المُحْكَــــم و المُتَشَــابِه
فـــي القـــــرآن
* معنــى " المُحْكَــم " :
ـ اللُّغويـون يسـتعملون مـادة الإِحكـام ( بكسـر الهمـز ) فـي معـانٍ متعـددة ، لكنهـا مـع تعددهـا ترجـع إلـى شـيءٍ واحـد ، هـو : " المنـع " ؛ فيقولـون :
أَحْكَـمَ الأمـر -----> أي أتقنـه ومنعـه عـن الفسـاد .
ويقولـون :
أحكـم الفـرس -----> أي جعـل لـه حَكَمَـةَ ، والْحَكَمَـة : مـا أحـاط بحنكـي الفـرس مـن لجامـه تمنعـه مـن الاضطـراب .
وقيــل :
" آتـاه الله الحكمـة " -----> أي : العـدل أو العلـم أو الحلـم أو النبـوة أو القـرآن ؛ لمـا فـي هـذه المذكـورات مـن الحوافـظ الأدبيـة الرادعـة عمـا لا يليـق .مناهل العرفان في علوم القرآن / ج : 2 / ص : 289 .
ـ إحكـام الكـلام -----> إتقانـه بتمييـز الصـدق مـن الكـذب فـي أخبـاره ، والرشـد مـن الغـي فـي أوامـره.مباحث في علوم القرآن / ص : 215 .
* معنــى " المُتَشَــابِه " :
المتشـابه يَـرِد علـى معنييـن لُغَوييـن :
1 ـ إمـا مـن " الشُّـبْهَة " ----> وهـي الجهالـة وعـدم التمييـز .
فيكـون المتشـابه ضـد المحكـم .
ـ كقولـه تعالــى { قَالُـواْ ادْعُ لَنَـا رَبَّـكَ يُبَيّـِن لَّنَـا مَـا هِـيَ إِنَّ البَقَـرَ تَشَـابَهَ عَلَيْنَـا ... } .سورة البقرة / آية : 70 .
تشـابه علينـا ----> أي اختلـط علينـا ، فـلا نميـزه ولا نعلـم نوعيـة المطلـوب .
ومنـه قولـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم مـن حديـث النعمـان بـن بشـير " إن الحـلال بَيِّـن ، وإن الحـرام بَيِّـن ، وبينهمـا مشـتبهات لا يعلمهـن كثيـر مـن النـاس ... " صحيح مسلم . متون / ( 22 ) ـ كتاب : المساقاة / ( 20 ) ـ باب : أخذ الحلال وترك الشبهات / حديث رقم : 1599 / ص : 408 .
2 ـ وإمـا مـن الشَّـبَه ----> وهـو : التماثـل فـي الأوصـاف . كقولـه تعالـى : { ... وَأُتُـواْ بِـهِ مُتَشَـابِهًا... } سورة البقرة / آية : 25 .
متشـابهًا ----> أي يشـبه بعضـه بعضًـا فـي اللـون أو الطعـم أو الرائحـة أو الكمـال والجـودة .
وكقولـه تعالـى{ ... تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُـمْ ... }. سورة البقرة / آية : 118 تشـابهت ----> أي يشـبه بعضهـا بعضًـا فـي الغـي والجهالـة .
مقالة للعثيمين بالتوحيد / ربيع أول 1422 .
* المُحْكَــم والمُتَشَـابِه فــي القــرآن :
ـ ورد فـي القـرآن ما يـدل علـى أنـه محكـم ؛ كقولـه تعالـى :
{ الَـر كِتَـابٌ أُحْكِمَـتْ آيَاتُـهُ ثُـمَّ فُصِّلَـتْ مِـن لَّـدُنْ حَكِيـمٍ خَبِيـرٍ } . سورة هود / آية : 1.
ـ وورد أيضـًا مـا يـدل علـى أنـه متشـابه ؛ كقولـه تعالـى :
{ اللهُ نَـزَّلَ أَحْسَـنَ الْحَدِيـثِ كِتَابـًا مُّتَشَـابِهًا مَّثَانِـيَ تَقْشَـعِرُّ مِنْـهُ جُلُـودُ الَّذِيـنَ يَخْشَـوْنَ رَبَّهُـمْ ... } سورة الزمر / آية : 23 .
