عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 07-12-2017, 02:52 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,225
Arrow

النوع الثالث من علوم القرآن الكلية الجامعة

علم الأحكام في العبادات والمعاملات والمواريث

والأنكحة وسائر الحقوق والروابط بين العباد -لما أنهى المصنف رحمه الله كتابة ما كتبه في هذا النوع أعاد نسخه مرة أخرى مع تحرير جديد للصياغة وتغيير في الترتيب والتنظيم وحذف لما يمكن الاستغناء عنه، ولهذا اعتمدت هنا على نسخه الأخير، ولم أر حاجة إلى مقابلته مع النسخ الأول للفروقات الكبيرة بينهما-.

قد جعل الله القرآن تبيانًا لكلِّ شيء، وهو كما تقدم كتابٌ جمع التربية النافعة والتعليم، مزج هذا بهذا، فما كان من العبادات معروفاً بين المسلمين، مفهوماً فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة والزكاة ونحوها اكتفى بذكره على وجه الإجمال أمْراً به، أو نهياً عن ضده، أو ثناء على فاعله، وبياناً لأجره وثوابه العاجل والآجل، ويكون تفصيل ذلك محوّلاً فيه على ما عُلِمَ، وعرف بين المسلمين، وكذلك المعاملات. ومن الأحكام القرآنية ما فصلت فيه الأحكام تفصيلاً كالمواريث ونحوها، فلنبدأ بذكر العبادات الواردة في القرآن فنقول مستعينين بالله:
أحكام الصلاة

ذكر الله الصلاة في كتابه في مواضع كثيرة، يأمر بها وينهى عن تركها، ويثني على أهلها المقيمين لها، ويذكر ما لهم من الثواب، ويذم المتهاونين بها، ويذكر ما عليهم من الذم والعقاب، وهي حين يذكرها يعرفها المسلمون معرفة لا يمترون بها، قد عرفوها من هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم تناقلتها الأمة فعرفها الصغير والكبير، والعالم والجاهل، فمتى جاءت في القرآن فهموا أنَّها هذه الصلوات الخمس والجمعة، وما يتبعها من الرواتب والسنن المقيدة والمطلقة.

