* أمثلـــة للاختــلاف الســائغ :
1 ـ فـي الأمـور الاعتقاديـة والعلميـة :
ينـدر فـي أصـول الأمـور الاعتقاديـة والعلميـة هـذا النـوع مـن الخـلاف ، بـل أصولهـا الكبـرى مـن الإيمــان بالله وأسـمائه وصفاتــه وربوبيتـه وألوهيتـه ، والإيمـان بملائكتـه وكتبـه ورسـله ، واليـوم الآخـر والقـدر ، كلهـا إما مـن المعلـوم مـن الديـن بالضـرورة ، أو المُجْمَـع عليـه بيـن أهـل العلـم .
والمقصـود بالمعلـوم مـن الديـن بالضـرورة : مـا انتشـر بيـن المسـلمين حتـى علمـه الخـاص والعـام والعالـم والجاهـل .
وأمـا المجمـع عليـه بيـن أهـل العلــم : فهـو الـذي يعـرف العلمــاء الإجمـاع فيـه ، وإن لـم يكـن منتشـرًا بيـن عـوام المسـلمين .
لكـن توجـد فـي بعـض تفاصيـل ذلـك - أي في بعض تفاصيل الأمور الاعتقادية والعلمية .بعـض الاختلافـات السـائغة أشـار إليهـا العلمـاء ، كمـا ذكـر ابـن تيميـة ، مـن ذلـك : الخـلاف فـي رؤيـة النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ربـه . ومنهـا الخـلاف فـي تسـمية أفعـال الـرب حـوادث- يرجع لتفصيل ذلك إلى بحث عقيدة التوحيد . -مـع الإجمـاع علـى أنهـا ليسـت مخلوقـة ، وأن حدثـه لا يشـبه حـدث المخلوقيـن عند من أجـاز ذلـك كالإمـام البخـاري وابـن تيميـة وابن القيـم ـ رحمهم الله ـ . فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 29 .
2 ـ فـي الأمـور العلميـة والفقهيـة
وهـي أكثـر مـن أن تُحصـى .
مثالـه : الاختـلاف فـي كثيـر مـن أمـور الوضـوء والصــلاة ، كوجـوب المضمضـة والاسـتنشـاق أم اسـتحبابهما ، ووجـوب الترتيـب فـي الوضــوء أم اسـتحبابه ، ووضــع اليمنـى علـى اليسـرى علـى الصـدر بعـد ـ القيـام ـ مـن الركـوع أم إرسـالهما ، والنـزول علـى الركبتيـن أم علـى اليديـن ... .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي/ ص : 32 .
تنبيــه هــام :
ليـس معنـى أن الخـلاف فـي المسـألة خـلاف سـائغ ، أنـه يجـوز لكـل واحـد أن ينتقـي بالتشـهي أيًّـا مـن القوليـن دون اجتهـاد .
قـال أبـو عمـر بـن عبـد البَـر فـي جامـع بيـان العلـم وفضلـه / ص : 360 .
" أجمـع العلمـاء ـ علـى ـ أنـه لا يجـوز تتبـع رخـص العلمـاء ، فضـلاً عـن الـزلات والسـقطات " .ا . هـ .
فالواجـب علـى الإنسـان علـى حسـب مرتبتـه فـي العلـم الآتـي :
1ـ " العالـم المجتهـد " : يلزمـه البحـث والاجتهـاد ، وجمـع الأدلـة ، والنظـر فـي الراجـح منهـا ، فمـا ترجـح عنـده قـال بـه وعمـل بـه وأفتـى .ومـا أحـراه فـي المسـائل التـي تعـم بهـا البلـوى أن يشـير إلـى الخـلاف فيهـا مـع بيـان مـا يـراه
صوابـًا .
2ـ " طالـب العلـم المميِّـز القـادر علـى الترجيـح " : عليـه أن يعمـل بمـا ظهـر لـه دليلـه مـن أقـوال العلمـاء .
