عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 08-13-2025, 03:43 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,369
Post

المطلـــب الثالـــث : أنـــواع الخـــلاف
يمكـن أن نقسـم الخـلاف الواقـع بيـن المسـلمين إلـى اختـلاف التنـوع واختـلاف التضـاد .
النـــوع الأول : اختــلاف التنــوع :
وهـو مـا لايكـون فيـه أحـد الأقـوال مناقضًـا للأقـوال الأخـرى ، بـل كـل الأقـوال صحيحـة .وهـذا مثـل : وجـوه القـراءات ، وأنـواع التشـهدات والأذكـار .انظر أنواعًا من صيغ التشهد في : صفة صلاة النبي ... / للألباني / تحت عنوان : صيغ التشهد / ص : 161 .
فمـن قـرأ مثـلاً فـي الفاتحـة " مَالـِكِ يـومِ الديـنِ " وهـو يعلـم صحـة مـن قــرأ " مَلْـِك يَـومِ الديـنِ " ، فـلا يكـون هـذا مناقضًـا لهـذا ، فالكـل يعلـم أن القـرآن نـزل علـى سـبعة أحـرف كلهـا شـاف كـاف .
ومـن يقــرأ فـي التشـهد بتشـهد ابـن مسـعود لا يــرى مانعًــا مـن تشـهد ابـن عبـاس ـ رضي اللهعنهما ـ ، أو تشـهد عمـر ـ رضي الله عنه ـ .
ومـن هـذا البـاب : الواجـب المخيـر مثـل " كفـارة اليميـن " :
قـال تعالـى { لاَ يُؤَاخِذُكُـمُ اللهَ بِاللَّغْــوِ فِـي أَيْمَانِكُـمْ وَلَكِـن يُؤَاخِذُكُـم بِمَـا عَقَّدتُّــمُ الأَيْمَـانَ فَكَفَّارَتُـهُ إِطْعَـامُ عَشَـرَةِ مَسَـاكِينَ مِـنْ أَوْسَـطِ مَـا تُطْعِمُـونَ أَهْلِيكُـمْ أَوْ كِسْـوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيـرُ رَقَبَـةٍ فَمَـن لَّـمْ يَجِـدْ فَصِيَـامُ ثَلاَثَـةِ أَيَّـامٍ ذَلِـكَ كَفَّـارَةُ أَيْمَانِكُـمْ ... } .سورة المائدة / آية : 89 .
فـأي واحـد مـن الثلاثـة فعـل ، مـن الإطعـام أو الكسـوة أو العتـق ، أجـزأه وهـو يفعـل واحـدًا منهـا مـع اعتقـاده أن غيـره مـن الثلاثـة صحيـح ، أمـا الصيــام فـلا يجـوز الانتقـال إليـه إلا إذا عدمـت الثلاثـة .
ومـن هـذا البـاب : تنـوع الأعمـال الصالحـة .
مثال تنوع الأعمال الصالحة يُرجع إلى :
صحيح البخاري . متون / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 4 ) ـ باب : الريان للصائمين / حديث رقم : 1897 / ص : 214 .
وخلاصـة القـول فـي اختـلاف التنـوع أنـه مـن مقتضيـات الرحمـة ومظاهرهـا ، وأنـه لابـد مـن اسـتثماره لتحقيـق التكامـل بيـن المسـلمين والترابـط .
النـــوع الثانــي : اختــلاف التضــاد :

وهـو أن يكـون كـل قـول مـن أقـوال المختلفيـن يضـاد الآخـر ويُحكـم بخطئـه أو بطلانـه ، وهـو يكـون فـي الشـيء الواحـد ، يقـول البعـض بحرمتـه والبعـض بحلـه .
وهـذا النـوع مـن الخـلاف ينقسـم إلـى نوعيـن :
النـــوع الأول : خـلاف سـائغ غيـر مذمـوم .
النـــوع الثانـــي : خـلاف غيـر سـائغ مذمـوم .


