39ـ وَكُلُّ شَرْطٍ لاَزمٌ لِلعَاقِدِ ** في البَيْعِ وَالنِّكاحِ والمَقَاصِدِ
40ـإِلاَّ شُرُوطًا حَلَّلَت مُحرَّمًا ** أو عَكْسَهُ فَبَاطِلاَتٌ فَاْعلَمَا
لِلعَاقِدِ :العاقد : هو من يصح منه الإيجاب والقبول ، وهو كل بالغ عاقل رشيد . الأصل في الشروط والعقود اللزوم ، فكل شرطٍ وعقدٍ فيه مصلحةٌ للطرفين أو لأحدهما ، فإنه يكون صحيحًا ، ويَلزَمُ الطرفين الوفاء به ما لم يكن مخالفًا للشرع بتحليل الحرام أو تحريم الحلال ، فإنه يُحكم عليه بالبُطْلانِ . والمراد بالشرط ما يجعله العاقدان أو أحدهما في العقد لمصلحة لهما أو لأحدهما.مثاله: اشترى رجلٌ بضاعةً واشترط على البائع أن يحملها إلى بيته في المكان الفلاني، فهذا شرط في البيع، والأصل في الشروط الصحة، وهذا في جميع المعاملات من بيع وإجارة والعقود الأخرى كالشركات والنكاح والوقف والوصايا . لا أن يكون الشرط يخالف الشرع، فإذا كان يحل حرامًا أو يحرم حلالًا فهو شرط باطل، كأن يبيع العبد ويشترط أن يكون ولاؤه له، هذا شرط باطل لأن الولاء لمن أعتق، كما جاء هذا في الصحيحين. "أنَّها أرادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فاشْتَرَطُوا عليها الوَلاءَ، فَذَكَرَتْ ذلكَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: اشْتَرِيها، فإنَّما الوَلاءُ لِمَن أعْتَقَ."الراوي : عائشة أم المؤمنين-صحيح البخاري.
"أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا في كِتَابَتِهَا، فَقالَتْ: إنْ شِئْتِ أعْطَيْتُ أهْلَكِ ويَكونُ الوَلَاءُ لِي، وقالَ أهْلُهَا: إنْ شِئْتِ أعْطَيْتِهَا ما بَقِيَ - وقالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: إنْ شِئْتِ أعْتَقْتِهَا، ويَكونُ الوَلَاءُ لَنَا - فَلَمَّا جَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذَكَّرَتْهُ ذلكَ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ابْتَاعِيهَا فأعْتِقِيهَا، فإنَّ الوَلَاءَ لِمَن أعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ - وقالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَصَعِدَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ - فَقالَ: ما بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليسَ في كِتَابِ اللَّهِ؟! مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا ليسَ في كِتَابِ اللَّهِ، فليسَ له، وإنِ اشْتَرَطَ مِئَةَ مَرَّةٍ."الراوي : عائشة أم المؤمنين
- صحيح البخاري.
* عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل شرطٍ ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، وإن كان مائة شرط" .رواه البزار والطبراني . صحيح الجامع ... / الهجائي / ج : 2 / حديث رقم : 4530 / ص : 833 .
وهذا ليس معناه أن كل شرط ليس موجودًا في كتاب الله فهو باطل ، وإنما المقصود كل شرط يخالف ما نص عليه كتاب الله ، ومنافٍ له ، ومعارض له ، فهو باطل .
* وعن رافع بن خديج قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم " المسلمون عند شروطهم فيما أُحِلَّ" .رواه الطبراني . صحيح الجامع ... / الهجائي / ج : 2 / حديث رقم : 6715 / ص : 1138 .
41ـتُسْتَعْمَلُ القُرْعَةُ عِنْدَ المُبهَمِ ***مِنَ الحُقُوقِ أَو لَدَى التَّزاحُمِ
القرعة هي: نوع من الاستهام، ولا تستعمل إلا عند الإبهام أو التزاحم مع الاستواء في الاستحقاق وذلك في حقوق الخلق ، أما عند الإبهام في حقوق الله فإنه لا يشرع استعمال القرعة .