3ـ " العامـي- العامي : مشتقة من العمى . -المقلـد العاجـز عـن معرفـة الراجـح بنفسـه " : عليـه أن يسـتفتي الأوثـق الأعلـم مـن أهـل العلـم عنـده ، ويسـأله عـن الراجـح ، فيعمـل بـه فـي نفسـه ، ويجـوز نقلـه لغيـره مـن غيـر إلـزام لهـم بـه ، ومـن غيـر إنكـار علـى مـن خالفـه بـأيٍّ مـن درجـات الإنكـار . أمـا مـا يفعلـه كثيـر مـن أهـل زماننـا فـي مسـائل الخـلاف السـائغ أو غيـر السـائغ ، بأخـذ مـا يشـتهي ، بـل يفعلـه كثيــر مـن المنتسـبين إلـى العلــم ، ويفتـي البعـضُ بجـواز التلفيــق بيـن المذاهـب ، لا بحسـب الأدلـة والاجتهـاد ، بـل بمجـرد موافقتـه مـا يظنونـه مصلحـة أو تيسـيرًا علـى النـاس ، أو أن الرسـول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لـم يُخَيَّـر بيـن أمريـن إلا اختـار أيسـرهما ، فهـذا مـن الخطـأ العظيـم المخالـف للإجمـاع القديـم كمـا نقلـه " أبـو عُمَـر بـن عبـد البـر " ، فإنمـا اختيـار الأيســر هـو فـي الأمـور الاختياريـة .
أما مـا كـان فيه إثـم وحــلال وحــرام وواجـب ومنـدوب ، فلابـد مـن الترجيــح والاجتهـاد علـى حسـب درجـة كـل واحـد كمـا سـبق بيانـه ، وهـذا فـي الخـلاف السـائغ ، فمـا بالـك فـي الخـلاف غيـر السـائغ كمـا يأتـي تفصيلـه إن شـاء الله .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي. / ص : 34 .
هــل الخـــلاف رحمـــة :
قـال غيـر واحـد مـن العلمـاء أن الخـلاف رحمـة ، وقـد ذكـروا فيـه حديثًـا عـن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
" اختـلاف أمتـي رحمـة "
قال عنه الشيخ الألباني في صفة صلاة النبي / تحت عنوان شبهات وجوابها / ص : 59 : لم أقف له ـ أي الحديث ـ على سند صحيح ، ولا ضعيف ، ولا موضوع. ا . هـ .
وهـو لا يصـح سـندًا ولا متنًـا ، بـل هـو منكـر ضعيـف ، وإنمـا هـو كـلام بعـض العلمـاء ، وليـس معنـى ذلـك عندهـم أن الاختـلاف نفسـه رحمـة ، بـل الكتـاب والسـنة يذمـان الاختـلاف .قـال تعالـى { ... وَلاَ يَزَالُـونَ مُخْتَلِفِيـنَ * إِلاَّ مَـن رَّحِـمَ رَبُّـكَ وَلِذَلِـكَ خَلَقَهُـمْ ... } .سورة هود / آية : 118 ، 119 .
* عـن العربـاض بـن سـارية ، قـال : وعظنـا رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يومًـا بعـد صـلاة الغـداة موعظـةً بليغـةً ذرفـت منهـا العيـون ووجلـت منهـا القلـوب ، فقـال رجـل : إن هـذه موعظـة مـودع فمـاذا تعهـد إلينـا يـا رسـول الله ؟قـال " أوصيكـم بتقـوى الله والسـمع والطاعـة ، وإنْ عبـدٌ حبشـي ، فإنـه مـن يعـش منكـم يـرى اختلافـًا كثيـرًا ، وإياكـم ومحدثـات الأمـور فإنهـا ضلالـة فمـن أدرك ذلـك منكـم فعليـه بسـنتي وسـنة الخلفـاء الراشـدين المهدييـن ، عَضُّـوا عليهـا بالنَّوَاجِـذ " .سنن الترمذي [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 39 ) ـ كتاب : العلم عن رسول الله / ( 16 ) ـ باب :ماجاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع / حديث رقم : 2676 / ص : 603 . صحيح .
وقـال ابـن مسـعود : " الخــلاف شــر " .
* قـال أبـو داود : حدثنـا مُسَـدَّد ، أن أبا معاويـة وحفـص بـن غِيَـاثٍ حدَّثاهـم [ حدَّثـاه ]في نسخة : حدثاه .
