عرض مشاركة واحدة
  #53  
قديم 02-19-2024, 12:17 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,266
Exclamation


من آية 284 إلى آية286.
"لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 284.
"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"285.
"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"286.
لما ضمَّن الله تعالى هذه السُّورة أكثرَ عِلم الأصول والفروع من: دلائل التَّوحيد، والنُّبوة، والمعاد، والصَّلاة، والزَّكاة، والقِصاص، والصَّوم، والحجِّ، والجهاد، والحيض، والطَّلاق، والعِدَّة، والخُلْع، والإيلاء، والرَّضاعة، والرِّبا، والبيع، وكيفيَّة المُداينة، ناسَب تكليفه إيَّانا بهذه الشرائع أن يذكُر أنَّه تعالى مالكٌ لِمَا في السَّموات وما في الأرض؛ فهو يُلزِم مَن شاء من مملوكاته بما شاء من تعبُّداته وتكليفاته، ولَمَّا كان محل اعتقاد هذه التكاليف هو الأنفُس، وما تنطوي عليه من النيَّات، وثواب مُلتزِمها وعقاب تارِكها إنما يَظهَر في الدَّار الآخرة- نبَّه على صفة العلم التي بها تقَعُ المحاسبةُ في الدَّار الآخرة فقال سبحانه:
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ : أي: إنَّ لله تعالى وحده ما في السَّموات والأرض وما بَينهما، خَلْقًا ومُلْكًا وتدبيرًا، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكًا له وعبيدًا، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه،وما دام الأمر كذلك فعليكم- أيها المؤمنون- أن تبذلوا أقصى جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين، فأنفقوا من هذا المال- الذي هو أمانة بين أيديكم- في وجوه الخير واجمعوه من طريق حلال، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم.
وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ: بيان لشمول علم الله-تبارك وتعالى- لما أظهره الإنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر.
فهو المُطَّلِع على مَنْ فيهما، لا يَخفى عليه شيء مُطلَقًا، وسيُطْلِعهم على وجه المحاسبة على إظهارِ ما انطوت عليه نفوسُهم، أو إضماره، ممَّا استقرَّ فيها وثبَت، من الكُفْر والنِّفاق، أو من الأوصاف السيِّئة التي تتَّصِف بها، أو من العزائم المصمِّمة على ارتكاب معصية .
والجملة الكريمة صريحة في أن الله-تبارك وتعالى- يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه.
وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يعزم عليه الإنسان وينويه ويصر على فعله، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته: كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها.
أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس، وتعرض للإنسان دون أن يعزم على تنفيذها، فإنها ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلا للثواب.
عن عبد لله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحِدَةً."صحيح البخاري.
اللهُ عَزَّ وجَلَّ واسِعُ الرَّحمةِ، جَزيلُ العَطاءِ، ومُعاملتُه لعِبادِه دائرةٌ بيْن العَدلِ والفَضلِ.
