عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 09-13-2022, 10:43 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,213
Arrow

المطلب الثالث : أنواع الخلاف
يمكن أن نقسم الخلاف الواقع بين المسلمين إلى اختلاف التنوع واختلاف التضاد .
النوع الأول : اختلاف التنوع :
وهو ما لايكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى ، بل كل الأقوال صحيحة . وهذا مثل : وجوه القراءات ، وأنواع التشهدات (1) والأذكار .
( 1 ) انظر أنواعًا من صيغ التشهد في : صفة صلاة النبي ... / للألباني / تحت عنوان : صيغ التشهد / ص : 161 .
فمن قرأ مثلاً في الفاتحة " مالك يوم الدين " وهو يعلم صحة من قرأ : " ملك يوم الدين " ، فلا يكون هذا مناقضًا لهذا ، فالكل يعلم أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ومن يقرأ في التشهد بتشهد ابن مسعود لا يرى مانعًا من تشهد ابن عباس ـ رضي اللهعنهما ـ ، أو تشهد عمر ـ رضي الله عنه ـ .
ومن هذا الباب : الواجب المخير مثل " كفارة اليمين " :
قال تعالى " لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهَ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ ... "سورة المائدة / آية : 89 .
فأي واحد من الثلاثة فعل ، من الإطعام أو الكسوة أو العتق ، أجزأه وهو يفعل واحدًا منها مع اعتقاده أن غيره من الثلاثة صحيح ، أما الصيام فلا يجوز الانتقال إليه إلا إذا عدمت الثلاثة .
ومن هذا الباب : تنوع الأعمال الصالحة (2) .
( 2 ) مثال تنوع الأعمال الصالحة يُرجع إلى :
صحيح البخاري . متون / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 4 ) ـ باب : الريان للصائمين / حديث رقم : 1897 / ص : 214 .
وخلاصة القول في اختلاف التنوع أنه من مقتضيات الرحمة ومظاهرها ، وأنه لابد من استثماره لتحقيق التكامل بين المسلمين والترابط .
· النوع الثاني : اختلاف التضاد :
وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويُحكم بخطئه أو بطلانه ، وهو يكون في الشيء الواحد ، يقول البعض بحرمته والبعض بحله .
وهذا النوع من الخلاف ينقسم إلى نوعين :
النوع الأول : خلاف سائغ غير مذموم .
النوع الثاني : خلاف غير سائغ مذموم .
أولاً : النوع الأول : الخلاف السائغ غير المذموم :
ـ تعريفه :
وهو الخلاف الذي لا يخالف نصًا ، من كتاب ، أو سنة صحيحة ، أو إجماعًا ، أو قياسا جليًا ومعنى " النص " هنا ، ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا لا اجتهاد في فهمه على وجوه متعددة ، وليس مجرد وجود حديث أو أحاديث في الباب ـ فقد توجد ـ لكن تكون دلالاتها مُحْتَمَلَة ، ووجوه الجمع مختلفة ، والتصحيح والتضعيف محل نظر . فلا يكون في المسألة نص .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" والصواب الذي عليه الأئمة ، أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيه دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه " .فقه الخلاف .بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي.. / ص : 26 .
* أسباب هذا الخلاف السائغ :
1ـ من هذه الأسْبَاب أن الشرع لم ينصب دليلاً قاطعًا على كل المسائل ، بل جعل دليلاً ظنيًا يحتاج لبحث واجتهاد ونظر ، يقوم به من حَصَّلَ مقومات الاجتهاد والنظر .
2 ـ ومنها أن أفهام العباد مختلفة متفاوتة ، قد فضل الله بعضهم على بعض فيها ، فما يدركه هذا لا يفهمه هذا ، وما يراه الواحد قد يغيب عن الآخرين ، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا ... " (1) . سورة الأنبياء / آية : 79 .
فخص سليمان بالتفهيم .
( 1 ) وذلك عندما حكم سليمان بين المرأتين ، وجعل الطفل للصغرى .
* فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال " بينما امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما .
فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنكِ أنتِ .
وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنكِ .
فتحاكمتا إلى داود . فقضى به للكبرى . فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام
فأخبرتاه .فقال : ائتوني بالسكين أشقُّه بينكما . فقالت الصغرى : لا ، يرحمك الله ! هو ابنها . فقضى به للصغرى " .قال : قال أبو هريرة : والله ! إن سمعتُ بالسكين قط إلا يومئذٍ . ما كنا نقولُ إلا المُدْيَةَ . صحيح مسلم . متون / ( 30 ) ـ كتاب : الأقضية / ( 10 ) ـ باب :بيان اختلاف المجتهدين / حديث رقم : 1720 / ص : 448 .
3 ـ ومنها أن قدرة العباد على البحث والاجتهاد مختلفة أيضًا ، فما يقدر عليه البعض يعجز عنه البعض ، وكلٌّ مكلف بما يقدر عليه .
قال تعالى "لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ... " . سورة البقرة / آية : 286 .
4ـ ومنها اختلاف طريقة التعلم والتعليم بين علماء المسلمين في بلادهم المختلفة ، وقد فطر الله العباد على التأثر بما تعلموه أولاً .
مثلاً : هناك بعض البلاد تدرس الفقه على مذهب الإمام أحمد أي على المذهب الحنبلي ، فنجد كل العلماء في هذا القطر متأثرون إلى حد كبير بهذا المذهب ، ويظهر هذا في
كتبهم ، واجتهادهم .
ـ ومعرفة هذه الأسباب ضرورة في إدراك التعامل الصحيح مع هذا الاختلاف . فإذا علمنا أن هذه الأسباب لا يمكن إزالتها ، عرفنا أن الاجتهاد في معرفة الصحيح من مسائل الاختلاف ، وما يرجحه البعض من أهل العلم فيها بما وصل إلى فهمه وعلمه من أدلة ، وبحسب قدرته على النظر والبحث والاجتهاد ، لن يلغي اجتهاد غيره ، ولن
يُخْرِج المسألة عن كَوْنِهَا من مسائل الاجتهاد ، وبالتالي لا تضيق الصدور بوجود هذا ـ الاختلاف ـ بين أهل العلم ، خاصة بين أهل السنة وأتْبَاع السلف ، كما يحدث لدى
كثير ممن تعوَّد السؤال عن الراجح من الأقوال ، وظن أن كل مسألة فيها قول راجح مطلقا ، ولم يتفطن أنه راجح عند فلان ، ومرجوح عند غيره ، ولاشك أن السؤال عن الراجح من الأقوال والأدلة أمر محمودمن طالبالعلم ، ودليل على ورعه وعدم حرصه على تعدد الأقوال لينتقي بشهوته أطيبها وأقربها إلى رغبته كما يفعل ـ البعض ـ ، ولكن لابد من تعميق فقه مسائل الاختلاف السائغ ، حتى لا تدخل عنده في قضية البغض في الله ، والمعاداة في الله رغم اتفاق السلف على خلاف ظنه .
فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي... / ص : 27 / بتصرف .
*وليكن الحوار الهادئ الذي نلتزم فيه بما أدبنا به العلماء ، وكما نعرفه من طرقهم في البحث والمناظرة والرد الرفيق على المُخَالف ، ليكن هذا الحوار هو الأسلوب الذي ينتهجه المسلمون في خلافاتهم حـول المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف والاجتهاد ، وليبذل كل منا جهده في معرفة الحق والعمل به ، وليعذر الآخرين داعيًا للجميع بالهداية والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه والقبول عنده سبحانه . فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي. / ص : 38 .
* ثمرة معرفة أسباب الخلاف السائغ :
عند معرفة أسباب الخلاف وأنه لا سبيل لإزالتها يجعلنا لا نحاول السير في طريق يتمناه البعض لقلة فهمه لهذه المسائل ، ولقراءته لواحد من أهل العلم ، أو تلقيه منه دون غيره ، ألا وهو محاولة توحيد الأمة في كل المسائل على قولٍ واحدٍ ، وقد يتعمق هذا لدى بعض المبتدئين من طلاب العلم حين يَجد كثيرًا من العلماء خاصة المعاصرين ينتصر لقول
مُضَعفًا ما سواه ، بل ربما لا يشير إلى الخلاف أصلاً فضلاً عن الإشارة إلى درجته ، وهل هو سائغ أم غير سائغ ، ولاشك أن هذا مسلك ما سلكه أحدٌ من أئمة العلم ، بل المشهور عنهم رده على مَنْ طلبه منهم .