ـ وورد أيضـاً مـا يـدل علـى أن بعضـه محكـم ، وبعضـه متشـابه ؛ كقولـه تعالـى :
{ هُـوَ الَّـذِيَ أَنـزَلَ عَلَيْـكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ آيَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَـرُ مُتَشَابِهَاتٌ .."آل عمران:7.
والسـؤال الـذي يطـرح نفسـه علـى الأذهـان :
س : كيـف يمكـن الجمـع بيـن هـذه الآيـات ؟ !
وقبـل الإجابـة علـى هـذا السـؤال ، نُـوِرد مقدمـة هامـة لفهـم المحكـم والمتشـابه :
إن الله عـز وجــل خاطبنـا بكـلام لـه معنـى ، فالقــرآن كــلام عربـي مكــون مـن ألفـاظ لهـا معـان يسـتوعبها صاحـب اللسـان العربـي ، ولا يسـتوعبها الأعجمـي .
فـإذا قـال الله تعالـى{ لَقَـدْ رَضِـيَ اللهُ عَـنِ الْمُؤْمِنِيـنَ إِذْ يُبَايِعُونَـكَ تَحْـتَ الشَّـجَرَةِ ... } .سورة الفتح / آية : 18 .
عَلِـمَ صاحـب اللســان العربـي معنـى كلمـة " شــجرة " ، فـإن سـألتُهُ عـن شـكلها وكيفيتهـا ؟
فـإن كـان مِمَّـنْ بايـع مـع رســول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ تحتهــا ، ربمـا وصفهـا لـك وصفًـا دقيقًـا لأنـه رأهـا بعينـه ، وإن لـم يكـن ـ منهـم ـ قـال : أنـا مـا رأيتهـا حتـى أصفهـا ، ولكنهـا شـجرة تبــدو فـي كيفيتهـا كأي شـجرة تنبـت فـي الصحـراء .والحاصــل أنـه سـيصف كيفيـة الشـجرة مـن خـلال رؤيتهـا أو رؤيـة مثيلهـا .فمعنـى لفـظ الشـجرة عنـد العربـي معلـوم واضـح محكـم ، يميـز بينـه وبيـن لفـظ البقـرة أو غيـره
مـن الألفـاظ .
لكـن لـو سـألنا " الأعجمـي " : مـا معنـى لفـظ " شـجرة " ، أو حتـى " بقــرة " ؟
عجـز عـن الجـواب لجهلـه بمعنـى الكـلام .
وإذا قـال تعالـى { أَذَلِـكَ خيـرٌ نُـزُلاً أَم شَـجَرَةُ الزَّقُّـومِ }.سورة الصافات / آية : 62 .
علـم العربـي معنـى كلمـة شـجرة ، وأن المقصـود شجـرة معينـة تخـرج فـي أصـل الجحيـم ، أَعَـدَّها اللهُ للكافريـن .
لكـن لـو سـألناه عـن شـكلها وكيفيتهـا ؟ ! لقــال : الله أعلـم ، فأنـا مـا رأيتهـا ، ومـا رأيـتُ لهـا مثيـلاً ، فكيـف أعـرف كيفهـا ؟ ! .
فأصبـح لفـظ " الشـجرة " محكمًـا لـه ، والكيفيـة التـي دل عليهـا اللفـظ مجهولـة أو غيـر معلومـة أو متشـابهة أو مختلطـة .
لكـن لو سـألنا " الأعجمـي " عـن معنـى لفـظ " شـجرة الزقـوم " ، لما تمكـن مـن الجـواب ؛ لأن المعنـى ليـس محكمًـا لديـه ومشـتبه عليـه ، لا يعرفـه أصـلاً ، وكذلـك كيفيتهـا متشـابهة عليه من بـاب أولـى .
