عرض مشاركة واحدة
  #40  
قديم 06-07-2017, 12:47 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,213
افتراضي



قصة صاحب الجنتين في30/ 6/1429هـ
الحمد لله الذي أنزل آيات بينات، وفصلها سورًا وآيات، وصلى الله وسلم على نبي الْمَكْرُمَاتِ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم حتى الممات. أمّا بعد: أيّها النَّاس! اتقوا ربكم واشكروه، واعملوا بالقرآن وتدبروه، فقد جعله سدًّا منيعًا لمواجهة فتن الشبهات والشهوات، كتاب الله للأرواح روح به تحيا النفوس وتستريح
عباد الله! ما زلنا مع قصصِ القرآنِ التي تحكي عن المالِ، وعن إنفاقِه وكيفيةِ تحصيلِه، ومتى يكونُ المالُ نعمةً، ومتى يكونُ نقمةً.. ونعيشُ اليومَ معَ قصةٍ منْ أروعِ قَصصِ القرآنِ، قصةٍ روتْ فصولَها، وجسدتْ وقائعَها، وصورتْ مشاهدَها سورةُ الكهفِ التي نقرأُها كلَّ جمعةٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى أهميةِ ما وردَ في هذه السورةِ، وشديدِ حاجتِنَا إلى ما تضمنتْهُ، فقصتُنَا اليومَ قصةُ رجلينِ: أحدُهما مؤمنٌ بربِّهِ، ومتمسِّكٌ بمبادِئِهِ، والآخرُ كافرٌ بربِّهِ، وجاحدٌ نعمَ اللهِ عليهِ، قصةٌ تُجسدُ واقعاً معاشاً في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، مسلمٌ وكافرٌ، حقٌ وباطلٌ، قيمٌ راسخةٌ، وأخرى باطلةٌ، قيمٌ سماويةٌ علويةٌ تصمدُ وتبقى، لا تنالُ العواصفُ والرياحُ منها عِوَجًا أبَدًا، لأنَّ أصلَهَا ثابتٌ وفرعَهَا في السماءِ، والأخرى رغباتٌ شخصانيةٌ أرضيةٌ، تزولُ وتفنى، وقدْ تصلُ للشهوانيةِ والحيوانيةِ {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}، قصةٌ ما أحوجَنَا إليها في زمنٍ غرتِ الكثيرَ الدنيا وزينتُها وبهجتُها! قصةٌ تغرسُ في نفوسِنَا رسالةً طالما تغافلنا عنها، وما زالتْ تؤكدُ تلكَ الرسالةُ حقيقةَ الدنيا ونعيمَهَا، وأنَّ علينا الحذرَ منَ الركونِ إليهَا، والاغترارِ بِهَا، قصةٌ تحثُّنَا على أنْ نجعلَ رضا اللهِ والتوكلَ عليهِ في كلِّ حالٍ نُصبَ أعيُنِنَا، ولتكنْ ثقتُنَا بما في يدِ اللهِ أوثقَ منهُ بما في أيدِينَا، قصةٌ تقولُ: إنَّ منْ قدَّم شيئاً على طاعةِ اللهِ والإنفاقِ في سبيلِهِ وُكِلَ إليهِ وعُذِّبَ بِهِ، ورُبَّمَا سُلِبَ منهُ معاملةً لهُ بنقيضِ قصدِهِ‏. قصةٌ ترسمُ نموذجينِ واضحينِ للنفسِ المغترةِ بزينةِ الحياةِ، والنفسِ المعتزةِ باللهِ. فصاحبُ الجنتينِ يُمَثِّلُ نموذجًا للرجلِ الثريِّ، أذهلتهُ الثروةُ، وأبطرتهُ النعمةُ، وحَسِبَ بلسانِ الحالِ والمقامِ أنها خالدةٌ باقيةٌ لا تفنى، فنَسِيَ مالكَ النعمةِ وواهبَ المنةِ الذي بيدهِ أقدارُ الناسِ والحياةِ. وأما صاحبُهُ المؤمنُ فنموذجٌ للرجلِ المعتزِّ بإيمانِهِ، الذاكرِ لربِّهِ، الشاكرِ على نعمِهِ، يرى النعمةَ دليلاً على المنعمِ. موجبةً لحمدِهِ وذكرِهِ وشكرِهِ، لا لجحودِهِ ونسيانِهِ وكفرِهِ. وسببُ القصةِ - على ما ذكره بعضُ المفسرينَ - أنَّ كفارَ قريشٍ افتخروا بأموالِهِم وأنصارِهِم على فقراءِ المسلمينَ، وأنهم أكثرُ مالاً، وأعزُّ نفرًا، وأكبرُ عددًا..! وجاءَ الردُّ الربانِيُّ والبيانُ الإلهيُّ مبينًا أنَّ ذلكَ مما لا يوجبُ الافتخارَ والاعتزازَ؛ لكونِ المالِ ظلاًّ زائلاً، ومتاعًا فانيًا، أليسَ الفقيرُ قد يصيرُ غنيًا، والغنيُّ قد يصيرُ فقيرًا، إذًا فعلام الاعتداد بقيمة لا ثبات لها ولا قرار؟ ولا وفاء لها ولا بقاء؟! وأما القيمة الحقيقية الثابتة التي يجب أن يُعتد بها ويُسعى لتحصيلها، وأن يوزن بها الناس، وتحصل بها المفاخرة فهي تقوى وطاعته، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين ،فَلِمَ التكبر إذًا يا من تدعي السيادة؟! فليس الفقر عيبًا في الإسلام، بل ((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ)) ورب فقير خير عند الله من مِلْءِ الْأَرْضِ ممن أعماهم الغنى والجاه، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)) فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ e، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e:((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)) فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: ((هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا)). قال تعالى مبينًا هذه الحقيقة الغائبة عن أذهان جبابرة قريش ومن شابههم ممن اضطربت عندهم موازين القيم:{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا}فأمر الله نبيه أن يبين لقريش قصة الرجلين بالمثل؛ لكون الأمثال تجلي المعاني وتقربها، أي مثِّل –يا محمد- حال الكافرين والمؤمنين، بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا، وقيل لم يكونا أخوين، وإنما كانا رجلين شريكين مصطحبين، فرزقهما الله المال ثم افترقا وتقاسما المال، وأخذ كل واحد من الرجلين نصيبه من المال، فأنفق المؤمن ماله في طاعة الله، ابتغاء وجهه ومرضاته‏.