وفي هذا الحديثِ بَيانٌ لِكَرَمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مع العِبادِ في كِتابةِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ؛ فيَروي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحديثِ القُدسيِّ الذي يَرْويه عن ربِّه عزَّ وجلَّ: أنَّ اللهَ أمَرَ المَلائِكةَ الحفَظةَ بكِتابةِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ للعبْدِ؛ ليُجازيَه بِهما في الدَّارِ الآخرةِ، أو أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدَّرَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ قَديمًا وَفْقَ عِلْمِه سُبحانَه، ثمَّ بيَّن للمَلَكينِ كيْف يَكتُبانِها،"فمَن هَمَّ بحَسَنةٍ" والهَمُّ هو النيَّةُ وعَقدُ العَزمِ، والمعنى: فمَن نَوَى حَسَنةً وأراد أنْ يَفعَلَها، ولكنَّه لم يَفعَلْها لمانعٍ، أو لغيرِ مانعٍ، كَتَبها اللهُ عِنده حَسَنةً كاملةً غيْرَ مَنقوصةٍ، واطِّلاعُ المَلَكِ على النيَّةِ التي هي مِن فِعلِ القَلبِ يَكونُ بإطْلاعِ اللهِ تَعالى إيَّاه، فإذا همَّ العَبدُ بالحَسَنةِ فعَمِلها، كَتَبها اللهُ عزَّ وجلَّ وضاعفَها مِن عَشْرِ حَسَناتٍ، إلى سَبعِ مِائةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كَثيرةٍ، كما قال تعالى"مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"البقرة: 261؛ وذلك بحسَبِ الإخلاصِ وصِدقِ العَزمِ، وحُضورِ القَلبِ، وتَعدِّي النَّفعِ. ومِن نَوى عَمَلَ سيِّئةٍ فلمْ يَعمَلْها -خوْفًا مِن اللهِ وحَياءً منه- كَتَبها اللهُ عِنده حَسنةً كاملةً؛ لا يَنقُصُ مِن ثَوابِها شَيءٌ، فإنْ همَّ بها فعَمِلها، كَتَبها اللهُ عليه سيِّئةً واحدةً دونَ زِيادةٍ أو مُضاعَفةٍ كما في الحَسَناتِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ سَعةِ فضْلِ اللهِ على هذه الأمَّةِ؛ إذ لوْلا ذلك كاد لا يَدخُلُ أحدٌ الجنَّةَ؛ لأنَّ عَمَلَ العبادِ للسَّيِّئاتِ أكثرُ مِن عَملِهم للحَسَناتِ.الدرر السنية.
أنواع الهم: هم خطرات وهم عزم وإصرار.ونمثل له بالآتي:
" وَلَقَد هَمَّت بِهِوَهَمَّ بِهَا لَولَاۤ أَن رَّءَا بُرهَـنَ رَبِّهِكَذَلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلفَحشَاۤءَ إِنَّهُۥ مِن عِبَادِنَا ٱلمُخلَصِینَ" يوسف:24.
همُّ يوسفَ كان همَّ خطرات فتركه لله فأثابه الله عليه ، وهم امرأة العزيز كان هم إصرار بذلت معه جهدها فلم تصل إليه فلم يستو الهمّان.
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الهم همان همُّ خطرات وهمُّ إصرار، فهم الخطرات لا يؤاخذ به وهم الإصرار يؤاخذ به. تفسير ابن القيم .

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال "لَمَّا نَزَلَتْ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ "لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأَرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ به اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللَّهُ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ"البقرة: 284، قالَ: فاشْتَدَّ ذلكَ علَى أصْحابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فأتَوْا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا علَى الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ، الصَّلاةَ والصِّيامَ والْجِهادَ والصَّدَقَةَ، وقدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِه الآيَةُ ولا نُطِيقُها، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولوا كما قالَ أهْلُ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِكُمْ سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بَلْ قُولوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ، قالوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَها القَوْمُ، ذَلَّتْ بها ألْسِنَتُهُمْ، فأنْزَلَ اللَّهُ في إثْرِها"آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ"البقرة: 285، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالَى، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها لها ما كَسَبَتْ وعليها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا"البقرة: 286،قالَ: نَعَمْ "رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عليْنا إصْرًا كما حَمَلْتَهُ علَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا" قالَ: نَعَمْ "رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بهِ" قالَ: نَعَمْ "واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا علَى القَوْمِ الكافِرِينَ" قالَ: نَعَمْ.صحيح مسلم.
وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ به اللَّهُ: :قالوا : ولا نُطيقُها؛ لاعتقادِهم أنَّهم مُؤاخَذون بما لا قُدرةَ لهُم على دَفعِه مِنَ الخواطرِ الَّتي لا تُكتسَبُ. فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ :أي: فيغفر بعد المحاسبة، لِمَن أتى بأسباب المغفرة فضلًا منه، ويُعاقِب مَن يكفُر به، أو يُصِرُّ على المعاصي، في باطنه أو ظاهره عدلًا منه، فالله تعالى لا يُعجِزه شيءٌ، ومن تَمام قُدْرته محاسبةُ الخلائق، وإيصالُ ما يَستحِقُّونه من الثواب والعقاب .