ـ نخلـص مـن هـذا أن :
التشـابه الواقـع فـي القـرآن نوعـان :
أحدهمـا : حقيقـي : وهو مـا لا يمكـن أن يعلمـه البشـر ، كحقائـق صفـات الله عـز وجـل ، فإننـا وإن كنـا نعلـم معانـي هـذه الصفـات ، لكننـا لا نـدرك حقائقهـا ، وكيفيتهـا لقولـه تعالـى { ... وَلاَ يُحِيطُـونَ بِـهِ عِلْمـًا } سورة طه / آية : 110 .
النـوع الثانـي : نسـبي : وهـو مـا يكـون مشـتبهًا علـى بعـض النـاس دون بعـض .تفسير القرآن الكريم ( الفاتحة ـ البقرة ) / ج : 1 / ص : 49 .
وبنظـرة أوسـع وأشـمل فـإن القـرآن الكريـم يتنـوع باعتبـار الإحكـام والتشـابه إلـى :
1 ـ إحكـام عـام ، وتشـابه عـام .
2 ـ إحكـام خـاص ، وتشـابه خـاص .
وبـذا تتضـح لنـا إجابـة السـؤال السـالف الذكـر إجمـالًا ، وسـيأتي تفصيـل ذلـك .
* * * * *
أولاً : " الإحكــام العــام " و " التشـابه العــام "
الإحكــام العــام فــي الكــلام :
هـو إتقانـه بتمييـز الصـدق مـن الكـذب فـي أخبـاره ، والرشـد مـن الغـي فـي أوامـره .
وقـد وصـف الله سـبحانه القـرآن كلـه بأنـه " محكـم " علـى هـذا المعنـى .قـال تعالـى "الَـر كِتَـابٌ أُحْكِمَـتْ آيَاتُـهُ ثُـمَّ فُصِّلَـتْ مِـن لَّـدُنْ حَكِيـمٍ خَبِيـرٍ ".سورة هود / آية : 1.
وقـال تعالـى { الـر تِلْـكَ آيَـاتُ الْكِتَـابِ الْحَكِيـمِ } .سورة يونس / آية : 1 .
وقـال تعالـى { وَإِنَّـهُ فِـي أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَـا لَعَلِـيٌّ حَكِيـمٌ } . سورة الزخرف / آية : 4 .
التشــابه العــام فــي الكــلام :
هـو تماثلـه وتناسـبه بحيـث يصـدقُ بعضـه بعضًـا .
وقـد وصـف الله سـبحانه القـرآن كلـه بأنـه متشـابه علـى هـذا المعنـى .
قـال تعالـى { اللهُ نَـزَّلَ أَحْسَـنَ الْحَدِيـثِ كِتَابـاً مُّتَشَـابِهاً مَّثَانِـيَ تَقْشَـعِرُّ مِنْـهُ جُلُودُ الَّذِيـنَ يَخْشَـوْنَ رَبَّهُـمْ ثُـمَّ تَلِيـنُ جُلُودُهُـمْ وَقُلُوبُهُـمْ إِلَـى ذِكْـرِ اللهِ ذَلِـكَ هُـدَى اللهِ يَهْـدِي بِـهِ مَـنْ يَشَـاءُ وَمَـن يُضْلِـلْ اللهُ فَمَـا لَـهُ مِـنْ هَـادٍ } .سورة الزمر / آية : 23 .
فالمتشـابه فـي هـذه الآيــة باعتبــار تماثلـه فـي الحُسْـن ، وفـي الآيــة دليـل علـى أن جميـع آيـات القـرآن لها معـانٍ مُحْكَمَـة معلومـة تُؤثـر فـي المسـتمعين ؛ لأنه لا يُعْقَـل أنْ تَقْشَـعِرّ الجلـود وتليـن القلـوب مـن كـلام مشـتبه ليـس لـه معنـى فـي نفـس السـامع .
وكـل مـن المحكـم والمتشـابه بمعنـاه المطلـق ( العـام ) المتقـدم لا ينافـي الآخـر ، فالقـرآن كلـه محكـم بمعنـى الإتقـان ، وهـو متشـابه أي متماثـل يشـبه بعضـه بعضـًا مـن حيـث الإتقـان .
