" وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"53.
" وَإِذْ "اسم للوقت الماضي . و " وَإِذْ"اسم للوقت المستقبل
"آتَيْنَا" أعطينا .
الله سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل هنا، أنه بعد أن أراهم من المعجزات الكثير. ونجاهم من آل فرعون وشق لهم البحر كان لابد أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا لا يشوبه أي نوع من التردد، ذلك لأنهم رأوا وشهدوا.. وكانت شهادتهم عين يقين. أي شهدوا بأعينهم ماذا حدث.
ولكن هل استطاعت هذه المشاهدة أن تمحو من قلوبهم النفاق والكفر؟. لا، لقد ظلوا معاندين طوال تاريخهم. لم يأخذوا أي شيء بسهولة.فذكرهم بمزيد نعمه عليهم لعلهم يهتدوا.
أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى، ولكنهم لم يصبروا ،فقبل استكمال الميعاد –الأربعون ليلة- عبدوا العجل من بعد ذهاب موسى للقاء ربه وقبل رجوعه لهم بالتوراة.
" الْكِتَابَ" يعني التوراة. "وَالْفُرْقَانَ" وهو ما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال. قال الكسائي"الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة، يعني: الكتاب المفرق بين الحلال والحرام"
" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" وكأنه قال: واذكروا أيضًا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها.
" وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"54.
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختم الآية بذكر العفو عنهم.
"إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ "لا يقع الظلم على الله سبحانه وتعالى ولكن عليهم. لماذا؟.. لأنهم آمنوا بالله أو لم يؤمنوا. سيظل هو الله القوي القادر العزيز. لن يُنْقِصَ إِيمانُ أحدٍ أو عدم إيمانه من مُلك الله شيئا. ثم يأتوا يوم القيامة فيعذبهم. فكأن الظلم وقع عليهم.
" فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ "
" فَتُوبُوا " التوبة هي أصل المغفرة، وقد كان من الممكن أن يأخذهم الله بهذا الذنب ويهلكهم كما حدث للأمم السابقة.. أما وقد شرع الله لهم أن يتوبوا. فهذا فضل من الله وعفو.
"إِلَى بَارِئِكُمْ" أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم- إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوانات وهو البقر.
" فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" يعني ليقتل البريء منكم المجرم. لما عبد قوم موسى العجل وسُقِطَ في أيديهم- أي ندموا على عبادة العجل ، تقول العرب لكل نادم على أمر : قد سُقِطَ في يديه ،- ورأوا أنهم قد ضلوا ، وأرادوا التوبة ، قالوا " لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " سورة الأعراف/149، فجعل الله لهم امتحانا شديدًا لقبول توبتهم ، وذلك بأن يقتلوا أنفسهم ، فيُغِير بعضهم على بعض ، ويتقاتلوا بينهم حتى يأتي أمر الله بالكفّ. جاء في تفسير ابن كثير :
" قال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة" ...الإسلام سؤال وجواب
.كونه يقدم نفسه ليُقتل فهذا اعتراف منه بأن العجل الذي كان يعبده باطل.. وهو بذلك يعيد نفسه التي تمردت على منهج الله إلى العبادة الصحيحة.. وهذا أقسى أنواع الكَفَّارة.. وهو أن يقتل نفسه إثباتا لإيمانه.. بأنه لا إله إلا الله وندمًا على ما فعل وإعلانًا لذلك.. فكأن القتل هنا شهادة صادقة للعودة إلى الإيمان.
" ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ "
أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب.
" فَتَابَ عَلَيْكُمْ" أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم.
" إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، فالتواب في حق الله تعالى هو الذي يتوب على عبده، أي يعود عليه بألطافه، ويوفقه إلى التوبة، وييسرها له، ثم يقبلها منه.
وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى"وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"التوبة: 118، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم.
وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولو لا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام.
"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ "55.
و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا موسى، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قال تعالى" وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُالْغَافِرِينَ"الأعراف:155.
بعد أن تاب الله على قوم موسى بعد عبادتهم للعجل ، عادوا مرة أخرى إلى عنادهم وماديتهم. فهم كانوا يريدون إلها ماديا.. إلها يرونه ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار.
فقفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرًا وطغيانًا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله جهرًا وأصل الجهر الظهور ،أي عِيانًا حتى يؤمنوا به، أي رؤية واضحة يدركونها بحواسهم. فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين. أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت.
"ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" 56.
أولئك الذين أصابتهم الصاعقة من قومه.. فقد ماتوا ثم بعثوا لعلهم يشكرون.
"وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"57.
ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
إذ كنتم في الصحراء وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية.. وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء.. فظلل الله سبحانه وتعالى عليكم بالغمام.. أي جاء الغمام رحمة من الله سبحانه وتعالى.. ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى.
والمن نقط حمراء تتجمع على أوراق الشجر بين الفجر وطلوع الشمس.. وهي موجودة حتى الآن في العراق.. وفي الصباح الباكر يأتي الناس بالملاءات البيضاء ويفرشونها تحت الشجر.. ثم يهزون الشجر بعنف فتسقط القطرات الموجودة على ورق الشجر فوق الملاءات.. فيجمعونها وتصبح من أشهى أنواع الحلويات. فيها طعم القشدة وحلاوة عسل النحل.. وهي نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله سبحانه وتعالى جعله بالنسبة لهم وقود حياتِهم.. وهم في الصحراء يعطيهم الطاقة.
أما السلوى فهي طير من السماء ويقال أنه السمان.. يأتيهم في جماعات كبيرة لا يعرفون مصدرها.. ويبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه.
فالله تبارك وتعالى قد رزقهم بهذا الرزق الطيب من غمام يقيهم حرارة الشمس، ومَنّ يعطيهم وقود الحركة. وسَلْوَى كغذاء لهم، وكل هذا يأتيهم من السماء دونما تعب منهم.
" كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " أمر إباحة وإرشاد وامتنان. أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.
"وَمَا ظَلَمُونَا" يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين، "وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" فيعود ضرره عليهم.أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابي وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة.
وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يأمر الله به عبادَه فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم.
" وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"58.
أمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب " سُجَّدًا"أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا" حِطَّةٌ "أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.
أي : ادخلوا بابَ القريةِ؛ والقريةُ قيل: هي بيتُ الْمَقْدِسِ، وقيل غيرُ ذلك، مُنْحَنِينَ كهيئةِ مَن يريدُ السُّجودَ؛ خُضوعًا للهِ تعالى وشكرًا. وقيل: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم.
"نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ"بسؤالكم المغفرة.
"وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"بأعمالهم, أي: جزاءً عاجلًا وآجلا. يغفر خطايا من هو عاص ، وسيزيد في إحسان من هو محسن ولم يعص الل
" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"59.
"قيلَ لِبَنِي إسْرائِيلَ"ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولوا حِطَّةٌ"البقرة: 58. فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا، وقالوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ في شَعَرَةٍ"الراوي : أبو هريرة /صحيح البخاري.
فَبدَّل هؤلاءِ اليهودُ الظَّالِمون ما أُمِروا به، ودخَلوا يَزحَفُونَ على مؤَخِّراتِهم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعرَةٍ، وهذا كلامٌ مُهمَلٌ لا معْنى له، وغرَضُهم فيه مُخالَفةُ ما أُمِروا به مِنَ الكلامِ المستلزِمِ لِلاستِغفارِ وطلَبِ حِطَّةِ العُقوبةِ عنهم، فلمَّا عَصَوْا، عاقَبَهمُ اللهُ بالرِّجْزِ؛ وهو العذابُ الأليمُ. وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِن اتِّباعِ سُنَّةِ بَني إسرائيلَ في مُخالَفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والخروجِ عن طاعتِه.
لم يعين الكتاب هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلّط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون: أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينِهم.
"وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"60.
ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته.
"وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ" أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة.
"فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ "إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس، " فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًاوقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة،قيل كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها،، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب. "قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ"منهم "مَشْرَبَهُمْ"أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال"كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ"أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، " وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" والعثي: أَشَدُّ الْفَسَادِ، أي ولا تنشروا فسادَكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه.
" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"61.
وإذ قال أسلافُكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدًا هو المنّ والسلوى. أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها.
"لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ"وهو المنُّ والسلوى. أي: جنس من الطعام, وإن كان أنواعًا, لكنها لا تتغير.
"فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا"أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، " وَقِثَّائِهَا"وهو الخيار "وَفُومِهَا"أي: ثومها، والعدس والبصل معروف.
" أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ "فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العَيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .
" اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا مصرَ من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقضِ عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممِهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم.
"وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستخذي ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه.
"وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ" أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
"ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ" أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون.
"وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ" ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، فهم قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق: أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك.
وفي قوله: بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون بحق أبدًا ، فلا يوجد حق يسوغ قتل نبي ، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم. فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنهم أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟
فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعًا.
"ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ" أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه.