراجع العلماء المتقنين يدله على الصحيح من الضعيف ، بل يُوجِد لديه قدرة ومَلَكة يتمكن بواسطتها من التمييز بين الصحيح والضعيف ، ولذلك في عصرنا الحاضر وجدنا من لم يطلب العلم على العلماء يقومون بتسجيل أشرطة ثم يكون في هذه الأشرطة من الصواب الشيء الكثير ، عند النطق بالكلمات لا ينطقونها بنطق صحيح ، وعند الروايات لا يفرقون بين الرواية الصحيحة والرواية الضعيفة ، ثم لا يتمكنون من ربط المسائل بعضها ببعض ، أو ربط الحوادث بعضها ببعض لأنهم ليس لديهم دراسة سابقة مبنية على تحصيل عند عالم متقن ، إذا تقرر هذا فإنه لا بد أن يختار الإنسان العالم المتقن ، أما من انتسب إلى العلم ولم يكن متقنا له ، فحينئذ قد يوقعه في أشياء كثيرة مخالفة للصواب والحق ، ومما يتعلق بهذا أن تختار في كل فن من يتقنه ، حتى تكون بذلك قد حصلت الإتقان في ذلك الفن ، وقد يوجد علماء يتقنون فنونا عديدة فمثل هؤلاء هم الذين يحرص على اقتناصهم واقتناص التعلم منهم ، وذلك لأنّ العلوم الشرعية يرتبط بعضها ببعض ، فعندما تأتي بشخص عارف في الفقه ومتقن لكلام أهل العلم فيه ، لكنه لا يعرف قواعد الأصول ، أولا يعرف مباحث المعتقد يكون درسك معه مقطوعا ، لأنّ مسائل الفقه مرتبطة بالأصول وهناك مسائل فقهية عديدة فيها جوانب عقدية . ذكر المؤلف عددا من الأدلة الدالة على مشروعية التدرج في طلب العلم منها قوله تعالى "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا" كثير من أهل العلم يفرق بين أَنْزل ونزّل؛ لأن نزّل يراد بها التنزيل المفرق ، و أما أنزل فيحتمل أنها تكون كذا و أن تكون كذا ، و هذا إنما يكون عند المقارنة بين اللفظين ، ثم جاء بقوله تعالى "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً" هنا لم يؤت في مقابلة أُنزل ، أو قيِّد بقوله : جملة واحدة ، "كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ" هذه هي الفائدة الأولى أن يثبت العلم في قلب المتعلم "وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا" ، وقال "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ"
ذكر المؤلف عددا من الوسائل في التعلم :
أولها "حفظ مختصر في العلم" ، فإنه يُبقي ذلك العلم في القلب.
وثانيها : (ضبط العلم بضبط مصطلحاته) ، وضبط ألفاظه ومعانيها وضبط أساليبه و ضبط أبوابه ، والمراد بالضبط الحفظ التام ، و الضبط يكون للعلم ويكون لكتبه ، فيضبط ما أُلِّف فيه من المؤلفات ، ويضبط أيضا مواطن بحث المسائل التي تبحث؛ أين يبحثها أهل العلم ؟ ، لأنّ كثيرا من المسائل تبحث في غير مظانها، يبحث عنها الإنسان في شيء وهي في باب آخر ، مثال هذا : حديث (أنّ النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن وصل الصلاة بصلاة حتى ينتقل أو يتكلم ) هذا رواه الإمام مسلم ، أين موطنه وأين يُبْحث ؟
(الجواب من الطلبة والشيخ يعيد جوابهم : من كتاب الصلاة)
الشيخ : من أين من كتاب الصلاة ؟
جواب الطلبة: أوقات الصلاة ، صفة الصلاة ، التطوع في الصلوات ، مكروهات الصلاة
الشيخ:كل هذه المباحث يبحثها
طالب آخر: في باب الصيام
الشيخ : غلط،
بحثه في آخر باب صلاة الجمعة ، لابد أن نعرف مواطن بحث المسائل ، عندك مسائل متعلقة بالمسابقات ، أين تُبحث ؟ بعض أهل العلم يبحثها في كتاب القضاء في باب الشهادات ، وبعض أهل العلم يبحثها في كتاب الجهاد ، وبعض أهل العلم يبحثها في كتاب المعاملات بعد أنواع الإيجارات إلى غير ذلك من طرائق أهل العلم ، فعندما يتعلم الإنسان العلم على شيخ وعلى فن معين و على مذهب معين يعرف أين بحث هذه المسائل.