ولا نُطيقُها؛ ولم يَرضَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا مِنهم، وخَشيَ أن يَفتحَ عليهم بابَ الرِّضا ببعضِ الأحكامِ وعدمِ الرِّضا بالبعضِ الآخَرِ، فقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتُريدون أن تَقُولوا كما قالَ أهلُ الكتابَينِ منَ اليهودِ والنَّصارى من قَبلِكم حينَ قالوا بشأنِ تكاليفِهم "سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا"البقرة: 93، النساء: 46، فالأفضلُ لكم ألَّا تَقُولوا: شقَّ علينا كذا، بل قُولوا"سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُاقْتَرَأَها القَوْمُ، ذَلَّتْ بها ألْسِنَتُهُمْ " - ذَلَّتْ بها ألْسِنَتُهُمْ : أي لانت لها نفوسهم وألسنتهم-، فلمَّا تَكلَّمَ بها المُسلِمون وانقادَت بالاستسلامِ بها ألسنتُهم وانصاعت نُفوسُهم لها، ولأمرِ ربِّهم فيها؛ أنزَلَ اللهُ في عَقِبِ نُزولِها من غيرِ فاصلٍ"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ" وهذا إخبارٌ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك، وهو الإيمانُ بالقُرآنِ، "وَالْمُؤْمِنُونَ" عطفٌ على الرَّسولِ، ثُمَّ أخبَرَ عنِ الجَميعِ فقالَ"كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ"البقرة: 285؛ فالمُؤمِنون يُؤمِنون بأنَّ اللهَ واحدٌ أحدٌ، فردٌ صَمَدٌ، لا إلهَ غيرُه، ولا ربَّ سِواه، ويُصدِّقون بجميعِ الملائكةِ والأنبياءِ والرُّسلِ والكُتبِ المُنزَّلةِ مِنَ السَّماءِ على عِبادِ اللهِ المُرسَلين والأنبياءِ، لا يُفرِّقون بين أحَدٍ منهم، ولا يؤمِنون ببعضٍ ويَكفرون ببعضٍ، بلِ الجميعُ عِندَهم صادِقون بارُّونَ، راشِدونَ مَهديُّون، هادُون إلى سُبلِ الخيرِ، وإن كانَ بعضُهم يَنسَخُ شَريعةَ بعضٍ بإذنِ اللهِ، حتَّى نُسِخَ الجميعُ بشَرعِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمِ الأنبياءِ والمُرسَلين، الَّذي تَقومُ السَّاعةُ على شَريعتِه، "وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا" أي: سَمِعنا قولَك يا ربَّنا، وفَهِمناه، وقُمنا به، وامتثَلنا العملَ بمُقتضاه، "غُفْرَانَكَ رَبَّنَا" وهذا سُؤالٌ للمغفرةِ والرَّحمةِ واللُّطفِ، "وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"، فإليك المَرجِعُ والمآبُ يومَ يَقومُ الحسابُ، فلمَّا فعَلوا ذلك، وقالوا ما أُمِروا بقولِه من إظهارِ السَّمعِ والطَّاعةِ لأوامرِ اللهِ؛ نَسَخَها اللهُ تَعالَى، فأثبَتَ الآيةَ خطًّا في المصحفِ ونسَخَ الحُكمَ، فأنزَلَ اللهُ تخفيفًا عنهم فقالَ"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" مما تسَعُه قُدرتُها وطاقتُها وجُهدُها-وإذا كانت بعض التكاليف التي كلفنا الله بها فيها مشقة، فإن هذه المشقة محتملة وفي وسع الإنسان وقدرته وطاقته، وسيثيبنا الله-تبارك وتعالى-عليها ثوابًا جزيلا،- "لَهَا مَا كَسَبَتْ" من ثوابِ الخيرِ،"وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" من وِزرِ الشَّرِّ وإثمِه، ولا يُؤاخَذُ أحَدٌ بذَنبِ أحدٍ، ولا بما لم يَكسِبه ممَّا وَسوسَته به نفسُه- لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا" بالعِقابِ "إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" فترَكنا الصَّوابَ، لا