فـإن الكـلام المتقـن تتفـق معانيـه وإن اختلفـت ألفاظـه ، فإذا أمـر القـرآن بأمـر لـم يأمـر بنقيضـه فـي موضـع آخــر ، وإنمـا يأمـر بـه أو بنظيـره ، وكذلـك الشـأن فـي نواهيـه وأخبـاره فـلاتضـاد فيـه ولا اختـلاف .
قـال تعالـى { أَفَـلاَ يَتَدَبَّــرُونَ الْقُــرْآنَ وَلَـوْ كَــانَ مِـنْ عِنـدِ غَيْــرِ اللهِ لَوَجَــدُواْ فِيـهِ اخْتِلاَفـًا كَثِيـرًا } .سورة النساء / آية : 82 .
مباحث في علوم القرآن / ص : 215 / بتصرف من مصادر أخرى .
ثانيـًا : " الإحكــام الخــاص " و " التشــابه الخــاص "
الإحكـام الخـاص ----> هـو الوضـوح والظهـور فـي المعنـى .
التشـابه الخـاص ----> هـو خفـاء المعنـى أو الكيـف .
وهـذا القســم يتمثـل فـي قولـه تعالـى :
{ هُـوَ الَّـذِيَ أَنـزَلَ عَلَيْـكَ الْكِتَـابَ مِنْـهُ آيَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُـنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَـرُ مُتَشَـابِهَاتٌ فَأَمَّـا الَّذِيـنَ فـي قُلُوبِهِـمْ زَيْـغٌ فَيَتَّبِعُـونَ مَـا تَشَـابَهَ مِنْـهُ ابْتِغَـاء الْفِتْنَـةِ وَابْتِغَـاء تَأْوِيلِـهِ وَمَـا يَعْلَـمُ تَأْوِيلَـهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِـخُونَ فِـي الْعِلْـمِ يَقُولُـونَ آمَنَّـا بِـهِ كُـلٌّ مِّـنْ عِنـدِ رَبِّنَـا وَمَـا يَذَّكَّـرُ إِلاَّ أُوْلُـواْ الألْبَـابِ } .آل عمران:7.
الإحكــام الخــاص
ويتمثـل فـي قولـه تعالـى : { ... مِنْـهُ آيَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ ... }
والإحكـام الـذي وصـف بـه سـبحانه ـ بعـض القـرآن هـو :
* قيــل :
الوضـوح والظهـور . بحيـث يكـون معنـاه واضحـًا بَيِّنـًا لا يشـتبه علـى أحـد .
وهـذا كثيـر فـي الأخبـار و الأحكـام .
ـ مثالـه فـي الأخبـار :
قولـه تعالـى { شَـهْرُ رَمَضَـانَ الَّـذِيَ أُنـزِلَ فِيـهِ الْقُـرْآنُ ... } .
سورة البقرة / آية : 85 .
فكـل أحـد يعـرف شـهر رمضـان ، وكـل أحـد يعـرف القـرآن .
ـ ومثالـه فـي الأحكـام :
قولـه تعالـى : { ... وَبِالْوَالِدَيْـنِ إِحْسَـانًا ... } سورة النساء / آية : 36 .
فكـل أحـد يعـرف والديـه ، وكـل أحـد يعـرف الإحسـان .
وقولـه تعالـى { حُرِّمَـتْ عَلَيْكُـمُ الْمَيْتَـةُ وَالْـدَّمُ وَلَحْـمُ الْخِنْزِيـرِ وَمَا أُهِـلَّ لِغَيْـرِ اللهِ بِهِ ... } .سورة المائدة / آية : 3 .
فكـل أحـد يعـرف معنـى : الميتـة ، والـدم ، ولحـم الخنزيـر ، ويعلـم حرمـة ذلـك .
* وقيــل :
الإحكـام : هـو الوضـوح والظهــور فـي معنـى الآيـات دون الكيفيـة التـي دلـت عليهـا ؛ لأن القـرآن كلـه محكـم فـي معنـاه ، فهــو كــلام لـه معنـى ، وليـس كلامـًا أعجميـًّا أو ألغـازًا لا سـبيل إلـى فهمهـا .
ولكـن مـن حيـث الكيـف فهنـاك آيـات محكمـات أي معلومـة الكيـف ، وأُخـر متشـابهات .
