عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 12-18-2021, 08:56 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,224
Post

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على رسوله الداعي إلى رضوانه.
وبعدُ: واعلموا أن للثمر بذرًا، وللبذر سقاية، فكذلكم البِرُّ، له بذرٌ وله سقايةٌ، فحريٌّ بالوالدين أن يُحسِنا تربيةَ الأبناء وينشئانهم نشأً صالحًا، وإنما يكون الجذاذ يومَ الحصاد، فعند الجذاذ يتبيَّن حلوُ الثمار من مُرِّها، ومَنْ أحسَن غراسه حَسُنَ قطافُه؛ "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ"الْأَعْرَافِ: 58.
ثم اعلم أيها الأب، واعلمي أيتُها الأمُّ: أن بر الوالدين نتيجةٌ لمقدمة سابقة من التربية الصالحة، والعاطفة الحميدة، والبذل الحسن، فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم؛ ليكونوا لكم في البر سواء.
دخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان، ويزيد ابنه بين يديه، فقال معاوية سائلًا الأحنفَ: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟، فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين، هم عمادُ ظهورِنا، وثمرُ قلوبِنا، وقرَّة عيوننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخَلَفُ منَّا لمَنْ بعدنا، فكن لهم أرضًا ذليلةً، وسماءً ظليلةً، إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوكَ فأعتبهم، لا تمنعهم رفدكَ فيملُّوا قربَكَ، ويكرهوا حياتكَ، ويستبطئوا وفاتَكَ، فقال معاوية: لله درُّكَ يا أبا بحر، هم كما وصفتَ".
ثم احذروا -أيها الأولاد- أشدَّ الحذر من أن يدعو عليكما الأب أو الأم، فإنه لا يدعو أحدٌ منهما على ولده إلا لعقوق عظيم نالَه منه، بعد أن حمَلَه صغيرًا، وأطعَمَه جائعًا، وكفكف دمعه باكيًا، فلمَّا شبَّ عن الطوق ورأى أنه قد استغنى بعقله وقواه سلَّ سيفَ عقوقه من غمده، وانتزَع سهمَ نكرانه إلى قوسه، فلمثل ذلكم تخرُج الدعواتُ الصادقاتُ منهما، فويلٌ لِمَنْ دعا عليه أبواه، ويلٌ له، ثم ويلٌ له، فإنَّ الدعوات لا ينطقها إلا لسانُ أمٍّ، أو أبٍ سحَقَهما الإحساسُ بعقوق ولدههما سَحقًا، وشَرِقًا بمرارة جحوده شرقًا، ولا تسألوا حينئذ عن نفس منكسرة، ومرارة تُذكِي تلكم الدعواتِ، ولا عجبَ؛ فهي دعوةُ مكلومٍ قمنٌ أن يُستجاب لها، كما نقَل بعضُ أهل العِلْم عن أحد السالفين يدعو على ولده العاق قائلا:
تغمَّد حقِّي ظالمًا ولَوَى يدي *** لوى يدَه اللهُ الذي هو غَالِبُهْ
وإنِّي لداعٍ دَعْوةً لو دعوتُها *** على جبلِ الريَّانِ لانفضَّ جانبُهْ
أيَظلِمُني مالِي ويحنَثُ أَلوَتِي *** فسوف يُلاقِي ربَّه فَيُحَاسِبُهْ
فابتلى الله هذا الابن العاق بابن أعق منه، نسأل الله لنا ولكم العافية.
فاتقوا الله -أيها الأولاد- وإياكم واحتقارَ كلمة "أُفٍّ"، فهي وإن كانت من أقل الكلمات حروفًا، وأهونها نطقًا، إلَّا أنها من أبينها جرمًا وأوجزها عقوقًا، واعلموا كذلكم أنه مَنِ اتقى والداه ردودَ أفعاله فهو عاقٌّ دونَ ريبٍ، وأنه كما قال عروة بن الزبير: "ما بَرَّ والديه مَنْ أَحَدَّ النظرَ إليهما".
ثم لتتقي الله أيتها الزوجة، وأنت أيها الزوجُ، وليكن كلُّ واحد منكما عونًا للآخَر على بر والديه، فبئسَتْ زوجاتُ الأبناء، وبئس أزواجُ البنات، إذا كانوا عقبة كئودًا دون بر الوالدين وصلتهم؛ "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"الْمَائِدَةِ: 2.
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"الْأَحْزَابِ: 56، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والآثام، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، يا سميع الدعاء.
"رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"الْبَقَرَةِ: 201.
عباد الله: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


الشيخ الدكتور: سعود بن إبراهيم الشريم
رد مع اقتباس