عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 05-12-2017, 03:51 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,225
Exclamation

الرابع عشرالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
تابع لا عيش إلا عيش الآخرة
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد، أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص، القرشي الأُموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد، أشجُّ بني أمية.
وأمه: هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.سبط عمر بن الخطاب .عمرُ بن الخطاب جدُّه لأمِّهِ.
ولادته:ولد عمر بحلوان قرية بمصر و أبوه أمير عليها سنة إحدى وقيل ثلاث وستين
وأما سبب تسميته بأشج بني أمية: فعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال: دخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى إصطبل أبيه فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد. هنا .
سبب وفاته رحمه الله
-
قيل-كان سببها السُّل ، وقيل: سببها أن مولى له سَمَّهُ في طعامٍ أو شراب ، وأعطي على ذلك ألف دينار . فحصل له بسبب ذلك مرض ، فأخبر أنه مسموم ، فقال : لقد علمت يوم سقيت السم . ثم استدعى مولاه الذي سقاه ، فقال له : ص: 715-ويحك ، ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : ألف دينار أعطيتها . فقال : هاتها . فأحضرها فوضعها في بيت المال ، ثم قال له : اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك . البداية والنهاية .
دامت خلافة عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- سنتين وخمسة أشهر.

زهد وورع البخاري
التعريف بهوهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَردِزبَة الجعفي البخاري ، كان جده المغيرة مولى لليمان الجعفي والي بخارى ، فانتسب إليه بعد إسلامه . ولد ببخارى سنة 194 هـ ونشأ يتيما و أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة ولما شب قام برحلة فقصد مكة وأدى فريضة الحج وبقي في مكة زمنا يتلقى العلم على أئمة الفقه والأصول والحديث, ومن ثَم بدأ يرحل ويتنقل من صقع إسلامي إلى آخر على مدى ست عشرة سنة كاملة , طاف فيها بكثير من حواضر العلم يجمع فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى جمع ما يزيد على 600.000حديث ورجع إلى ألف محدث وناقشهم فيها وكانوا ممن عُرفوا بالصدق والتقوى وصحة العقيدة , ومن هذه الجملة الكبيرة من الأحاديث انتقى كتابه الصحيح متبعا في بحثه عن صحتها أدق الأساليب العلمية , في البحث والتنقيب وتمييز الصحيح من السقيم ، وانتقاء الرواة حتى أودع كتابه أصح الصحيح ، ولم يستوعب كل الصحيح . واسماه ( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه .
وأراد أمير بخارى أن يأتي البخاري إلى بيته ليعلّم أولاده ويُسمعهم الحديث , فامتنع البخاري وأرسل إليه : " في بيته يؤتى العلم" أي أن العلم يؤتى ولا يأتي ومن أراد العلماء فليذهب إليهم في المسجد والبيوت ، فحقد عليه وأمر بإخراجه من بخارى , فنزح إلى قرية (خرتنك) القريبة من (سمرقند) وفيها له أقارب , فأقام فيها إلى أن مات سنة 256 هـ عن 62 عاما. رحمه الله رحمة واسعة .الإسلام سؤال وجواب .
كبيرُ الحفَّاظ وإمام الأئمَّة, أمير المؤمنين في الحديث, الحافظ الحفيظ الشَّهير, المميز الناقد البصير, فخر الأمة, الإمام الهمام الذي شهدت بحفظه العلماء الأثبات, واعترف بضبطه المشايخ الثّقات, حجة الإسلام وعلمه المقدم, العالم العامل الكامل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريِّ.
وُلِدَ الإمام البخاريُّ يومَ الجمعة بعدَ الصلاة لثلاث عشرة ليلةٍ خلت من شوال سنة 194هـ بمدينة بخارى, وكان أسمرَ نحيف الجسد ليس بالطويل ولا بالقصير.
بيئته العلمية وأثرها عليه
البخاريُّ كما قال عنه القسطلانيُّ أحدُ شراح صحيحه: "قد ربا في حجر العلم، حتى ربا, وارتضع ثدي الفضل, فكان على هذا اللبا".
فلا شكَّ أنَّ طيب أصل البخاريِّ وبيئته العلميَّة الخالصة كان له أثرٌ كبير وخطير في توجه البخاري في حياته, فأبوه إسماعيل بن إبراهيم كان من الثِّقات، سمع من مالك وحمَّاد بن زيد وابن المبارك, وأمُّه كانت من العابدات الصالحات, صاحبةَ كرامات عظيمة, فقد كفَّ بصرُ البخاريِّ وهو طفل صغير، فقامت تدعو وتُصلِّي وتبكي وتبتهل, حتى رد الله -عزَّ وجلَّ- بصر ولدها، وذلك من كمال حكمته -عزَّ وجلَّ- لما كان ينتظر هذا الصبيَّ من مستقبلٍ مبهر في سماء العلوم والمعارف.
وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه, فنشأ البخاريُّ يتيماً في حجر أمه, وكانت أمه عاقلة صالحة فدفعت به إلى طريق العلم والحديث منذ نعومة أظافره, وقد لاحظت أمُّه أنه يمتلك حافظة فريدة, فدفعت به إلي حِلَق السَّماع وهو في سن السابعة, وقيل وهو في سن العاشرة, فكان يجلسُ إلى المعلم في الكُتَّاب حتى العصر، بعدها ينطلقُ إلي مجلس الإمام الداخليِّ من كبار محدثي بخارى، ليسمع منه الحديث ويكتبه.
ظهرت أولى علامات نبوغه ونجابته المبكرة، وهو في سن الحادية عشرة عندما أصلح رواية حديثٍ لشيخه الدَّاخلي, ورجع الداخليُّ لقوله, ولما بلغ السادسة عشر كان قد حفظ كتبَ ابن المبارك ووكيع
أخلاقه وعبادته
من الأمور الثَّابتة في سجل علماء الأمة الربَّانيِّين, أن لن تجد أحدًا منهم مسرفًا على نفسه, أو مفرطاً في حق ربِّه, أو سيئ الأخلاق مع الناس, فعلماءُ الأمة الكبار وأئمَّتها الأعلام قد كمُل حالهم علماً وعملاً وخلقاً وديانة, والبخاريُّ على نفس الدرب يسير, فلقد كان زاهداً عابداً كريمًا سمحًا متواضعًا شديد الورع.
قال ابنُ مجاهد: "ما رأيتُ بعينيَّ منذ ستين سنةً أفقهَ, ولا أورعَ ولا أزهدَ في الدنيا من محمد بن إسماعيل", فقد كان البخاريُّ يأتي عليه النهار, فلا يأكل فيه شيئاً سوى لوزتين أو ثلاثة, كان ذات مرةٍ بالبصرة فنفدت أمواله، فمكث في بيته عدة أيام لم يخرج، لأنه لم يجد ما يسترُ به بدنه, ورغم زهده ورقَّة حاله، إلا أنه كان جواداً سمحاً كثير الصَّدقة, واسعَ الصَّدر, عظيم الاحتمال, سهل الجناب, يُقابل الإساءة بالإحسان, يترك كثيراً من الحلال خشية الشُّبهة والوقوع في الحرام, والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ومنها:
أنَّه كان في بيته ذاتَ مرَّة, فجاءت جاريتُه، وأرادت دخولَ المنزل, فعثرت على محبرة بين يديه, فقال لها كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق, كيف أمشي؟ فبسط يديه, وقال: اذهبي, فقد أعتقتك, فقيل له: يا أبا عبد الله, أغضبتك الجارية؟ فقال: إن كانت أغضبتني, فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت.
قال البخاريُّ يوماً لأبي معشر الضَّرير: اجعلني في حِلٍّ يا أبا معشر, فقال: من أيِّ شيءٍ؟ فقال: رويتُ حديثاً, فنظرتُ إليك وقد أعجبتَ به وأنت تُحرِّك رأسك ويديك، فتبسَّمتُ من ذلك, قال: أنتَ في حِلٍّ, يرحمُك اللهُ يا أبا عبد الله.
قام يُصلِّي يومًا فلدغه زنبور سبعةَ عشر مرة, فلم يَقطع صلاته ولمَّا عوتب في ذلك، قال: كنت في سورةٍ, فأحببتُ أن أُتِمَّها, وكان يُصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة, أما في رمضان فكان له نهجُه التعبديُّ الخاص به, فقد كان يجتمع إليه أصحابه, فيُصلي بهم, ويقرأُ في كل ركعة عشرين آية, وكذلك إلى أن يختم القرآن, وكان يقرأ في السَّحر, ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن, فيختم عند السَّحر, في كلِّ ثلاث ليال, وكذلك يختمُ بالنَّهار في كل يومٍ ختمة, ويكون ختمُه عند الإفطار كلَّ ليلة، ويقول: عند كلِّ ختمةٍ دعوةٌ مستجابة.
كان البخاريُّ رغم مكانته العلمية السامقة، وانشغاله الدائم بالدرس والعلم والرحلة، إلا أنه كان يشترك في أمور المسلمين العامَّة وشئونهم الهامَّة, فلقد كان يُرابط بالثُّغور وينتظم في حلقات الرِّماية, ويحملُ فوق رأسه الآجُرَّ في بناء الربط.هنا.


