" هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا "1.
هَلْ :الاستفهام هنا للتحقيق ، اتفق المفسرون على أن " هل " هنا بمعنى قد ، أي : أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم .
الْإِنسَانِ :
قيل : هو الإنسان الأول آدم - عليه السلام - ، أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن شيئًا يذكر.
وقيل : هو عموم الإنسان من بني آدم. فالمراد بالإنسان: جنسه، فيشمل جميع بني آدم- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن/محمد الأمين بن محمد بن المختار الجنكي الشنقيطي..التفسير الوسيط. حِينٌ: الحينُ المقدار المجمل من الزمان، لا حد لأكثره ولا لأقله.
الدَّهْرِ: الدَّهْرُ اسمٌ للزَّمانِ الطَّويلِ غير المحدد بوقت معين.
افتُتِحَتْ هذه السُّورةَ الكريمةَ بِالاستفْهَامِ الذِي يفيدُ التحقيقَ والإخبارَ بأنَّه قد مَرَّ على الإنسانِ قبْلَ أن يُخلَقَ زَمَنٌ طَويلٌ لم يكُنْ فيه شَيئًا مَذكورًا.أي لم يكن موجودًا حتى يُعرف ويُذكر.
فكل إنسان منا مَرَّ عليه وقتٌ طويلٌ من الدهر كان عدمًا، لم يكن له – وجود ولا - ذِكرٌ في تلك المدة الطويلة، فخلقه الله من العدم ليعبده.د. محمد بن علي بن جميل المطري.
"إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا "2.
الْإِنسَانَ : ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ، اتفقوا على أنه عام في بني آدم ؛ لأنه هو الذي خُلِقَ من نطفةٍ أمشاج أخلاط ، وقد رجح الفخر الرازي أن لفظ الإنسان في الموضعين بمعنى واحد ، وهو المعنى العام ؛ ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة .أضواء البيان.
فَصَّلَ- سبحانه - أطوار خلق الإنسان فقال "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ: النطفة هي الماء القليل، والمراد بها هنا: مني الرجل، فإن هذه النطفة تشتمل على حيوانات منوية كثيرة جدًا، أي خلقه سبحانه من نطفة خرجت من أبيه ليس لها قيمة "أَمْشَاجٍ: أي: أَخلاطٍ فلما اختلطت النطفة بماء الأم صارت بداية تكوين إنسان جديد. قال الجمل"أَمْشَاجٍ" نعت لنطفة.والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان.تفسير الوسيط.
" أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا: ومن ثم جعله سميعًا بصيرًا . أي زوده بوسائل الإدراك ، ليستطيع التلقي والاستجابة . وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار . ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار . وفي ذلك بيانُ عظيمُ قدرةِ اللهِ جل وعلا.
نَّبْتَلِيهِ : أي: نَختَبِرُه ونَمتَحِنُه، والبلاءُ يكونُ في الخَيرِ والشَّرِّ
فهذا الإنسانَ لم يُخلق عبثًا ولا جزافًا، بل خَلقَهُ ليبتليَه ويمتحنَه بالتكاليفِ الشرعيةِ التي يأمرُه بها، حتى يعلمَ الصَّادقَ في إيمانِهِ من الكاذِبِ.
فأنشأه الله، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر الأعضاء، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا "3.
ثم أرشده الطرق بأن أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله.
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه منها، وأخبره بما له إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية، فردها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.تفسير السعدي.
وعُبر عنِ الهدى بالشكرِ ، لأن الشكرَ أقربُ خاطرٍ يَرِدُ على قلبِ المهتدِي بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئًا مذكورًا ، فأراد ربُّه له أن يكونَ شيئًا مذكورًا .
ولَمَّا كان الشُّكرُ قَلَّ مَن يتَّصِفُ به، قال: شَاكِرًا، فعبَّرَ عنه باسمِ الفاعلِ؛ للدَّلالةِ على قِلَّتِه، ولَمَّا كان الكفْرُ كثيرًا مَن يَتَّصِفُ به، ويَكثُرُ وُقوعُه مِن الإنسانِ، قال: كَفُورًا؛ فعبَّرَ عنه بصِيغةِ المُبالَغةِ .
أو: أنَّه عَبَّرَ باسمِ الفاعِلِ الخالي مِن المُبالَغةِ في "شَاكِرًا " ؛ لأنَّه لا يَقدِرُ أحدٌ أن يَشكُرَ جميعَ النِّعَمِ، فلا يُسَمَّى شَكورًا إلَّا بتفَضُّلٍ مِن رَبِّه عليه، ولَمَّا كان الإنسانُ لِما له مِن النُّقْصانِ لا يَنفَكُّ غالِبًا عن كُفْرٍ ما، أتى بصيغةِ المُبالَغةِ؛ تنبيهًا له على ذلك ، وإشعارًا بأنَّ الإنسانَ لا يَخْلو عن كُفرانٍ غالبًا، وإنَّما المُؤاخَذُ به التَّوغُّلُ فيه، أو لم يقُلْ"كافرًا" ليُطابِقَ قَسيمَه؛ مُحافَظةً على الفواصلِ.موسوعة التفسير الدرر السنية.
"أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أكْثَرُ أهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ قيلَ: أيَكْفُرْنَ باللَّهِ؟ قالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ويَكْفُرْنَ الإحْسَانَ، لو أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شيئًا، قالَتْ: ما رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ."الراوي : عبدالله بن عباس – صحيح البخاري.
والحديثُ يدُلُّ على أنَّ الكفرَ كُفرانِ - كُفرٌ لا يُخرِجُ عنِ الملَّةِ وكفرٌ مخرجٌ مِنَ المِلةِ - ، وأنَّ لَفظِ الكُفرِ قد يُطلَقُ على غيرِ الكُفرِ باللهِ تعالَى، كأنْ يُرادَ كُفرُ النِّعمةِ، أي: إنكارُها.الدرر السنية.
الكفر الأصغر:يعني أنَّه على دَرَجةٍ مِن دَرَجاتِ الكُفرِ، ولكنْ ليس هو الكُفرَ الأكبرَ المُخرِجَ مِنَ المِلَّةِ الذي يكونُ صاحِبُه في حُكمِ المُرتَدِّ..ومخلد في النار.
الكُفْرُ الأصْغَرُ غيرُ مُخْرِج من المِلَّةِ، ولا يُناقِضُ أصلَ الإيمانِ، بل يَنقُصُه ويُضعِفُه، ولا يَسلُبُ صاحِبَه صِفةَ الإسلامِ وحَصانتَه. وهو المشهورُ عند العُلَماءِ بقَولِهم: كُفرٌ دونَ كُفرٍ.
وقد أطلقه الشَّارعُ على بَعْضِ المعاصي والذُّنوبِ على سبيلِ الزَّجرِ والتَّهديدِ؛ لأنَّها من خِصالِ الكُفْرِ، وهي لا تَصِلُ إلى حَدِّ الكُفْرِ الأكبَرِ، وإنَّما هي مِن كبائِرِ الذُّنوبِ، وهو مُقتَضٍ لاستحقاقِ الوَعيدِ والعذابِ دون الخُلودِ في النَّارِ. وصاحِبُ هذا الكُفْرِ مِمَّن تنالُهم شفاعةُ الشَّافعينَ بإذنِ اللهِ تعالى.الموسوعة العقدية -الدرر السنية.
ثم يأخذ في عَرْضِ ما ينتظر الإنسانَ بعدَ الابتلاءِ ، واختياره طريق الشكر أو طريق الكفران :
"إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا"4.