‏ وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما الجنتان المذكورتان في الآية،{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ، وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا*كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا، وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا، وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا*وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} فيها كل ما لذ وطاب، أشجار وأنهار، وأعناب تحفها النخيل، جنة غناء، ومنظر بهيج، وفي يوم اشتدت حاجة المؤمن فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف! فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه الآخر، فعرفه، فقال: فلان؟ قال: نعم، فقال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير، فقال: ما فعل مالك وقد اقتسمنا مالاً واحداً، وأخذت شطره؟ فقص عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا؟ اذهب فلا أعطيك شيئًا، ثم أظهر الافتخار على صاحبه بماله وجاهه فقال‏:‏{‏أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏أي‏:‏ ها أنا لم أنفق ومع ذلك ها أنا أوسع جنانًا، وأهنأ عيشاً وبحبوحة، فماذا أغنى عنك إنفاقك المال؟ لقد ذهب ما كنت تملكه، انظر لملكي وبساتيني‏ فأخذ بيد المؤمن يطوف به فيها، ويريه أثمارها، {‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏}‏ظالم لنفسه بتكبره وإعجابه بماله قائلاً:{مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} لن تنقطع وتضمحل وتفنى وتهلك، فَرَاقَهُ حُسنُهَا وغَرَّتهُ زَهْرَتُهَا فتوهم أنها لا تفنى أبدا بل ظن أنها ستبقى له ما دام حيّاً، غرته نشوة المال، فقال {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً‏} عُجْبٌ وغرور، نسي أن بساتينَ كثيرة زالت وبادت وأصابها عوادي الزمن، فدوام الحال من المحال؟ ثم أوغل الرجل في الطغيان عندما قال:‏{‏وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً‏}‏ حتى تَدَّعِي يا صاحبي أن الله سيخلف عليك مالك! وهكذا لمعان المال يعمي ويُصم {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}وهاهو يزداد صلفاً وغروراً فيقول‏:‏{‏وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَبًا}‏أي‏:‏ ثم هب أن هناك آخرة ومعاداً كما تقول، فإني سأحصل على خير من هذا كله، وهكذا المفتون بالمال يرى أنه مُكَرَّمٌ مُعَزَّزٌ دائماً، إنه طبع الإنسان بدون الإيمان كما قال تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى}تماماً كما ظن صاحب الجنتين عندما اغتر بدنياه واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها إلا لحبه له وحظوته عنده‏.‏ هكذا يظن بعض ذوي الجاه والثراء، بأن القيم التي يعاملهم بها أهلُ الدنيا اليوم تظل محفوظة لهم حتى في الملأ الأعلى! كما قال تعالى‏:‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ*نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏[‏المؤمنون‏:‏ 25‏]‏‏. ‏روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس، أن رجالاً من أصحاب رسول اللهeكانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدَين، فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهبًا وحريرًا، ومن كلّ الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأُوتينّ مالا وولدا، ولأُوتينّ مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله مثله في القرءان، فقال:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا*كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا*وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}. عباد الله! وعندما سمعه صاحبه المؤمن يقول ذلك