أولًا : النــوع الأول : الخــلاف الســائغ غيــر المذمــوم :
ـ تعريفـه :
وهـو الخـلاف الـذي لا يخالـف نصـًّا ، مـن كتـاب ، أو سـنة صحيحـة ، أو إجماعـًا ، أو قياسـًا جليـًّا .
ومعنـى " النـص " هنـا ، مـا لا يحتمــل إلا معنـى واحـدًا لا اجتهـاد فـي فهمـه علـى وجـوه متعـددة ، وليـس مجـرد وجـود حديـث أو أحاديـث فـي البـاب ـ فقـد توجـد ـ لكـن تكـون دلالاتهـا مُحْتَمَلَـة ، ووجـوه الجمـع مختلفـة ، والتصحيـح والتضعيـف محـل نظـر . فـلا يكـون فـي المسـألة نـص .
قـال شـيخ الإسـلام ابـن تيميـة :
" والصــواب الـذي عليـه الأئمـة ، أن مسـائل الاجتهـاد مـا لـم يكـن فيـه دليـل يجـب العمـل بـه وجوبـًا ظاهـرًا مثـل حديـث صحيـح لا معـارض لـه مـن جنسـه " .فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 26 .
* أســباب هـذا الخـــلاف الســائغ :
1ـ مـن هـذه الأسْـبَاب أن الشـرع لـم ينصـب دليـلاً قاطعـًا علـى كـل المسـائل ، بـل جعـل دليـلاً ظنيـًّا يحتـاج لبحـث واجتهـاد ونظـر ، يقـوم بـه مـن حَصَّـلَ مقومـات الاجتهـاد والنظـر .

2 ـ ومنهـا أن أفهـام العبـاد مختلفـة متفاوتـة ، قـد فضـل الله بعضهـم علـى بعـض فيهـا ، فمـا يدركـه
هـذا لا يفهمـه هـذا ، ومـا يـراه الواحــد قـد يغيـب عـن الآخريـن ، وقـد أشـار القــرآن إلـى ذلـك
بقولـه تعالـى { فَفَهَّمْنَاهَـا سُـلَيْمَانَ وَكُـلاًّ آتَيْنَـا حُكْمـًا وَعِلْمـًا ... } . سورة الأنبياء / آية : 79 .فخـص سـليمان بالتفهيـم .
وذلك عندما حكم سليمان بين المرأتين ، وجعل الطفل للصغرى .
فعـن أبـي هريـرة ـ رضي الله عنه ـ عـن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال " بينمـا امرأتـان معهمـا ابناهمـا ، جـاء الذئـب فذهـب بابـن إحداهمـا .فقالـت هـذه لصاحبتهـا : إنمـا ذهـب بابنـكِ أنـتِ .وقالـت الأخـرى : إنمـا ذهـب بابنـكِ .فتحاكمتـا إلـى داود . فقضـى به للكبـرى . فخرجتـا علـى سـليمان بـن داود عليهمـا السـلام فأخبرتـاه . فقـال : ائتونـي بالسـكين أشـقُّه بينكمـا . فقالـت الصغـرى : لا ، يرحمـك الله ! هـو ابنهـا . فقضـى بـه للصغـرى " .
قـال : قـال أبـو هريـرة : والله ! إن سـمعتُ بالسـكين قـط إلا يومئـذٍ . مـا كنـا نقـولُ إلا المُدْيَـةَ . صحيح مسلم . متون / ( 30 ) ـ كتاب : الأقضية / ( 10 ) ـ باب :بيان اختلاف المجتهدين / حديث رقم : 1720 / ص : 448 .


3 ـ ومنهـا أن قـدرة العبــاد علـى البحـث والاجتهـاد مختلفـة أيضـًا ، فمـا يقــدر عليـه البعـض يعجـز عنـه البعـض ، وكـلٌّ مكلـف بمـا يقـدر عليـه .
قـال تعالـى "لاَ يُكَلِّـفُ اللهُ نَفْسـًا إِلاَّ وُسْـعَهَا ... " . سورة البقرة / آية : 286 .

