عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 07-12-2017, 02:36 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,225
Arrow

العلم
قد أمر الله بتعلم جميع العلوم النافعة، لا سيما علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة، الذي يجمع كلَّ علم نافع، وأمر بسؤال أهل العلم لمن لم يعلم. وأخبر برفعتهم في الدنيا والآخرة، وأنَّهم سادات الخلق في دنياهم وأخراهم، وأئمتهم الذين بهم يقتدون، وعلى آثارهم يهتدون، وعلى طريقتهم يسلكون.
فالعلم يقصر التعبير عن كنه فضله، وعلو مرتبته، ويكفي في هذا أنَّ جميع الأقوال والأفعال والإرادات متوقفة في صحتها وفسادها، وكمالها ونقصها، وفي جميع صفاتها على العلم. ما حَكَمَ به العلم من ذلك فهو كما قال، وإنَّ العلم نور للصدور وحياة للقلوب، به يعرف الله، وبه يُعبد، وبه يعرف الحلال من الحرام، والطيِّب من الخبيث، وبه يميّز بين الأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار.
والعلم يقوِّم ما اعوجّ من الصفات، ويكمِّل ما نقص من الكمالات، ويسد الخلل، ويصلح العمل، وبه صلاح الدين والدنيا، وبضده فساد ذلك ونقصه. العلم ميراث الرسول، والعلماء ورثة الأنبياء، فإنَّ الأنبياء لم يورثوا إلا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، ولولا العلم لكان الناس كالبهائم، والحاجة إلى العلم أعظم من الحاجة إلى الطعام والشراب.
والعلم النافع هي - كذا في الأصل، ولعلها: «والعلوم النافعة هي...».- العلوم الشرعية، وما أعان عليها من علوم العربية بأنواعها. ومن العلوم الشرعية تعلُّم الفنون المعينة على الدين، وعلى قوة المسلمين، وعلى الاستعداد للأعداء للمقاومة والمدافعة، فإنَّها داخلة في الجهاد في سبيل الله، فكلُّ أمرٍ أمرَ به الشارع، وهو يتوقف على أمور كانت مأمورًا بها، والله أعلم - في الأصل بعد والله أعلم زيادة «والعلوم الضارة كالسحر ونحوها مما هو ضرر محض»، وهي جملة غير تامة.-.

التوسط في كلِّ الأمور والاعتدال والاقتصاد
هذا الخلق الجليل قد دلّ عليه القرآن في آيات كثيرة عامة وخاصة:
فمن العامة: الأمر بالعدل والقسط في عدة آيات، والإخبار بأنَّ هذه الأمة وسَط وذلك في كلِّ أمورها، فهم وسط في الإيمان بالأنبياء، والقيام بحقوقهم بين من غَلوا فيهم حتى جعلوا لهم أو لبعضهم من حقوق الله الخاصة ما جعلوه، من الغلو فيهم والعبادة لهم، وبين من جفوهم، فكفروا ببعضهم أو لم يقوموا بحقهم.
وهذه الأمة ولله الحمد آمنت بكلِّ رسول أرسله الله، واعترفت بجميع ما فضّلهم الله به، وخصهم به من المزايا والخصائص التي جعلتهم أرفع الخلق في كلِّ صفة كمال، ولم يغلوا فيهم.
وهم وسَط بين من حرَّم الطيبات من الرهبان المتعبدة والمشركين. الذين حرموا ما لم يأذن به الله اتباعاً لخطوات الشيطان، وبين من استحل المحرمات والخبائث، بل اتبعوا النبي الأمي الذي يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث.
وقد أمر الله بالتوسط والاعتدال في النفقات في قوله"وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا "الإسراء: 26"وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا" 29 :الإسراء. وأثنى على المتوسطين فقال"وَالَّذِينَ إِذَا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا "67 :الفرقان ، وهذا يشمل النفقة على النفس والأهل والعيال والمماليك من الآدميين والبهائم في جميع وجوه الإنفاق. فإنَّ هذه الحال فيها اعتدال خلق الإنسان وكمال حكمته، حيث قام بالواجبات، وبما ينبغي وترك ما لا ينبغي.