فالقرعة تسعمل إذا جُهل المسْتَحِق لحق من الحقوق ، ولا مِزْيَة لأحدهما على الآخر ، أو حصل التزاحم في أمر من الأمور ولا مرجح لأحدهما .
القرعة مشروعة باتفاق الفقهاء ، ودليل مشروعيتها من الكتاب والسنة .
قال تعالى " وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُـلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ" .سورة آل عمران / آية : 44 .
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد سفرًا أقْرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمُها خرج بها معه ، وكان يقسم لكل امرأةٍ منهن يومها وليلتها غير أن سودةَ بنت زمْعَةَ وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبتغي بذلك رضا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم "صحيح البخاري ـ كتاب : الهبة وفضلها والتحريض عليها / باب : هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج ... / حديث رقم : 2593 .
أحوال جواز استعمال القرعة لتعيين المستحق
الحالة الأولى التي ذكرها: عند المبهـم: أي عند الإبهام، والإبهام هو: عدم البيان والإيضاح فيما إذا لم يتبين مَن يتعلق به الحكم يصار عند ذلك إلى القرعة، مثال ذلك: لو قال أحدٌ عنده مثلًا جمع من العقارات فقال: أحد عقاراتي وقفٌ لله، هنا ثبت الوقف لأحدها دون تعيين – مبهم - إذا لم يكن قد نوى أحدها - يصار في تعيينها إلى القرعة بين العقارات.
ومثل لو قال – وكان عنده أكثر من زوجة - قال: إحدى زوجاتي طالق، الآن الطلاق واقع، لكن لم يحدد على من وقع، فليس له أن يختار من شاء، لأنهم استووا في الاستحقاق، إلا أن يكون قد نوى بلفظٍ أو بنية، فإن لم ينو لا بلفظٍ ولا بنية فعند ذلك يكون الاستحقاق مستوي، وبهذا الحال يصار إلى القرعة لتعيين المستحق.
هاتان صورتان في تعيين المستحق عند الإبهام، ومثاله مساهمة يونس مع أهل السفينة، فإن أحدهم لابد أن يلحقه، لابد أن يتخفف منه "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ"الصافات:141.
و كذلك تستعمل القرعة عند التزاحم، أي عند التدافع في الاستحقاق - هذا معنى التزاحم -، التزاحم هو: التدافع في الاستحقاق دون مرجحٍ لأحدهم، في هذه الحال يصار إلى القرعة لتعيين المستحق، ومثاله: الاستهام على الصف الأول، فإذا جاء ثلاثة في نفس الوقت ولم يسبق أحدهم إلى الصف ولا يسع إلا واحدًا، فهنا لمن يكون هذا؟ ليس ثمة سبق، ولو كان ثمةَ سبق لكان السابق هو الأحق، لكن ما في سبق، استووا في الاستحقاق، هنا لا سبيل إلا بالاستهام،
قال صلى الله عليه وسلم" لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا، ولو يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، ولو يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا ."الراوي : أبو هريرة-صحيح البخاري .
42- وإِنْ تَسَاوى العَمَلانِ اجْتَمَعَا** وَفُعِلَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَمِعَا
أي أن العملين من العبادات إذا اجتمعا في كيفيتهما وصفة كلٍّ منهما،وكانالمقصود من الفعلين يحصل بفعل واحد منهما،فإنه يجوز إدخال بعضهما في بعض بفعل أحدهما. ويجزئ كل واحد منهما عن الآخر،ما دام أن المقصود من الفعلين يحصل بفعل واحد منهما.
فطواف الإفاضة إن أخره الحاج أجزأه عن طواف الوداع؛ لأن الفعلين اتفقا واجتمعا، ويحصل بفعل أحدهما المقصود منه والمقصود من الآخر؛ لأن المقصود من طواف الوداع توديع البيت، فإذا أخر طواف الإفاضة حصل به توديع البيت أيضًا، فأجزأ.
كذلك إذا اغتسلت المرأة عن الجنابة والحيض، كما لو طهرت من الحيض وكانت قبل الحيض جنبًا، فاغتسلت غسلًا واحدًا؛ فهذا الغسل يحصل به المقصود من غسل الجنابة والمقصود من غسل الحيض.