محنته ووفاته
ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته..
أ. شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي
الكلام عن محنة البخاري يُثير في القلب شُجونًا وأحزانًا وآلامًا كثيرة؛ ذلك لأنَّ هذه المحنة بالذات ما زالت أصداؤها تتردَّد لوقتنا الحاضر، ولكن بصورة مختلفة وبأوجه جديدة، وما زالت ضروبُ هذه المحنة وأقرانها تقع كلَّ يوم وفي كل عصر وجيل، ولُبُّ هذه المحنة وأساسها الغيرة والحسد بين الأقران، فهي -كما قال البخاريُّ رحمه الله نفسه في وصيته-: "لا يسلم عالمٌ متقدِّم على أقرانه من ثلاثة أمور: طعنُ الجهلاء وملامةُ الأصدقاء وحسدُ العلماء، وهو عينُ ما جرى للبخاريِّ في محنته".
وبدأت فصول محنة البخاريِّ عندما توجه إلى مدينة نيسابور، وهي من المدن الكبيرة في خراسان، فلمَّا وصل إليها خرج إليه أهلُها عن بكرة أبيهم، فلقد استقبله أربعةُ آلاف رجل رُكبانًا على الخيل سوى من ركب بغلاً أو حمارًا، وسوى الرِّجال، وخرج الوُلاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يدخل المدينة بمرحلتين أو ثلاثة [قرابة المائة كيلو متر مربع] وبالغوا في إكرامه بصورةٍ لم تكن لأحد قبله ولا حتى بعده.
ومن روعة الاستقبال وعظيم التقدير والاحترام الَّذي وجده البخاريُّ بنيسابور، قرَّر المقام فيها لفترةٍ طويلة واتَّخذ فيها دارًا، وأخذ علماءُ نيسابور في حضِّ طلبة العلم على السَّماع من البخاريِّ، وكان رأسُ علماء نيسابور وقتها الإمامُ محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا ليس في نيسابور وحدها بل في خراسان كلِّها، الناسُ يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذُّهليُ ممن حض الناس على الجلوس للبخاريِّ وحضور مجالسه ودروسه، والذُّهليُّ نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاريِّ، حتى إنه كان يمشي خلف البخاريِّ في الجنائز، يسأله عن الأسامي والكُنى والعِلل، والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السَّهم.
ومع استقرار البخاريِّ في نيسابور، أخذت مجالسُ التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاريِّ حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذُّهلي نفسه، عندها تحرَّكت النوازعُ البشرية المركوزة في قلوب الأقران، فدبَّ الحسد في قلب الذُّهليِّ وتسلَّلت الغيرةُ المذمومة إلى نفسه شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر به لأن يخوضَ في حقِّ البخاري ويتكلمَ فيه ويرميه بتُهمةٍ البخاريُّ بريءٌ منها، فما هذه التُّهمة يا تُرى والتي كانت سبب محنة البخاريِّ؟
هذه التهمةُ هي تهمة اللفظية، وهي تعني قول القائل: أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فقد قال لأصحاب الحديث إنَّ البخاريَّ يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناسُ مجلس البخاريِّ، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقولُ في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرضَ عنه البخاريُّ ولم يُجبه، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاريُّ، وقال: "القرآنُ كلام الله غيرُ مخلوق، وأفعال العباد مخلوقةٌ، والامتحان بدعة"، أي: إنَّ البخاريَّ قد أدرك مغزى السؤال، وعلم أنه من جنس السؤالات التي لا يُراد بها وجه الله -عزَّ وجلَّ-، وإنَّما يُراد بها امتحانُ العلماء وإثارة الفتن والفرقة بين الناس، فشغب الرجل السائل على مجلس البخاريِّ، فقام الإمام منه.
بعد هذه الحادثة أخذ الذُّهليُّ في التشنيع على البخاريِّ، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاريُّ قول اللَّفظيَّة واللفظيَّة عندي شرٌّ من الجهميَّة، ومَن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذُّهليُّ في التشنيع والهجوم على البخاريِّ، ونادى عليه في الناس ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كلَّ من يحضر مجلسه ألا يجلس للبخاريِّ، فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحلُّ له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتَها الإمامُ الكبيرُ مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذُّهليِّ، وهذا الأمر جعل الذُّهليَّ يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلوِّ والغيرة المذمومة، إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: "لا يُساكنني هذا الرجلُ [يعني البخاري] في البلد" وأخذ الجهالُ والسفهاءُ يتعرَّضون للبخاريِّ في الطريق يؤذونه بالقول والفعل، مما أُجبر معه البخاريُّ في النِّهاية لأن يخرج من البلد.