ومن فوائد ذلك أيضًا: أنَّ في الاعتدال سرَّ بركة، وما عال من اقتصد، وأنَّه يمنع العبد الندم، فإنَّ المسرف في الإنفاق إذا أملق واحتاج لعبت به الحسرات، وجعل يقول بلسان مقاله، أو لسان حاله: يا ليتني لم أفعل ذلك.
وأما المقتصد فإنَّه لا يندم العاقل على نفقة وضعها في محلها، وأقام بها واجباً من الواجبات، أو سدَّ بها حاجة من الحاجات، فإنَّ المال لا يقصد إلا لمثل هذه الحالة.
وأيضًا فإنَّ المسرف في النفقات، لا بد أن يكون مترفًا معتادًا أمورًا، إذًا عجز عنها شق عليه الأمر مشقة كبيرة، وكبر عليه الصبر، وثقل عليه حمله بخلاف المعتدل، فإنَّه سالم من هذه الحالة.
وأيضًا فإنَّ الاعتدال في النفقة أحد قسمي الرشد. فالرشد الذي هو معرفة تدبير الدنيا أن يعرف الطرق التي يحصلها فيها، فيسلك النافع منها، ثم إذا حصلت عرف كيف يصرفها ويبذلها، وعلم التدبير من العلوم النافعة دينًا ودنيًا، وشرعًا وعقلاً.
الإحسان والعفو
كم في كتاب الله من الحثّ على الإحسان إلى الخَلْق، وأنَّ الله يحب المحسنين ويجزيهم الحُسنى على إحسانهم، ويأمر بالعفو والصفح عن الزلاَّت والإساءات، وأنَّ ذلك من أعظم الحسنات.
فالإحسان هو بذل المعروف القولي والفعلي والمالي إلى الخلق. فأعظم الإحسان تعليم الجاهلين، وإرشاد الضالين، والنصيحة لجميع العالمين.
ومن الإحسان: إعانة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإزالة ضرر المضطرين، ومساعدة ذوي الحوائج على حوائجهم، وبذل الجاه والشفاعة للناس في الأمور التي تنفعهم.
ومن الإحسان المالي: جميع الصدقات المالية، سواء كانت على المحتاجين، أو على المشاريع الدينية العام نفعها.
ومن الإحسان: الهدايا والهبات للأغنياء والفقراء، خصوصاً للأقارب والجيران، ومن لهم حق على الإنسان من صاحب ومُعامل وغيرهم.
ومن أعظم أنواع الإحسان: العفو عن المخطئين المسيئين، والإغضاء عن زلاَّتهم، والعفو عن هفواتهم.
وللإحسان بوجوهه كلِّها فوائد لا تحصى.
منها: حصول محبة الله للمحسنين التي هي أعلى ما يناله العبد.
ومنها: حصول الجزاء الكامل. قال تعالى"لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى "يونس: 26 وقال "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ "60:الرحمن . فالجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا إلى عباد الله أحسن الله إليهم وأعطاهم أفضل ما يعطي أولياءه من الجزاء الأوفى الأكمل.
ومنها: أنَّ هذا من أكبر أسباب محبة الخلق له، من وصل إليه إحسانه ومن لم يصل إليه، وثنائهم عليه وكثرة أدعيتهم له، وذلك من الأمور المتنافس فيها.
ومنها: أنَّه يستفيد بذلك سرور القلب وراحته وطمأنينته، لا سيما إحسان العفو، فإنَّه إذا عفى عمن ظلمه وأساء إليه، زال أثر ذلك عن قلبه، وعلم أنَّه اكتسب عن ذلك من ربه أفضل جزاء وأعظم ثواب.
وأيضًا: فمن عفى عن عباد الله عفى الله عنه، ومن سمح عنهم سامحه الله.