فمـا عاينـه الإنسـان مـن الكيفيـات التـي تتعلـق ببعـض الأحكـام ، والتي دلـت عليهـا ألفـاظ الآيـات ،
ككيفيـة أداء الصـلاة ، وأفعـال الحـج ، فهـذا محكـم المعنـى والكيفيـة .
أمـا الغيبيـات وحقائـق صفـات الله عـز وجـل ، فإننـا وإن كنـا نعلـم معانـي هـذه الصفـات ، لكننـا لا نـدرك حقائقهـا ، وكيفيتهـا ؛ لقولـه تعالـى{ ... وَلاَ يُحِيطُـونَ بِـهِ عِلْمـًا } سورة طه / آية : 110 .
وهـذا النـوع مـن المتشـابه لا يُسـأل عـن اسـتكشافه لتعـذر الوصـول إليـه .تفسير القرآن الكريم / العثيمين / سورة البقرة / ج : 1 / ص : 49 .
التشــابه الخــاص:
التشـابه مـن الشـبهة وهـي الجهالـة وعـدم المعرفـة والتمييـز ..... ويتمثـل فـي قولـه تعالـى :{ ... وَأُخَـرُ مُتَشَـابِهَاتٌ ... } . سورة آل عمران / آية : 7 .
والتشـابه الـذي وصـف بـه الله بعـض آيـات القـرآن نوعـان :
ـ النـوع الأول : " التشــابه الحقيقـي " :
وهــو مـا لا يمكـن أن يعلمـه البشـر ، كالغيبيـات ، وكحقائـق صفـات الله عـز وجـل ، فإننـا وإن كنـا نعلـم معانـي هـذه الصفــات ، لكننـا لا نــدرك حقائقهـا ، وكيفيتهـا ؛ لقولـه تعالــى { ... وَلاَ يُحِيطُـونَ بِـهِ عِلْمـًا} . سورة طه / آية : 110 . ككيفيـة الاسـتواء فـي قولـه تعالـى { الرَّحْمَـنُ عَلَـى الْعَـرْشِ اسْـتَوَى } .سورة طه / آية : 5 .
أو كيفيـة سـمعه وبصـره وتكليمـه وكيفيـة الأشـياء التـي فـي عالـم الغيـب ، فهـذا محكـم المعنـى متشـابه فـي الكيفيـة تشـابه حقيقـي ، فـلا يدخـل فـي المتشـابه معانـي الآيـات التـي وصـف الله بهـا نفسـه ، وإلا كانـت كلمـات جوفـاء بـلا معنـى ، تعالـى الله عـن ذلـك .
وعلـى ذلـك فجميــع آيـات الصفــات محكمـة المعنـى متشـابهة فـي الكيفيـة فقـط تشـابه حقيقـي ،فجميـع آيـات الصفـات لهـا معنـى معلـوم عنـد الراسـخين فـي العلـم حسـب اجتهادهـم فـي تحصيلـه .أمـا الكيـف فيفوضـون العلـم بـه لعـلام الغيـوب .
وهـذا النـوع مـن المتشـابه لا يُسـأل عـن اسـتكشافه لتعـذر الوصـول إليـه . تفسير القرآن الكريم / سورة البقرة / ج : 1 / ص : 49 / بتصرف.
ـ النــوع الثانــي : " التشــابه النســبي " :
وهـو الاشـتباه أي خفـاء المعنـى بحيـث يشـتبه على بعـض النــاس دون غيرهـم ، فيعلمـه الراسـخون فـي العلـم دون غيرهـم ، وهـذا تشـابه نسـبي .
وهـذا النـوع يُسـأل عـن اسـتكشافه وبيانـه ؛ لإمكـان الوصـول إليـه .
وقـد انقسـم النـاس فـي ذلـك إلـى قسـمين :
القســم الأول :
الراسـخون فـي العلـم : ويقولـون " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا"آل عمران:7.
وإذا كـان مـن عنـده ـ سـبحانه ـ فلـن يكــون فيـه اشـتباه يسـتلزم ضـلالًا أو تناقضـًا ، وَيَــردُّون المتشـابه إلـى المحكـم فصـار مـآل المتشـابه إلـى الإحكـام .