وقد ذكر الله بعض أحكامها: فذكر الوقت في قوله"إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا "النساء: 103 أي: مفروضًا في الأوقات. وقال"فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ "17، 18"الروم ، "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ"هود: 114 ، "أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا "78"الإسراء: أي: أقمها لدخول هذه الأوقات، "لِدُلُوكِ الشَّمْسِ" مبتدأه الزوال ومنتهاه العصر، فيدخل فيه الظهر والعصر. و"غَسَقِ اللَّيْلِ"، أي: ظلمته التي فيها اختلاط بالضياء فيدخل في ذلك صلاة المغرب والعشاء، "وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ " ، أي: صلاة الفجر، وعبّر عنها بالقرآن لاشتراط القراءة وإطالتها فيها، وقد حررت السنة هذه الأوقات تحريرًا معلومًا بين المسلمين.
وقال تعالى"وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ "4:المدثر ، وأولى ما دخل في الآية الكريمة تطهيرها للصلاة، وإذا وجب تطهير الثياب من النجاسات، فتطهير البدن للصلاة من باب أولى وأحرى.
ولهذا قال تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ"المائدة: 6. الآية. فهذه الآية تدل على اشتراط النية ووجوب الطهارة للصلاة، وأنَّه يجب فيها على المحدث حدثًا أصغر تطهير هذه الأعضاء الأربعة المذكورة، وأنَّ الوجه واليدين والرجلين تغسل غسلاً، والغسل لا بد فيه من جريان الماء على هذه الأعضاء، وأنَّ الرأس يمسح مسحاً، وأنَّه يمسح كلُّه لأنَّ الله عمّم ذلك، وأنَّه يجب الترتيب بينها لأنَّ الله ذكرها مرتبة، والموالاة لأنَّ ظاهر هذا الصنيع لزوم الموالاة لكونها عبادة واحدة متصلاً بعضها ببعض، وأنَّ المحدث حدثاً أكبر كالجنابة وهي الوطء، أو الإنزال للمني، أو هما، عليه تطهير جميع بدنه، وأنَّه لا يعفى عن شيء منه حتى ما تحت الشعور الكثيفة، وكذلك ذكر الله طهارة الحائض والنفساء في سورة البقرة بقوله"حَتَّى يَطْهُرْنَ " أي ينقطع دمهنَّ، فإذا تطهرن، أي: اغتسلن "فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ "البقرة: 222 . ثم ذكر طهارة التراب والتيمم، وأنَّ لها أحد سببين: عدم الماء في قوله"فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا "المائدة: 6 ، وحصول الضرر بمرض ونحوه في قوله"أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى "النساء: 102 ، وقوله"فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ "المائدة: 6 . صريح أنَّ التيمم عن الحدث الأصغر والأكبر؛ لأنَّه ذكره عقب الحدثين، وأنَّ النجاسة لا يُتيمم لها فتجب إزالتها مع القدرة، وتسقط مع العجز كسائر الواجبات. ويدل أنَّ محل المسح للحدثين الوجه واليدان وهما الكفان فقط، لأنَّه لما أراد إيصال الطهارة إلى المرفقين في طهارة الماء قال"وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ "المائدة: 6 . واكتفى تعالى عن الحدثين بتيمم واحد، ونفى تعالى الحرج في الدين عمومًا، وفي الطهارة خصوصًا فقال"مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ "المائدة: 6 . وأقام الله طهارة التيمم مقام طهارة الماء عند وجود الشرط، وهو الفقد للماء أو التضرر باستعماله، وهذا يقتضي أنَّ حكمها حكمها من كلِّ وجه، فما دام متطهرًا بالتيمم ولم يحصل له ناقض صحيح فهو باق على طهارته، لا يبطل هذه الطهارة دخول وقت ولا خروجه، وإذا نوى به عبادة استباحها ومثلها ودونها وأعلى منها.
وفي الآية الكريمة دليل أنَّ الأحداث المذكورة ناقضة للوضوء، وهي الخارج من السبيلين ولمس النساء لشهوة، لأنَّ اللمس حيث أضيف للنساء كان المراد به الذي لشهوة كقوله"وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" البقرة: 187 .
وفي قوله"فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا"المائدة: 6 دليل على أنَّ الماء باق على طهوريته، ولو تغير بالطاهرات لأنَّه داخل في اسم الماء الذي لا يجوز العدول عنه إلى التيمم. وقد استدل الإمام أحمد رحمه الله وغيره بقوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ "المائدة: 3. الآية على أنَّ الماء إذا خالطته نجاسةٌ فغيّرت أحد أوصافه، أنَّه نجس لظهور أثر هذه الأشياء فيه، فيتناوله تحريم الميتة والدم إلى آخرها، فيكون نجساً خبيثاً، وإذا لم تغير أحد أوصافه أنَّه باق على طهوريته. وفي عموم قوله تعالى"وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا "الفرقان: 48. دليل على أنَّ الأصل في الماء الطهورية، فلا نعدل عن هذا الأصل إلا بدليل.
وقال تعالى"فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ"البقرة: 144. أي: جهته، فأوجب استقبال الجهة عند تعذر إصابة العين.
وقال تعالى"يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" الأعراف: 31. أي: البسوا ثيابكم واستروا عوراتكم للصلاة، فإنَّ الزينة ما تدفع الشناعة والقبح في كشف العورة، وتمام أخذ الزينة حصول الجمال، ففيه أمر بالأمرين بستر العورة، وبتكميل اللباس كما هو مبين مفصل في السنة.
وقال تعالى"وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا " الأعراف: 204. وأبلغ ما يدخل في هذا إنصات المأموم لقراءة إمامه في الصلاة الجهرية، وقد أمر الله بالقيام والركوع والسجود والقنوت الذي يدخل فيه السكوت. فقال تعالى"وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ "البقرة: 238. ، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا "الحج: 77 ، وقال"فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ "المزمل: 20 ، ففي هذا فضيلة هذه المذكورات وأنّها أركان للصلاة.
وسمى الله الصلاة إيمانًا في قوله"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ "البقرة: 143. أي: صلاتكم لبيت المقدس قبل تحويل القبلة، لأنَّ الصلاة ميزان الإيمان.
وقد أمر الله بالمحافظة على الصلوات عموماً، وعلى صلاة العصر خصوصاً في قوله"حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى "البقرة: 238. وأثنى على المحافظين عليها، وذلك يقتضي المحافظة على شروطها وأركانها وجميع ما يلزم لها وعلى مكملاتها، وكذلك الأمر بإقامتها والثناءُ على المقيمين لها يدل على ذلك.
والأمر بالمسابقة إلى الخيرات والمنافسة فيها، يدل على السعي في تكميل الصلاة وغيرها من العبادات.