عن عمدٍ، كما آخَذتَ به مَن قَبلَنا، فاستجابَ اللهُ سُبحانَه لهُم فقالَ "نَعَمْ"، أي: قد فعَلتُ، "رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا" منَ الأمورِ التي يَثقُلُ علينا حَملُها، "كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا" من بَني إسرائيلَ وغيرِهم، فاستجابَ اللهُ لهُم وقالَ"نَعَمْ"، أي: قد فعَلتُ، "رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ" منَ التَّكاليفِ والبلاءِ، قالَ"نَعَمْ"، "وَاعْفُ عَنَّا" فامحُ عنَّا ذُنوبَنا، "وَاغْفِرْ لَنَا" واستُر علينا فيما بيننا وبين عِبادِك، فلا تُظهِرهم على سيِّئاتِنا، وتَجاوَز عنها، "وَارْحَمْنَا" وجُدْ علينا بالرَّحمةِ حتَّى لا نَقَعَ في ارتكابِ محظورٍ، أو تَهاوُنٍ في أداءِ مأمورٍ، "أَنْتَ مَوْلَانَا"، أي: سيِّدُنا ومُتولّي أمرِنا؛ "فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"البقرة: 286. بإقامةِ الحُجَّةِ والغلَبةِ في قِتالِهم؛ فإنَّ شأنَ المَولى أن ينصُرَ مَواليَه على الأعداءِ،- والأول أشد أثرًا وأقوى فعلًا، فإنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب- فاستجابَ اللهُ لهُم، فقالَ"نَعَمْ"، أي: قد فعَلتُ.
وهذا من عَظيمِ فَضلِ اللهِ على المؤمِنينَ الذين يَخضَعونَ لأمرِه، ويُسلِّمون لحُكمِه، أمَّا الذين قالوا: سَمِعنا وعَصَينا، فقد حَمَلَ اللهُ عليهمُ الإثمَ والذَّنبَ وعاقَبَهم به في الدُّنيا قَبْلَ الآخِرةِ.
وقد أكرمَ اللهُ هذه الأمَّةَ بما لم يُكرِم به مَن قبلَها، وثَبَّتَ إيمانَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، وأحسَنَ إليهم، وأثنَى عليهم بقولِه"آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ من رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ من رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ" البقرة: 285.
وفي الحديثِ: شِدَّةُ تَعظيمِ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم لأمرِ اللهِ تَعالَى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى لا يُحمِّلُنا ما لا طاقةَ لنا به، ولا يُكلِّفُنا إلَّا وُسعَنا، وأنَّ الوَساوسَ الَّتي تَجُولُ في صُدورِنا إذا لم نَركَنْ إليها، ولم نَطمئنَّ إليها، ولم نَأخُذْ بها -فإنَّها لا تَضُرُّ.
وفيه: أنَّ اللهَ تَجاوَزَ عنِ الأمَّةِ ما حدَّثَت به أنفُسَها ما لم تتكلَّم أو تعمَل به.
وفيه: ثُبوتُ النَّسخِ في القرآنِ الكريمِ، وأنَّ منَ القرآنِ ما يُقرَأُ ولكن نُسِخَحُكمُه فلا يُعمَلُ به.الدرر.
"مَن قَرَأَ بالآيَتَيْنِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ ."الراوي : أبو مسعود عقبة بن عمرو - صحيح البخاري.
أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن قَرَأهما في لَيلةٍ حَفِظَتاه مِن الشَّرِّ، ووَقَتاه مِن المَكْروهِ، ....وذلك لِمَا فيهما مِن مَعاني الإيمانِ، والإسْلامِ، والالْتِجاءِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، والاسْتِعانةِ به، والتَّوكُّلِ عليه، وطلَبِ المَغفِرةِ والرَّحْمةِ منه.
تم
بحمد الله تفسير سورة البقرة كاملة

سبحانك اللهم بحمدك أستغفرك وأتوب إليك اللهم اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين
رد مع اقتباس