كذلك لا ينتقل الإنسان إلى الكتاب المطول حتى يضبط المتون الأولى في ذلك العلم ، ولا يترك مختصر وهو لم يكمله إلى مختصر آخر ، وكذلك ينبغي بنا أن نقتنص الفوائد كلما وجدنا فائدة علمية وضابطا حرصنا على تقييده ليبقى في الذهن ، ويكون ذلك سببا من أسباب اندفاع الإنسان لهذا العلم ، كذلك الحرص على جعل النفس تلتفت إلى التعلم ولا تلتفت إلى غيره ، بحيث يجمع العبد نفسه في الطلب وفي الترقي من درجة إلى درجة ويكون في نفسه حُرقة ورغبة شديدة في التعلم "والبلوغ إلى ما فوقه حتى تفيض إلى المطولات بسابلة موثقة" تفيض: من المياه إذا فاض الماء بحيث امتلأ المكان الأول فانتقل بعضه إلى مكان آخر، هذا إفاضة الماء فاض الماء ، فهو يفيض من المختصرات إلى المطولات بسابلة ، ما هي السابلة ؟ السحاب القوي الذي فيه مطر كثير ، موثقة بحيث يكون متوثقا من علمه .
ذكر المؤلف خلافا بين ابن العربي المالكي و بين ابن خلدون وفيما يتدرج فيه من التعلم ، فابن العربي يرى تقديم العربية والشعر والحساب ثم ينتقل إلى القرآن ، وابن خلدون يرى أنّ المقدم هم القرآن وحفظه ، وعلى كل معرفة العربية كان الناس يحرصون عليها ، وذلك لأنّ الصبي في أول تكلمه إذا عُلِّم العربية نطقا وأسلوبا لتكون العربية سليقة له فهذا يكون أول ما يتعلمه الإنسان ، وأما تعلم العربية كقواعد وتعلم أنواع علوم العربية الخادمة لهذا فيكون بعد إتقان القرآن ، لأنّ تعلم القرآن وحفظه يعين على معرفة العربية ومعرفة العربية تعين على فهم القرآن ، فهو يبتدئ أولا بحفظ القرآن ثم يتعلم العربية فينطلق من العربية إلى فهم القرآن.
ذكر المؤلف التدرج في التعلم ، وذكر أنه كان من شأن أهل العلم ألا يخلطوا بين المتعلمين فيكون لطائفة التعلم في أول الفنون والمتون في العلم ثم بعد ذلك من أتقنه انتقل إلى المرحلة الأخرى ، فأما إذا خلط الطلاب بعضهم مع بعض فإنه يؤدي إلى خلط و خبط ، ذلك أنّ المبتدئ يسأل سؤالا يناسب حاله ، فيضجر منه من هو أعلى درجة منه ويمل من طلب العلم في ذلك المجلس ، وإذا سأل المتمكن والمتوسط سؤالا قد لا يفهمه المبتدئ فيكون ذلك سببًا لخلط العلوم في ذهنه وإدخال بعضها في بعض ، ولذلك كان من الشأن تقسيم طلبة العلم بحسب درجاتهم ، أما بالنسبة لاختيار المتون كما تقدم فيختلف من بلد إلى بلد ، ومن أهل مذهب إلى أهل مذهب ، فحينئذ فيختار الشيخ لطلابه ما يناسبهم من المتون ويتوافق مع أحوالهم
قال المؤلف أيضًا : الطلاب يختلفون من حيث جودة الفهم ، ومن حيث ما لديهم من صفات تؤهلهم لحفظ العلم ، وما لديهم من رغبة في التعلم ، وما لديهم من قوة الذهن وضعفه ، ولذلك فينتقى لكل مجموعة ما يناسبهم من الكتب.