4ـ ومنهـا اختـلاف طريقـة التعلـم والتعليـم بيـن علمـاء المسـلمين فـي بلادهـم المختلفـة ، وقـد فطـر الله العبـاد علـى التأثـر بمـا تعلمـوه أولًا .
مثـلاً : هنـاك بعـض البــلاد تـدرس الفقـه علـى مذهـب الإمـام أحمـد أي علـى المذهـب الحنبلـي ، فنجـد كـل العلمـاء في هـذا القطـر متأثـرون إلى حـد كبيـر بهـذا المذهـب ، ويظهـر هـذا فـي كتبهـم ، واجتهادهـم .
ـ ومعرفـة هـذه الأسـباب ضـرورة فـي إدراك التعامـل الصحيـح مـع هـذا الاختـلاف . فـإذا علمنـا أن هـذه الأسـباب لا يمكـن إزالتهـا ، عرفنـا أن الاجتهــاد فـي معرفـة الصحيـح مـن مسـائل الاختـلاف ، وما يرجحـه البعـض مـن أهــل العلــم فيهـا بمـا وصـل إلـى فهمـه وعلمـه مـن
أدلـة ، وبحسـب قدرتـه علـى النظــر والبحـث والاجتهـاد ، لـن يلغـي اجتهــاد غيـره ، ولـن يُخْــرِج المسـألة عـن كَوْنِهَـا مـن مسـائل الاجتهـاد ، وبالتالـي لا تضيـق الصـدور بوجـود هـذا الاختــلاف بيـن أهـل العلـم ، خاصـة بيـن أهـل السـنة وأتْبَــاع السـلف ، كمـا يحـدث لـدى كثيــر ممـن تعـوَّد السـؤال عـن الراجـح مـن الأقـوال ، وظــن أن كـل مسـألة فيهـا قـول
راجــح مطلقـًا ، ولـم يتفطــن أنـه راجـح عنـد فـلان ومرجــوح عنـد غيـره ، ولاشـك أن السـؤال عـن الراجـح مـن الأقـوال والأدلـة أمــر محمـودمـن طالـبالعلــم ، ودليـل علـى ورعـه وعـدم حرصــه علـى تعـدد الأقـوال لينتقـي بشـهوته أطيبهــا وأقربهـا إلـى رغبتـه كمـا يفعــل ـ البعـض ـ ، ولكـن لابـد مـن تعميــق فقـه مسـائل الاختـلاف السـائغ ، حتـى لا تدخـل عنـده فـي قضيـة البغـض في الله ، والمعـاداة فـي الله رغـم اتفـاق السـلف علـى خـلاف ظنـه .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 27 / بتصرف .
وليكـن الحـوار الهـادئ الـذي نلتـزم فيـه بمـا أدبنـا بـه العلمـاء ، وكمـا نعرفـه مـن طرقهـم فـي البحـث والمناظـرة والـرد الرفيـق علـى المُخَالِـف ، ليكـن هـذا الحـوار هـو الأسـلوب الـذي ينتهجــه المسـلمون فـي خلافاتهـم حـول المسـائل التـي يسـوغ فيهـا الاختــلاف والاجتهــاد ، وليبــذل كـل منـا جهـده فـي معرفــة الحـق والعمــل بـه ، وليعـذر الآخريـن داعيـًا للجميـع بالهدايـة والتوفيـق لمـا يحبـه الله ويرضـاه والقبـول عنـده سـبحانه .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 38 .

* ثمــرة معرفــة أســباب الخــلاف الســائغ :
عنـد معرفـة أسـباب الخــلاف وأنـه لا سـبيل لإزالتهـا يجعلنـا لا نحـاول السـير فـي طريـق يتمنـاه البعـض لقلـة فهمـه لهـذه المسـائل ، ولقراءتـه لواحـد مـن أهـل العلـم ، أو تلقيـه منـه دون غيـره ،ألا وهـو محاولـة توحيـد الأمـة فـي كـل المسـائل علـى قـولٍ واحـدٍ ، وقـد يتعمـق هـذا لـدى بعـض المبتدئيـن مـن طـلاب العلـم حيـن يَجـد كثيــرًا مـن العلمــاء خاصـة المعاصريـن ينتصـر لقــول مُضَعفـًا ما سـواه ، بـل ربمـا لا يشـير إلـى الخـلاف أصـلاً فضـلاً عـن الإشـارة إلـى درجتـه ، وهـل هـو سـائغ أم غيــر سـائغ ، ولاشـك أن هـذا مسـلك مـا سـلكه أحــدٌ مـن أئمــة العلـم ، بــل المشـهور عنهـم رده علـى مَـنْ طلبـه منهـم .
روى ابـنُ عسـاكر أن أبـا جعفــر المنصـور سـأل الإمـام مالـك ـ رحمه الله ـ أن يحمــل النـاس علـى كتابِـهِ " الموطــأ " . فقـال لـه " الإمـام مالـك " : لا تفعــل هـذا ، فـإن النــاس قـد سـبقت إليهـم أقاويـل وسـمعوا أحاديـث وروايـات ، وأخـذ كـل قـوم منهـم بمـا سـبق إليهـم وعملـوا بـه ودانـوا بـه مـن اختـلاف النـاس وغيرهـم ، وإن ردَّهـم عمـا اعتقـدوا شـديد ، فـدع النـاس ومـا هـم عليـه ومـا اختـار أهـل كـل بلـدٍ منهـم لأنفسـهم .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 28 .

رد مع اقتباس