قال له‏:‏{‏وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏أي‏:‏ يجادله بالتي هي أحسن لعل وعسى:‏{‏أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً‏}‏أي‏:‏ أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم صورك أطوارًا حتى صرت رجلاً سوياً، سميعاً بصيراً؟! كيف تنكر المعاد والله القادر على البدء من غير مثال سابق قادرٌ على الإعادة من باب أولى،{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. إنها حجة ساطعة ودليل واضح دامغ لا يملك أمامَهُ المنصفُ إلا التسليمَ والخضوعَ{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ*الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} وهكذا اعتز الرجل المؤمن بدينه وقيمه الثابتة، وليس بالمال الزائل فهو ممن لم يغيره المال فقد كان المال بيده فآثر ما عند الله، وفي هذا درس للمفتونين والمبهورين والمنهزمين نفسيًّا أمام الماديات الزائلة، وما أكثرَهم في زماننا!{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} لقد اعتز وفاخر بما هو أبقى وأعلى،{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي‏}فأنا أقول بخلاف ما قلت، وأعتقد خلاف معتقدك‏،‏ فأنا موحد مؤمن أقول:‏{‏هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً‏}هكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال، وأن ما عند الله خير وهو يطمع في فضل الله، لا كَمَنْ يطمع بالثراء والمكاثرة، ولأجلها لا مانع أن يداهن ويجامل على حساب دينه، غَيَّرَهُ المالُ وأضعفَ إيمانَهُ، يصلي ويرابي، يصلي ويرشي، يصلي ويسرق الأراضي، يصلي ويأكل المال العام، يصلي ويأكل أموال الناس بالباطل، انفصام في الشخصية، وتحايل وازدواجية، كل هذا من أجل التكاثر في المال، تكاثرٌ على حساب الدين والإيمان، لم تهزهم سورة يسمعونها بل و يقرأونها كثيراً: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ*كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ*ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} إي وربي لتسألن عن النعيم الذي أنتم فيه، فهل أعددتم للسؤال جواباً؟
احذرْ من الدنيا مغبتها ... كم صالحٍ عبثتْ به ففسدْ
ما بينَ فرحتها وترحتها ... إلا كما قـامَ امرؤٌ وقعدْ
ولهذا أرشد الرجل المؤمن صاحبه فقد كان الأولى بك والأبقى لمالك، والأرضى لربك، أن تقول:‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ بدل أن تعرضها للهلاك بسبب كفرك وجحود نعمة ربك، ولهذا قال بعض السلف: ((مَن أَعجَبَهُ شيءٌ مِن حالِه أو مالِه أو ولدِه، فليقل:{مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}))، فلا أقدرَ على حفظِ مالي أو دفعِ شيءٍ عنه إلا بإذنِ اللهِ، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى أن رسول الله e قال له: ((ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله))، وواصل المؤمن محاورته لصاحبه بقوله: أما أنا وسخريَّتُك بي‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ‏}أي‏:في الدنيا والآخرة، ثم قال المؤمن لصاحبه محذرًا من مغبة الطغيان والجحود، بأن الله قادر على جنتك بأن{..يُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}‏قال ابن كثير:"الظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي يقتلع زروعها وأشجارها‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً‏}‏وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه، ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً‏ ‏فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً‏}ولما لم يسمع له فعلاً حصل ما توقعه المؤمن، كما قال تعالى‏:‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ أي‏:‏ جاءه أمر أحاط بجميع حواصله، وخرب جنته ودمرها‏،فندمَ كلَّ الندامةِ، واشتدَّ لذلكَ أسفُه{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} يُصفّقُ كَفَّيهِ مُتَأَسِّفًا مُتَلَهِّفَاً عَلَى كثرةِ نفقاتِه الدنيويةِ عَلَيهَا، حيثُ اضْمَحَلَّتْ وَتَلاشَتْ، فَلَم يَبقَ لَهَا عِوَضٌ، وَنَدِمَ أَيضَاً عَلَى شركِه وشَرِّهِ، ولكنْ وَقَعَ بِهِ مَا كَانَ خَوَّفَهُ بِهِ المُؤمنُ مِن إِرسَالِ الحُسبَانِ عَلَى جنتِه، التي اغترَّ بِهَا وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللهِ U فَقَالَ نَادِمَاً مُتَحَسِّرَاً:{يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}‏ندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله، ولكن هل ينفع الندم إذا حان القدر ونفذ الأمر الحتمي:
حسبي بعلمي إن نفع ... ما الذل إلا في الطمع
من راقب الله نـزع ... عن سوء ما كان صنع
ما طار طـير وارتفع ... إلا كما طــار وق
ولا يستبعدُ من رحمةِ اللهِ ولطفِهِ، أنَّ صاحبَ هذهِ الجنةِ، التي أُحِيطَ بِهَا،
رزقَهُ اللهُ الإنابةَ إليهِ، وراجَعَ رُشدَهُ، وذَهَبَ تَمَرُّدُهُ وطُغيَانُهُ، بِدليلِ أَنَّهُ أظهرَ الندمَ على شِركِهِ بِرَبِّهِ، وأنَّ اللهَ أذهبَ عنهُ مَا يُطغِيهِ، وعَاقَبَهُ فِي الدُّنيَا، وإذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خَيرَاً عَجَّلَ لَهُ العقوبةَ فِي الدُّنيَا. وفضلُ اللهِ لا تحيطُ بِه الأوهامُ والعقولُ، ولا يُنكرُهُ إلا ظَالِمٌ جَهُولٌ.أما جنته فأصبحت{..خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، ‏أي‏:‏ خربت بالكلية فلا عودة لها، فكان الجزاء ضد ما كان يظن حيث كان يقول‏:‏{‏مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً‏}، ثم قال الله عنه:{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أي: لما نزلَ العذابُ بجنتِهِ، ذَهَبَ عَنهُ مَا كَانَ يفتخرُ بِهِ مِن قَولِهِ لِصَاحِبِهِ:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا}فأين النفرُ؟ أين العشيرة؟ أين الأصجاب؟ لِم لمْ يَدفَعُوا عَنهُ مِنَ العذابِ شيئاً، وَلَمْ يَمنَعُوهُ عنه، وَمَا كَان بِنَفسِهِ مُنتَصِرَاً، وكيفَ ينتصرُ لنفسِه؟ ولَو اجتَمَعَ أهلُ السماءِ والأرضِ على أن يمنعوه عنه ما منعوه؟ سبحان الله! ما أهون الخلق على الله إذا هم أشركوا به ولم يوحدوه، فأصبح ثمر جنته كلُّه مدمراً، كأنما أخذ من كل جانب فلم يسلم منه شيء. أصبحت جنته خاوية على عروشها مهشمة محطمة، أصبح صاحبها يقلب كفيه أسفًا وحزنًا على ماله الضائع وجهده الذاهب.
ثم يختم القرآن القصة بالتذكير أنه إذا تدخلت قدرة الله في إيقاف ظلم ظالم، أو تلقين درس لجاحد تتعطل كل قوة وتتوقف كل طاقة كأنها ليس بشيء، فقوة الله وحده ومشيئته وحدها هي التي تنفذ، فلا قوة إلا قوته، ولا نصر إلا نصره{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً*هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏الولاية لله القاهر القادر، فمن الرازق؟ من المعطي؟ من المانع؟ من المعز؟ من المذل؟ من الرافع؟ من الخافض؟{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ‏} اللهُ! هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، وهو الذي يُوَسِّعُ الرِّزقَ وهو الذي يَقْدِرُه،
توكلت في رزقي على الله خالقي وأيقنت أن الله لا شـك رازقي
وما يـك من رزقي فليس يفوتني ولو كان في قاع البحار العوامق
سيأتـي بـه الله الـكريم بفضله ولو لم يـكن مني اللسان بناطق
ففي أي شيء تذهب النفس حسرة وقد قسم الـرحمن رزق الخلائق
فاللهم اعصمنا من فتنة المال ومن الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا من أوليائك يا رب العالمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من القصص والآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد: أيها المسلمون: إن من أعظم وأهم أبواب الاعتبار: تدبر القرآن: وفي هذه القصةِ العظيمةِ، التحذيرُ من فتنةِ المالِ، والاعتبارُ بحالِ الذي أنعمَ اللهُ عليهِ نعماً دنيويةً، فألهتْهُ عن آخرتِه وأطغتْهُ، وعَصَى اللهَ فِيهَا، وأنَّ مآلَهَا الانقطاعُ والاضمحلالُ، وأَنَّهُ وإِن تَمَتَّعَ بِهَا قَلِيلاً فإنَّهُ يُحرَمُهَا طَوِيلاً.{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، اللهم فقهنا بالدين وارزقنا تدبر القرآن والعمل به يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، وكن عوناً لهم يا رب العلمين، وانتقم لهم من الظالمين، اللهم انصر جندك وكتابك وسنة نبيك، وأعل كلمة الحق، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية. اللهم أصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم ألف بين قلوبهم وقلوب رعيتهم، اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين، وارفع عنهم البلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين .
هنا
رد مع اقتباس