روى ابنُ عساكر أن أبا جعفر المنصور سأل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أن يحمل الناس على كتابِهِ " الموطأ " . فقال له " الإمام مالك " لا تفعل هذا ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات ، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم ، وإن ردَّهم عما اعتقدوا شديد ، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلدٍ منهم لأنفسهم .فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 28 .
* أمثلة للاختلاف السائغ :
1 ـ في الأمور الاعتقادية والعلمية :
*********************
يندر في أصول الأمور الاعتقادية والعلمية هذا النوع من الخلاف ، بل أصولها الكبرى من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر والقدر ، كلها إما من المعلوم من الدين بالضرورة ، أو المُجْمَع عليه بين أهل العلم .
والمقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة : ما انتشر بين المسلمين حتى علمه الخاص والعام والعالم والجاهل .
وأما المجمع عليه بين أهل العلم : فهو الذي يعرف العلماء الإجماع فيه ، وإن لم يكن منتشرًا بين عوام المسلمين .
لكن توجد في بعض تفاصيل ذلك (1) بعض الاختلافات السائغة أشار إليها العلماء ، كما ذكر ابن تيمية ، من ذلك : الخلاف في رؤية النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ربه .
( 1 ) " ذلك " : أي في بعض تفاصيل الأمور الاعتقادية والعلمية .
ومنها الخلاف في تسمية أفعال الرب حوادث مع الإجماع على أنها ليست مخلوقة ، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين عند من أجاز ذلك كالإمام البخاري وابن تيمية وابن القيم ـ رحمهم الله ـ .فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي / ص : 29 .
2 ـ في الأمور العلمية والفقهية :
وهي أكثر من أن تحصى .
مثاله : الاختلاف في كثير من أمور الوضوء والصلاة ، كوجوب المضمضة والاستنشاق أم استحبابهما ، ووجوب الترتيب في الوضوء أم استحبابه ، ووضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد ـ القيام ـ من الركوع أم إرسالهما ، والنزول على الركبتين أم على اليدين ... . فقه الخلاف ... / ص : 32 .
تنبيه هام :
ـــــ
ليس معنى أن الخلاف في المسألة خلاف سائغ ، أنه يجوز لكل واحد أن ينتقي بالتشهي أيًّا من القولين دون اجتهاد .
قال أبو عمر بن عبد البَر في جامع بيان العلم وفضله / ص : 360 .
" أجمع العلماء ـ على ـ أنه لا يجوز تتبع رخص العلماء ، فضلاً عن الزلات والسقطات " . ا . هـ .
فالواجب على الإنسان على حسب مرتبته في العلم الآتي :
1ـ " العالم المجتهد " يلزمه البحث والاجتهاد ، وجمع الأدلة ، والنظر في الراجح منها ، فما ترجح عنده قال به وعمل به وأفتى .
وما أحراه في المسائل التي تعم بها البلوى أن يشير إلى الخلاف فيها مع بيان ما يراه صوابًا .
2ـ " طالب العلم المميِّز القادر على الترجيح " : عليه أن يعمل بما ظهر له دليله من أقوال العلماء .
3ـ " العامي - العامي : مشتقة من العمى . المقلد العاجز عن معرفة الراجح بنفسه " : عليه أن يستفتي الأوثق الأعلم من أهل العلم عده ، ويسأله عن الراجح ، فيعمل به في نفسه ، ويجوز نقله لغيره من غير إلزام لهم به ، ومن غير إنكار على من خالفه بأيٍّ من درجات الإنكار . أما ما يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ أو غير السائغ ، بأخذ ما يشتهي ، بل يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم ، ويفتي البعضُ بجواز التلفيق بين المذاهب ، لا بحسب الأدلة والاجتهاد ، بل بمجرد موافقته ما يظنونه مصلحة أو تيسيرًا على الناس ، أو أن الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لم يُخَيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، فهذا من الخطأ العظيم المخالف للإجماع القديم كما نقله " أبو عُمَر بن عبد البر " ، فإنما اختيار الأيسر هو في الأمور الاختيارية .
أما ما كان فيه إثم وحلال وحرام وواجب ومندوب ، فلابد من الترجيح والاجتهاد علىحسب درجة كل واحد كما سبق بيانه ، وهذا في الخلاف السائغ ، فما بالك في الخلاف غير السائغ كما يأتي تفصيله إن شاء الله . فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي... / ص : 34 .
رد مع اقتباس