عرض مشاركة واحدة
  #30  
قديم 06-07-2017, 05:00 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,213
Arrow

"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا *".28 الكهف
يأمر تعالى نبيه محمدا, صلى الله عليه وسلم, وغيره أسوته, في الأوامر والنواهي أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين " الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ " أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله.
فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها.
ففيها الأمر, بصحبة الأخيار, ومجاهدة النفس على صحبتهم, ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد, ما لا يحصى.
" وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ " أي: لا تجاوزهم بصرك, وترفع عنهم نظرك.
" تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " فإن هذا ضار غير نافع, وقاطع عن المصالح الدينية.
فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا, فتصير الأفكار والهواجس فيها وتزول من القلب, الرغبة في الآخرة, فإن زينة الدنيا, تروق للناظر, وتسحر القلب, فيغفل القلب عن ذكر الله, ويقبل على اللذات والشهوات فيضيع وقته, وينفرط أمره, فيخسر الخسارة الأبدية, والندامة السرمدية ولهذا قال: " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا " غفل عن الله, فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
" وَاتَّبَعَ هَوَاهُ " أي: صار تبعا لهواه, حيث ما اشتهت نفسه فعله, وسعى في إدراكه, ولو كان فيه هلاكه وخسرانه, فهو قد اتخذ إلهه هواه كما قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم " الآية.
" وَكَانَ أَمْرُهُ " أي: مصالح دينه ودنياه " فُرُطًا " أي: ضائعة معطلة.
فهذا قد نهى الله عن طاعته, لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به, ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به.
ودلت الآية, على أن الذي ينبغي أن يطاع, ويكون إماما للناس, من امتلأ قلبه بمحبة الله, وفاض ذلك على لسانه, فلهج بذكر الله, واتبع مراضي ربه, فقدمها على هواه, فحفظ بذلك ما حظ من وقته, وصلحت أحواله, واستقامت أفعاله, ودعا الناس إلى ما من الله به عليه.
فحقيق بذلك, أن يتبع ويجعل إمامًا.
والصبر, المذكور في هذه الآية, هو الصبر على طاعة الله, الذي هو أعلى أنواع الصبر, وبتمامه يتم باقي الأقسام.
وفي الآية, استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار, لأن الله مدحهم بفعله.
وكل فعل مدح الله فاعله, دل ذلك على أن الله يحبه, وإذا كان يحبه فإنه يأمر به, ويرغب فيه.
تفسير السعدي

قوله تعالى" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ " أي احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، اجلس إليهم وقوِّ عزائمهم.
وقوله" بِالْغَدَاةِ " أي أول النهار.
وقوله"وَالْعَشِيِّ" آخر النهار.
قوله"يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" مخلصين لله عزّ وجل يريدون وجهه ولا يريدون شيئاً من الدنيا، يعني أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحدٍ سواه.
وفي الآية إثبات الوجه لله تعالى ، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى بدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى"وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *"الرحمن: 27 . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعوذ بوجهك» [*]، وأجمع سلف الأمة وأئمتُها على ثبوت الوجه لله عزّ وجل.
* لما نزلت هذه الآيةُ "قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ" . قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم " أعوذُ بوجهِكَ " . فقال"أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ " . فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" أعوذُ بوجهِكَ " . قال " أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا " . فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : هذا أيْسَرُ .
الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7406- خلاصة حكم المحدث: صحيح.
الدرر السنية
"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ"


الأنعام 65


ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلاً لأوجه المخلوقين؟
الجواب: لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلاً لأوجه المخلوقين لقوله تعالى"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" الشورى: 11 . وقوله تعالى"رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا " مريم: 65 ، أي شبيهًا ونظيرًا، وقال الله تبارك وتعالى "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"البقرة: 22 .
وهكذا كل ما وصف الله به نَفْسَهُ فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، ولكن بدون تمثيل، فإن قال قائل: إذا أثبتّ لله وجهًا لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"الشورى: 11 ، يعني إلاَّ في ما أثبته كالوجه واليدين؟
فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حساً وعقلاً أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجَمَلِ وجه، وللحصان وجه وللفيل وجه؟ بلى، وهل هذه الأوجه متماثلة؟ لا؛ أبداً! بل تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ"آل عمران: 72 ، فأثبت أن للزمن وجهاً، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن وجه النهار مثل وجه الإنسان؟.
الجواب: لا يمكن، إذاً ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف . فإن قال قائل: إنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته» 19، فما الجواب؟
فالجواب: من أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن يقال: لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلاً له، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأن أوَّل زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر 20، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورة القمر من حيث العموم إضاءةً وابتهاجاً ونورًا. الوجه الثاني: أن يقال: «على صورته» أي على الصورة التي اختارها الله عزّ وجل، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم كما في قوله تعالى"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"البقرة: 114 ، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم وعلى أنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح عليه السلام لقومه"نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا"الشمس: 13] ، ومن المعلوم أن هذه الناقة ليست لله كما تكون للآدمي يركبها؛ لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون «خلق آدم على صورته» أو «على صورة الرحمن»21 ، يعني على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات، قال الله تعالى في سورة الانفطار: " يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ "الانفطار: 6، 7 ، أي الذي جعلك جعلا كهذا وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة، ففهمنا الآن والحمد لله أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين . وقوله"يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" إشارة للإخلاص، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل.
وقوله"وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" يعني لا تتجاوز عيناك عن هؤلاء السادة الكرام تريد زينة الحياة الدنيا، بل اجعل نظرك إليهم دائماً وصحبتك لهم دائماً، وفي قوله"تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" إشارة إلى أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لو فارقهم لمصلحة دينية لم يدخل هذا في النهي.
قال تعالى"وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا" يعني عن ذكره إيَّانا أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه، وعلى الثاني يكون المراد الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأسًا ولم ير في مخالفته بأسًا.
قوله تعالى"وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" أي ما تهواه نفسه.
"وَكَانَ أَمْرُهُ" أي شأنه "فُرُطًا" أي منفرطًا عليه، ضائعًا، تمضي الأيام والليالي ولا ينتفع بشيء، وفي هذه الآية إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنْزَع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فُرطا عليه ، تجده يبقى الساعات الطويلة ولم يحصل شيئًا، ولكن لو كان أمره مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله.
تفسير العثيمين
رد مع اقتباس