وبالنظر لما قام به الذُّهليُّ بحق البخاريِّ، نجد أن الذهليَّ قد تدرج في التشنيع والهجوم على الإمام البخاريّ، للوصول لغاية محددة منذ البداية، ألا وهي إخراج البخاريِّ من نيسابور حسدًا منه على مكانة البخاريِّ العلميَّة، وحتى لا ينسحبَ بساط الرياسة العلمية منه لصالح البخاري، وهذا ما فهمه البخاريُّ منذ البداية، وقاله لتلامذته ومن سأله عن هذه النازلة، فهذا تلميذه محمد بن شاذل، يقول: "دخلتُ على البخاري لمَّا وقع فيه محمد بن يحيى، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الحيلةُ لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كلُّ من يختلف إليك يُطرد؟ فقال البخاريُّ: كم يعتري محمد بن يحيى من الحسد في العلم، والعلمُ رزق الله يُعطيه من يشاء"، وقال أحمد بن سلمة: "دخلتُ على البخاريِّ فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجلٌ مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يُكلمه فيه فما ترى؟ فقبض البخاريُّ على لحيته ثم قرأ"وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"غافر: 44، اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أُرد المقام بنيسابورَ أشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذُّهليّ] حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمدُ إني خارجٌ غدًا لتتخلَّصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيَّعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد.
وبالفعل خرج البخاريُّ من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان؛ ليواصل رحلته العلميَّة، فإذا بالذُّهليِّ يواصل هجومه الشَّرس على البخاريِّ، حتى بعد خروجه من نيسابور، حيثُ أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسانَ يحذِّرهم من البخاريِّ، وأنه يتبنَّى قول اللفظيَّة، وقد آتت هذه الحملة أُكُلها السّيّء، فكلما توجه البخاريُّ إلى بلد في خراسان وجد الناس ثائرين عليه، وكُتب الذُّهليُّ في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتُوغر الصدور وتُحرِّك الشكوك وتُسيء الظنون، حتى وصلت حدَّة الحملات التشويهية ضد البخاري، لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث، وهما أبو حاتم وأبو زُرعة لأن يقولا: "إنَّ البخاريَّ متروكٌ"، ولا يكتبانِ حديثه بسبب مسألة اللَّفظ، وسبحانَ الله! لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وأبو زُرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليه؟ والبخاريُّ حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاريُّ أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذَّهبيُّ في السير: "كلامُ الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنَّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين"
وكان البخاريُّ يؤكد في كلِّ مكان أنه لم يقل إنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظُ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرٍو، احفظ ما أقولُ لك: مَن زعم مِن أهل نَيسابورَ وقوس والرِّي وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أنَّ الذُّهليَّ الذي خاض في حقِّ البخاريِّ وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاريّ على لازم قول البخاريِّ أنَّ الأفعال مخلوقة، فقال الذهبيُّ: إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازمُ القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه، قال الذَّهبيُّ: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفِّر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم ويُنَزِّه ويعظم الرب، لذلك كان البخاريُّ ينفي في كلِّ موطن هذه التهمة عن نفسه ويبرأ منها.

وفاته
ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته، وقد ضاقت عليه الدنيا بما لاقاه من أهلها، وخاصة من رفقاء الدرب وأصحاب الحديث الَّذين حسدوه، وكان في شهر رمضانَ من سنة 256 هجريَّة، فقضى ليالي رمضانَ الأخيرة في القيام والدُّعاء والمناجاة والشَّكوى لربِّ الأرض والسَّموات، وكان غالبُ دعائه في تلك الليالي: "اللَّهمَّ إنَّ الأرض قد ضاقت عليَّ، فاقبضني إليك يا ربَّ العالمين".
وفي ليلة الفطر من سنة 256 هجرية، صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد صلاة العشاء، فدُفن من صبيحة الفطر، وقد فاحت رائحةٌ رائعة لم يَشَمَّ الناس مثلها من قبل من قبره، ظَلَّت تفوحُ لفترة طويلة، كما ما زال علمه يفوح ويروح في كل مكان في العالم، فأين حسَّادُهُ؟ وأين الوشاة والساعون فيه؟ طواهم النسيان، وقتلتهم أحقادهم، وبقي ذكر البخاري إلي اليوم، وحتى تقوم الساعة، فهنيئًا له على ما قدَّم للأمة الإسلامية، وسلامٌ عليه إلي يوم الدين. هنا .
رد مع اقتباس