وقال تعالى"فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ "الماعون:5،4 ، ويدخل في هذا الوعيد تركها بالكلية وتفويت وقتها، والإخلال بشيء مما يجب فيها، وأمَّا السهو فيها فلم يذمه الله، ولهذا وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وسجد له سجدتين في آخر الصلاة، وأمر أمته بذلك عند وجود سببه.
وذمّ تعالى المنافقين الذين "وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا "النساء: 142 ، ففيه وجوب الطمأنينة في الصلاة، وتكميل ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، لأنَّ العبد لا يسلم من هذا الذم إلا بهذا التكميل والإخلاص لله تعالى.
وَقَدْ مدح تعالى الخشوع في جميع الأحوال وفي الصلاة خصوصاً، وذلك بحضور القلب فيها وتدبر أقوالها وأفعالها، وتمام ذلك أنْ يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّه يراه. ومن لوازم ذلك ترك الحركة في الصلاة وعدم الالتفات وإلزام النظر لمحل سجوده.
وقال تعالى"يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4"المزمل ، وقوله"وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ "الإسراء: 79 ، "كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ "18:الذاريات . ففي هذا الأمر بقيام الليل وفضله، وأن أهله هم خيار الخلق. وأخبر في آخر المزمل أنَّ الرسول وطائفة معه من المؤمنين قاموا بذلك التقدير، وأنَّ الله يسر على الناس خصوصًا أهل الأعذار من المرض والشغل، فإنَّهم يقرأون ما تيسر منه، أي: يصلون من الليل ما يَهُون عليهم ولا يَشُقْ.
واستدل بقوله"وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ "البقرة: 43. على وجوب الجماعة وركنية الركوع، وفضله، وأنَّه تدرك به الركعة.
واستدل بأمر الله بالجماعة في حال الخوف على وجوب الجماعة في حالة الأمن من باب أولى.
وكذلك استدل بقوله تعالى"وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا "المائدة: 58 ، و"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ "الجمعة: 9. على وجوب النداء للصلوات الخمس والجمعة، وهو المتقرر عند المسلمين صفته، وعلى وجوب الجماعة للصلوات الخمس والجمعة، وعلى وجوبها في المساجد.
وقد ذكر الله السجدات في القرآن وفي بعضها الأمر به، وذم من لم يسجد عند تلاوة الآيات، وإخباره بسجود المخلوقات فهذا يدل على مشروعية سجود التلاوة، استحباباً عند جمهور العلماء وأوجبه بعضهم، وَسَجَد صلى الله عليه وسلم في ص وقال: «سجدها داود توبة فنحن نسجدها شكرًا لله» - أخرجه النسائي (رقم: 957)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي.- يدل على مشروعية سجود الشكر.
وقال تعالى"وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ "49:الطور ، وفي الأخرى"وَأَدْبَارَ السُّجُودِ "ق: 40. يدل على صلاة الليل وخصوصاً آخره، والذكر عقب الصلوات الخمس.
وقال تعالى"وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " النساء: 101. فيها مشروعية قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، في كلِّ سفر طويل أو قصير لإطلاق الآية، فإذا اجتمع الخوف والسفر قصر عدد الصلاة الرباعية، وقصرت هيئاتها بحسب ما وردت به صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما دل عليها قوله تعالى: "وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ "النساء: 102. إلى آخرها، فإن كان سفر بلا خوف قصر العدد فقط، وهذا من فائدة التقييد بالخوف وذلك القصر المطلق.
وقوله تعالى"فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ "النساء: 103. فيها فائدتان: إحداهما: مشروعية الذكر عقب الصلوات المكتوبات عموماً، كما تكاثرت بذلك الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم. الثانية: فيه مشروعية الذكر على وجه التأكيد بعد صلاة الخوف، لحصول بعض الخلل فيها لأجل العذر، فَكَأَنَّ في ذكر الله جبراً لما فات العبد من ذكر ربه، لأنَّ الصلاة إنَّما شرعت لإقامة ذكر الله. قال تعالى"وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي "طه: 14. وكذلك جميع العبادات شرعت لهذا الغرض الجليل، فينبغي للعبد إذا فعل العبادة على وجه فيه نقص أن يعوض عن ذلك ويجبره بكثرة ذكره لربه.
وفي قوله تعالى"وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً "يونس: 87 ، أي: صلوا فيها خوفًا من فرعون وملئه دليلٌ على جواز الصلاة في البيوت لعذر من الأعذار، إمَّا خوف أو مرض أو غيرهما، لأنَّ شَرْعَ من قبلنا شَرْعٌ لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه، بل في شرعنا من التسهيلات ما ليس في غيره.
وقوله تعالى"وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ "البقرة: 115. استدل بها على جواز الصلاة على الراحلة في السفر قِبَلَ أيِّ جهةٍ توجه المصلي، وعلى صحة الصلاة إذا اجتهد إلى القبلة فأخطأها، وعلى صحة صلاة العاجز عن الاستقبال للضرورة، وعلى نفل الماشي كالراكب في السفر.
وقوله تعالى"فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ "النور: 36. يعم أحكام المساجد كلِّها، فإنَّه أمر فيها بشيئين: برفعها الذي هو تعظيمها وصيانتها عن الأوساخ، والأقذار والأنجاس الحسية والمعنوية، وتعمر العمارة اللائقة بها، ويذكر فيها اسمه بأنواع التعبد من صلاة وقراءة، وتعلم علم نافع، وتعليم، وذكر لله تعالى، فكلُّ ما قاله أهل العلم من أحكام المساجد وفصّلوه فهو داخل في هذين الأمرين، فتبارك من جعل كلامه فيه الهدى والشفاء والنور.
وقوله تعالى"قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي "الأنعام: 162 ، "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ "2:الكوثر ، "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى"15"الأعلى . استدل بعموم ذلك على صلاة العيدين عيد الأضحى وعيد الفطر وعلى صدقة الفطر، ولا ريب بدخول المذكورات في هذا العموم.
وقوله تعالى"وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ "التوبة: 84 ، "ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ "21:عبس ، "فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي "المائدة: 31 . دليل على صلاة الجنازة على المؤمنين، والقيام على قبورهم للدعاء لهم، وعلى تكفين الميت كلِّه، لأنَّه جعل بدنه كلَّه سوأة، وعلى حمله ودفنه على ما وردت به السنّة.