ـ وحديـث أبـي معاويـة أتـّم ـ عـن الأعمـش ، عن إبراهيـم ، عـن عبـد الرحمـن بـن يزيـد ، قـال :
صلـى عثمـان بمنـى أربعـًا ، فقـال عبـد الله - أي عبد الله بن مسعود- : صليـتُ مع النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ركعتيـن ، ومـع أبـي بكـر ركعتيـن ، ومـع عمـر ركعتيـن ـ زاد عـن حفـص : ومـع عثمـان صـدرًا مـن إمارتـه ، ثـم أتمهـا ـ زاد مِـنْ هاهنـا عـن أبـي معاويـة : ثـم تفرقـت بكـم الطـرق ، فلـوَدِدتُ أنَّ لـي مـن أربـع ركعـات ركعتيـن متقبلتيـن . قـال الأعمـش : فحدثنـي معاويـة بـن قُـرةَ عـن أشـياخه أن عبـد الله -أي عبد الله بن مسعود -صلـى أربعـًا ، قـال : فقيـل لـه : عِبـتَ علـى عثمـان ثـم صليـت أربعـًا ؟ ! قـال : الخـلاف شــر .سنن أبي داود [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 5 ) ـ أول كتاب المناسك / ( 76 ) ـ باب : الصلاة بمنى / حديث رقم : 1960 / ص 341 / صحيح .
* وعـن الزهـري ، قـال : أن عثمـان َ بـنَ عفــانَ أتـمَّ الصـلاةَ بمنـىً مـن أجـل الأعـراب ، لأنهـم كثُـرُوا عامَئِـذٍ ، فصلـى بالنـاس أربعـًا ليعلمهـم أن الصـلاة أربـع ٌ .
المصدر السابق -سنن أبي داود/ حديث رقم : 1964 / ص : 342 / حسن .
ورد فـي عـون المعبـود / ج : 5 / كتـاب المناسـك / ( 76 ) بـاب : الصـلاة بمنـى/ ص : 306 :
( وحديـث أبـي معاويـة أتـم ) ---> هـذه مقولـة أبـي داود
( عـن الأعمـش ) ---> أي يـروي أبـو معاويـة وحفـص عـن الأعمـش .
( زاد ) ---> أي مُسَـدّد .
( مـن هـا هنـا ) ---> أي مـن قولـه الآتـي " ثـم تفرقـت " إلـى آخـره .
( ثـم تفرقـت بكـم الطـرق ) ---> أي اختلفتـم ، فمنكـم مـن يُقْصِـر ، ومنكـم مـن لا يُقْصِـر .
( فلـوددت ) ---> أي فلتمنيـت ، غرضـه ووددت أن عثمـان صلـى ركعتيـن بـدل الأربـع كمـا كـان
النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصاحبـاه يفعلونـه .
وفيـه كراهـة مخالفـة مـا كانـوا عليـه . كـذا فـي عمـدة القـارئ .
وقـال الحافـظ فـي فتـح البـاري : قـال الـداوادي : خشـي ابـن مسـعود أن لا يجـزي الأربـع فاعلهـا
وتبـع عثمـان كراهيـة لخلافـه ، وأخبـر بمـا يعتقـده . ا . هـ .
فالخـلاف شـر ، ولكـن مقصـود هـؤلاء العلمـاء الذيـن قالـوا الاختـلاف رحمـة .
فليـس المقصـود أن الاختــلاف (1) نفسـه رحمـة أو أنـه مطلــوب شـرعًا كمـا يظـن مـن لا يفهـم كـلام أهـل العلـم ، وإنمـا المعنـى أن أصحـاب هـذا الاختـلاف لا يعذبـون طالمـا بذلـوا وسْـعَهم فـي
معرفـة الحـق ، كـل حسـب علمـه وقدرتـه ، والحـق فيـه واحـد لا يتعـدد .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي ... / ص : 36 / بتصرف .
( 1 ) من أراد المزيد من التفاصيل في هذا الموضوع ، فليرجع إلى صفة صلاة النبي للشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ / تحت عنوان :
شبهات وجوابها / ص : 58 .
* فعـن عمـرو بـن العـاص أنـه سـمع رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقـول :
" إذا حكـم الحاكـم فاجتهـد ثـم أصـاب فلـه أجـران ، وإذا حكـم فاجتهـد ثـم أخطـأ فلـه أجـر" . صحيح البخاري . متون / ( 96 ) ـ كتاب : الاعتصام بالكتاب والسنة / ( 21 ) ـ باب : أجر الحاكم إذاأصاب أو أخطأ / حديث رقم : 7352 / ص : 853 .
وكمـا دل عليـه القـرآن الكريـم بالثنـاء علـى داود وسـليمان مـع تصويـب سـليمان ـ عليهما السلام ـ
قـال تعالـى { ... فَفَهَّمْنَاهَـا سُـلَيْمَانَ وَكُـلاًّ آتَيْنَـا حُكْمـًا وَعِلْمـًا ... }. سورة الأنبياء / آية : 79 .
* * * * *