القســم الثانــي :
أهـل الضـلال والزيـغ : وهـم يتبعـون المتشـابه ويجعلـوه مثـارًا للشـك والتشـكيك ، فَضَلُّـوا وأَضَلُّـوا .
وقـد يـؤدي هـذا التشـابه إلـى توهـم الواهـم :
ـ مـا لا يليـق بالله تعالـى .
ـ أو مـا لا يليـق بكتـابه .
ـ أو مـا لا يليـق برسـوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
ويفهـم العالـم الراسـخ فـي العلـم خـلاف ذلـك مـن المتشـابه .فيمـا يتعلـق بالله تعالـى :
مثـال أول : أن يتوهـم واهـم من قولـه تعالـى { ... بَـلْ يَـدَاهُ مَبْسُـوطَتَانِ ... } . سورة المائدة / آية :64 .
أن لله يديـن مماثلتيـن لأيـدي المخلوقيـن .
نـرد هـذا المتشـابه إلـى المحكـم ليكـون الجميـع مُحْكَمـًا كالآتـي
الراسـخون فـي العلـم يقولـون : إن لله تعالـى يديـن حقيقيتيـن علـى ما يليـق بجلالـه وعظمتـه ، لا تماثـلان أيـدي المخلوقيــن ، كمـا أن لـه ـ سـبحانه ـ ذاتـًا لا تماثـل ذوات المخلوقيـن ؛ لأن الله تعالـى يقـول { ... لَيْـسَ كَمِثْلِـهِ شَـيْءٌ وَهُـوَ السَّـمِيعُ البَصِيـرُ } . سورة الشورى / آية : 11 .
فـردّوا المتشـابه الـذي هـو ----> " بَـلْ يَـدَاهُ مَبْسُـوطَتَانِ " الغيـر واضـح الدلالـة ، إلـى المحكـم الواضـح الدلالـة الـذي هـو ----> " لَيْـسَ كَمِثْلِـهِ شَـيْءٌ وَهُـوَ السَّـمِيعُ البَصِيـرُ "
ليصيـر الجميـع محكمـًا واضـح الدلالـة .
مثــال ثــان :
أن يتوهـم واهـم مـن قولـه تعالـى" إِنَّـا نَحْـنُ نُحْيِـي الْمَوْتَـى ... } .سورة يس / آية : 12 .
ومـن قولـه تعالـى { إِنَّـا نَحْـنُ نَزَّلْنَـا الذِّكْـرَ وَإِنّـَا لَـهُ لَحَافِظُـونَ } .سورة الحجر / آية : 9 .ونحوهمـا ممـا أضـاف الله فيـه الشـيء إلـى نفسـه بصفـة الجمـع .
ـ فاتبـع الضـال الـذي فـي قلبـه زيـغ هـذا المتشـابه وادَّعَـى تَعَـدُّد الآلهـة ، وتـرك المحكـم الـدال علـى أن الله واحـد .
ـ وأمـا الراسـخون فـي العلـم فيحملـون الجمـع المتمثـل فـي لفظـة " نحـن " ، علـى التعظيـم لتعـدد صفـات الله وعظمهـا ، ويـردُّون هـذا المتشـابه إلى المحكـم فـي قولـه تعالـى
" وَإِلَهُكُـمْ إِلَـهٌ وَاحِـدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُـوَ.." سورة البقرة / آية : 163 .
فيمـا يتعلـق بكتـاب الله :
مثـال أول :
أن يتوهـم واهـم تناقـض القــرآن وتكذيـب بعضـه بعضـًا :
لقولـه تعالـى { مَّا أَصَابَـكَ مِنْ حَسَـنَةٍ فَمِـنَ اللهِ وَمَا أَصَابَـكَ مِـن سَـيِّئَةٍ فَمِـن نَّفْسِـكَ ... } .سورة النساء / آية : 79 .