ومن أفضل الإحسان الذي يتمكن به الموفق من معاملة الناس على اختلاف طبقاتهم: البشاشة وحسن الخلق معهم، ومعاشرتهم باللطف والكرم، وإبداء كلِّ ما يقدر عليه من إدخال السرور عليهم، وخصوصًا الأقارب والأصحاب ونحوهم ممن يتأكد حقهم على العبد، وأنَّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، ولهذا نقول:
حُسْنُ الخُلُق
هذا هو مادة الأخلاق الجميلة كلِّها، وقد اتفق الشرع والعقل على حسنه، ورفعة قدره، وعلو مرتبته، ومداره على قوله تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ "199:الأعراف ، أي خذ ما تيسر وعفى وتسهل من أخلاق الناس، ولا تطالبهم بما لا تقتضيه طباعهم، ولا تسمح به أخلاقهم. هذا فيما يأتيك منهم.
وأما ما تأتي إليهم فالأمر بالعرف، وهو نصحهم وأمرهم بكلِّ مستحسن شرعًا، وعقلاً وفطرة، وأعرض عمن جهل عليك بقوله أو فعله، فللَّه ما أحلى هذه الأخلاق وما أجمعها لكلِّ خير. وقال تعالى"ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "35: فصلت .
ويُمِدّه الصبرَ والحلمَ وسعةَ العقل. وفضل هذا الخلق ومرتبته فوق ما يصفه الواصف.
ومن فوائد هذا المقام الجليل: أنَّ صاحبه مستريح القلب، مطمئن النفس قد وطّن نفسه على ما يصيبه من الناس من الأذى، وقد وطّن نفسه أيضاً على إيصال النفع إليهم بكلِّ مقدوره، وقد تمكّن من إرضاء الكبير والصغير والنظير، وقد تحمَّل مَنْ لا تَحْمِلُهُ مِن ثقله الجبال، وقد خفت عنه الأثقال، وقد انقلب عدوه صديقًا حميمًا، وقد أمن من فلتات الجاهلين ومضرة الأعداء أجمعين، وقد سهل عليه مطلوبه من الناس، وتيسر له نصحهم وإرشادهم والاقتداء بنبيه في قوله تعالى في وصفه"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ "آل عمران: 159: الآية. ويتولد عنه خُلق:
الرحمة
وهي رقة القلب وصفوه ورحمته للخلق وزوال قسوته وغلظته، وهو من أخلاق صفوة الخلق.
قال تعالى"لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ "128:التوبة .
فرأفته صلى الله عليه وسلم ورحمته لا يقاربه فيها أحد من الخلق، وهذه الرأفة والرحمة ظهرت آثارها في معاملته للخلق، ولا تنافي قوة القلب وصبره. فقد كان صلى الله عليه وسلم أصبر الخلق وأشجعهم وأقواهم قلباً مع كمال رحمته.
فقوة القلب من آثارها: الصبر والحلم والشجاعة القولية والفعلية، والقيام التام بأمر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ورحمة القلب من آثارها: الشفقة والحنو والنصيحة، وبذل الإحسان المتنوع، فأيُّ أخلاق تقارب هذه الأخلاق السامية الجليلة. فقوة القلب وشجاعته تنفي الضعف والخور، ورحمته تنفي القسوة والغلظة والشراسة.
وهذه الأخلاق الجميلة وإن كانت من علم الأخلاق والتربية على أحسنها، فإنَّها أيضًا داخلة في علم التوحيد، كما دخل فيه الخوف والرجاء والدعاء وغيرها.
فهي من جهة: التعبد لله تعالى بها والتقرب إليه داخلةٌ في علم التوحيد. ومن جهة: تكميلها للعبد وترقيتها لأخلاقه وتهذيب النفوس وتزكيتها داخلةٌ في علم الأخلاق.
وهذا أعظم البراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أنَّ ما جاء به من القرآن والدين هو الحق الذي لا رقي ولا علو ولا كمال ولا سعادة إلا به، وأنَّه هو الهدى العلمي الإرشادي، والهدى العملي، والتربية النافعة. والحمد لله رب العالمين.

رد مع اقتباس