عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-18-2021, 08:38 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,225
Post

وإن من مُؤكِّدات سعادة المرء في دنياه: أن يدرك أبويه على قيد الحياة؛ لينهل من مَعِين برِّهما، ويرتوي من كيزان حنانهما، ويستظل بفيء رضاهما، فهما جناحاه في جوِّ الدنيا، وزخرفها الفانية، وهما موئله الحاني حينَ تعترضه مواجعُ الحياة وأكدارُها، فإن الشيب الذي يراه وَخَطَ أبويه إنما يلخِّص له قصةَ النعيم الذي يعيشه في حاضره، إنهما مَنْ شَقِيَا لِيسعَدَ، ومَنْ نصبَا كي يستريح، إنهما لَيسهران لأجل أن يرقد، ويخافان ليطمئن، وترتعد فرائصهما، ويحتبس دمعهما حين يخرج، فلا يرتدُّ إليهما الأمنُ إلا حين عودته.

الأبوان -عباد الله- هما من يبكيان ليبتسم أولادُهما، وهما مَنْ يحزنان ليفرح أولادهما، وهما مَنْ يشقيان ليسعد أولادهما، إنهما اللذان يجوعان ليشبعوا، ويعطشان ليرتووا، إنهما -في الحقيقة- كتلكم الشمعة التي تحترق حتى تذوب ليستضيء الأولاد باحتراقها، إنه قلب الأم، والله -جل وعلا- يقول"وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا"الْقَصَصِ: 10، وإنها عينُ الأب، واللهُ -جل شأنه- يقول "وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ"يُوسُفَ: 84.

إنها غاية المشاعر الجيَّاشة، والعواطف النابضة، أن يفرغ قلبُ الأم، وأن تبيضَّ عينُ الأب لأجل أولادهما؛ "فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"الْإِسْرَاءِ: 23-24.

فيا لله ما أسعدَ مَنْ مات عنه أبواه أو هو مات عنهما وهما عنه راضيان، لِلَّهِ ما أسعدَه وما أهناه، ولله ما أحسَنَ ما جاء عن إياس بن معاوية أنه لما ماتت أمه بكى عليها بكاء شديدًا، فلما سئل قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأُغلِقَ أحدُهما.

ثم يا لله ما أخيب من ماتا عنه أو مات عنهما، وهما عليه غاضبان، ألَا ما أضلَّه وما أخسَرَه، بعدًا له وسحقًا، فإن الله قد قرن الإحسان بهما مع عبادته فقال"وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"النِّسَاءِ: 36.

وقرن شكرهما مع شكره فقال"أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ"لُقْمَانَ: 14، بل إن الله -جل وعلا- جعل بر الوالدين من أسباب قبول العمل، والتجاوز عن السيئات، كما قال في كتابه"وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ"الْأَحْقَافِ: 15-16.

وقد قال الفاروق -رضي الله عنه- لأويس القرني: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "يأتي عليكم أويس بن عامر..." الحديث، إلى أن قال "له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي فاستغفر له"رواه مسلم.
رد مع اقتباس