ولقولـه تعالـى فـي موضـع آخـر :
{ ... وَإِن تُصِبْهُـمْ حَسَـنَةٌ يَقُولُـواْ هَـذِهِ مِـنْ عِنـدِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُـمْ سَـيِّئَةٌ يَقُولـواْ هَـذِهِ مِنْ عِنـدِكَ قُـلْ كُـلًّ مِّـنْ عِنـدِ اللهِ ... } .سورة النساء / آية : 78 .
فـرد هــذا النـص المتشـابه ، ظاهــر التناقــض يُـرد إلـى المحكـم الواضـح الدلالـة ليكـون الجميـع محكمـًا كالآتـي :
الراسـخون فـي العلـم يقولـون : إن الحسـنة والسـيئة كلتاهمـا بتقديـر الله عـز وجـل ، لكن الحسـنة سـببها التفضـل مـن الله تعالـى علـى عبـاده ، أمـا السـيئة فسـببها فِعـل العبـد ؛ كمـا قـال تعالـى :
{ وَمَـا أَصَابَكُـم مِّـن مُّصِيبَـةٍ فَبِمَـا كَسَـبَتْ أَيْدِيكُـمْ وَيَعْفُـو عَـن كَثِيـرٍ } . سورة الشورى / آية : 30 .
فإضافـة السـيئة إلـى العبـد مـن إضافـة الشـيء إلـى سـببه ، لا مـن إضافتـة إلـى مقـدِّرِهِ ، أمـا إضافـة الحسـنة والسـيئة إلـى الله تعالـى فمـن بـاب إضافـة الشـيء إلـى مُقَـدِّرِهِ ، وبهـذا يـزول مـا يُوهِـم الاختـلاف بيـن الآيتيـن لانفكـاك الجهـة . تفسير سورة البقرة / محمد صالح بن عثيمين / ج : 1 / ص : 48 / بتصرف .
مثـــال آخـــر :
أن يتوهـم واهـم تناقـض القـرآن وتكذيـب بعضـه بعضًـا :
لقولـه تعالـى : { إِنّـَكَ لاَ تَهْـدِي مَـنْ أَحْبَبْـتَ ... } . سورة القصص / آية : 56 .
لقولـه تعالـى : { ... وَإِنَّـكَ لَتَهْـدِي إِلَـى صِـرَاطٍ مُّسْـتَقِيمٍ } سورة الشورى / آية : 52 .
ففـي الآيتيـن موهـم تعـارض ، فيتبعـه مـن فـي قلبـه زيـغ ، ويظـن أن بينهمـا تناقضًـا وهـو النفـي
فـي الأولـى ، والإثبـات فـي الثانيـة .
وأمـا الراسـخون فـي العلـم فيقولـون :
لا تناقـض فـي الآيتيـن ، فالمـراد بالهدايــة فـي الآيــة الأولـى ----> هدايـة التوفيـق .
وهـذه لا يملكهـا إلا الله وحـده ، فـلا يملكهـا الرسـول ولا غيـره .
والمـراد بهـا فـي الآيـة الثانيـة ----> هدايـة الدَّلالـة .
وهـذه تكـون مـن الله تعالـى ؛ ومـن غيـره .
فتكـون مـن الرسـل وورثتهـم مـن العلمـاء الربانييـن .
فيمـا يتعلـق برسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى وآله وسلم ـ :
قـد يتوهـم الواهـم مـا لا يليـق برسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
مثـال ذلــك :
قولـه تعالـى لنبيــه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : { فَـإِن كُنــتَ فِـي شَــكٍّ مِّمَّـا أَنزَلْنَـا إِلَيْــكَ فَاسْـأَلِ الَّذِينَ يَقْـرَؤُونَ الْكِتَـابَ مِـن قَبْلِـكَ لَقَـدْ جَـاءكَ الْحَـقُّ مِـن رَّبّـِكَ فَـلاَ تَكُونَـنَّ مِـنَ الْمُمْتَرِيـنَ} . سورة يونس/ آية : 94 .