لكن إذا كان لكل منهما مقصود يختص به، فلا يحصل مقصود أحدهما بفعل الآخر، فنقول: لابد من الفعلين جميعًا: مثال ذلك: رجل فرغ من طواف الإفاضة أو طواف آخر بعد أذان الفجر، فهل يجزئه أن يصلي ركعتين بنية ركعتي الطواف وسنة الفجر؟
الجواب :لا؛ لأن هذه لها مقصودها وهذه لها مقصودها.
وهذا رجل عليه نذر فوفى بنذره يوم عيد الأضحى، ونوى أن يكون المذبوح أضحية وأن يكون نذرًا، فنقول: لا يجزئ؛ لأن هذا له مقصوده وهذا له مقصوده.
لكن لو أن رجلاً دخل إلى المسجد فصلى الفريضة أو سنة الفجر، نقول: تجزئ عن تحية المسجد؛ لأن المقصود من تحية المسجد أن يصلي ركعتين قبل جلوسه في المسجد، فإذا اشتغل بفرض أو نفل آخر أجزأ ذلك عن تحية المسجد.
لو تَعَدَّدَ السهو في الصلاة ، لم يتعدد السجود، بل يكفي سجود واحد للسهو مهما تعددت بالزيادة أو بالنقصان .القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه / ص : 135 .
من حَلَفَ عِدة أيمان على شيءٍ واحد وحَنَثَ فيه عدة مرات قبل أداء كفارة اليمين ، أجزأته كفارة واحدة عن الجميع . فإن كان الحَلِفُ على شيئين فأكثر وحنثَ في الجميع ، فإن الكفارة تتعدد بتعدد المحلوف عليه .
وكذلك إذا كانت الكفارات متباينةٌ مقاصدُها ، ككفارة ظِهار ، ويمين بالله ، أو للوطء في نهار رمضان وجب عليه كفارات لكل واحدةٍ منها إذا حنث .
ولو تعدد المحلوف عليه واتحد الحَلِف ، يعني قال : والله لا أكلم فلانًا ولا ألبس هذا الثوب ولا أخرج إلى السوق ، بيمين واحدة ، ماذا يلزمه ؟ . يلزمه كفارة واحدة وذلك لأن اليمين واحدة فلا توجب أكثر من كفارة ، وإن تعدد المحلوف عليه ، فتعدد الذوات هنا كتعدد الصفات لا تتعدد بها الكفارة .القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة / للسعدي / تعليق العثيمين / ص : 170 .
43 ـ وَكُلُّ مَشْغُولٍ فَلاَ يُشَغَّلُ** مِثَالُهُ المَرْهُونُ والمُسَبَّلُ
المُسَبّل : اسم مفعول من السبيل ، والمقصود ما جُعل في سبيل الله تعالى ، كالوقف وهو تحبيس الأصل ، وتسبيل الثمرة .
والمعنى أن كل مشغول بحق ، لا يُشغل بحق آخر حتى يَفْرُغَ الأول منه .
على سبيل المثال :
ـ زوجة الغير ومعتدته مُحَرَّمَة على جميع الرجال عدا زوجها ، لأنها مشغولة به بمقتضى عقد الزواج ، فلا تُشغَّل بغيره حتى تفرغ من هذا المشغول به ، لقوله تعالى :
" وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ".
سورة النساء / آية : 23 .
ومثاله : المرهون لا يُباع ولا يوهب ولا يرهن حتى ينفك الرهن أو يأذن الراهن .فالمرهون مشغول بحق المرتهن، فمثلاً: هذا رجل اقترض دراهم ورهن بيته، فبيته رهن على هذه الدراهم التي اقترضها، فهل له أن يرهنه بدين آخر أو أن يوقفه؟ نقول: لا، لأن المشغول لا يشغل، فهذا البيت قد شغل بحفظ حق المرتهن، فليس لك أن تشغله بشيء آخر.
كذلك المسبل -يعني الوقف- فالوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث؛ لأنه مشغول بالوقفية فلا يشغل ببيع ولا إرث ولا هبة، لأن المشغول لا يشغل.
فكل مشغول بحق لا يُشْغَل بآخر حتى يفرغ الحق منه .