ففـي الآيـة ما يوهـم وقـوع الشـك مـن النبــي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيمـا أُنــزِلَ إليـه ، فيتبعـه
مـن فـي قلبـه مـرض ؛ فيدَّعـي أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقـع منـه ذلـك ، فيطعـن فـي رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
ونـرد هـذا المتشـابه إلـى المحكـم ليكـون الجميـع محكمـًا كالآتـي :
الراسـخون فـي العلـم يقولـون :
إن النبــي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لـم يقــع منـه شَـكٌّ فيمـا أُنــزِلَ إليـه ، بـل هـو أعلـم النـاس بالقـرآن ، وأقواهـم يقينـًا كمـا قـال الله تعالـى فـي نفـس السـورة : { قُــلْ يَـا أَيُّهَـا النَّـاسُ إِن كُنتـُمْ فِـي شَـكٍّ مِّـن دِينـي فَـلاَ أَعْبُـدُ الَّذِيـنَ تَعْبُـدُونَ مِـن دُونِ اللهِ ... } .سورة يونس / آية : 104 .
أي إن كنتـم فـي شـكٍّ ـ [ مـن دينـي ] ـ فأنـا علـى يقيـن منـه ، ولهـذا لا أعبـد الذيـن تعبـدون
مـن دون الله ، بـل أكفـر بهـم وأعبـد الله .
ولا يلـزم مـن قولـه تعالــى : " فَـإِن كُنـتَ فِـي شَـكٍّ مِّمَّـا أَنزَلْنَـا إِلَيْـكَ ... " .سورة يونس / آية :94 ، أن يكـون الشـكُّ جائـزًا علـى الرســول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أو واقعــًا منـه ألا تـرى
قولـه تعالـى : { قُـلْ إِن كَـانَ لِلرَّحْمَـنِ وَلَـدٌ فَأَنَـا أَوَّلُ الْعَابِدِيـنَ } . سورة الزخرف / آية : 81 .
هـل يلـزم منـه أن يكـون الولـد جائـزًا علـى الله تعالـى أو حاصـلاً ؟ ! .
كـلا ؛ فهـذا لـم يكـن حاصـلاً ، ولا جائـزًا علـى اللهِ تعالـى ، لقولـه تعالـى : { وَمَـا يَنبَغِـي لِلرَّحْمَـنِ أَن يَتَّخِـذَ وَلَـدًا * إِن كُـلُّ مَـن فِـي السَّـمَاوَاتِ وَلأَرْضِ إِلاَّ آتِـي الرَّحْمَـنِ عَبْـدًا } .سورة مريم / آية : 92 ، 93 .
ولا يلـزم مـن قولـه تعالـى "... فَـلاَ تَكُونَـنَّ مِـنَ الْمُمْتَرِيـنَ " .
سورة البقرة / آية : 147 ، سورة يونس / آية : 94 .
أن يكـون الامتــراء ـ ( أي الشـك ) ـ واقعــًا من الرســول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لأن النهــي عـنالشـيء قـد يوجـه إلـى مـن لـم يقـع منـه ، ألا تـرى قولَـهُ تعالـى :
{ وَلاَ يَصُدُّنّـَكَ عَــنْ آيَـاتِ اللهِ بَعْـدَ إِذْ أُنزِلَـتْ إِلَيْـكَ وَادْعُ إِلَـى رَبِّـكَ وَلاَ تَكُونَـنَّ مِـنَ الْمُشْـرِكِينَ }.سورة القصص / آية : 87 .
ومـن المعلـوم أنهـم لـم يصـدُّوا النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عـن آيـات الله ، وأن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لـم يقـع منـه شـرك .
والغـرض مـن توجيـه النهـي إلـى مَـنْ لا يقـع منـه : التنديـد بِمَـنْ وقـع منهـم ، والتحذيـر مـن منهاجهـم ، وبهـذا يـزول الاشـتباه ، وظَـنّ مـا لا يليـق بالرسـول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ . تفسـير القـرآن الكريـم / العثيمين / سورة البقرة / ج : 1 / ص : 49 / بتصرف .
فـائـــدة :
" إن كنـتَ فـي شـكٍّ " ؛ كمـا فـي لغـة العـرب : اسـتجازة العـرب قـول القائـل منهـم لابنـه " إن كنـتَ ابنـي فَبِرِّنـي " ، وهـو لا يشـك فـي أنـه ابنـه .