أحكام الزكاة
قد أمر الله بها في مواضع من كتابه وبالنفقة، وأثنى على القائمين بذلك، وذم المانعين لها، وتوعدهم بالوعيد الشديد، وأنَّهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، وأنَّهم يعذبون بكنوزهم ويحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وأنَّها من أعظم فروض الدين.
وقال تعالى"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ "التوبة: 103 ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ" 267:البقرة ، "وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ "الأنعام: 141 ، "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "60:التوبة
استدل بذلك على مسائل كثيرة من أحكام الزكاة، منها وجوب الزكاة في كلِّ ما يتمول، أي ينمى ويعد للربح والتنمية والكسب، وذلك كالنقود والعروض للتجارة، وهو كلُّ ما أرصد للبيع والشراء لأجل الربح، والحبوب والثمار الموسقة، والمواشي التي تنمى لولادتها أو للاتجار بها، وأنَّ زكاة الحبوب والثمار إنَّما تجب عند الحصاد والجذاذ، لأنَّه الوقت الذي يسهل إخراجه على أرباب الثمار والزروع، والوقت الذي تتعلق به أطماع المستحقين. وأما من عداهما فلا بد من حولان الحول، وفيه بعث السعاة لقبض زكاة المال الظاهر، وأنَّ الساعي، وكذلك الآخذ للزكاة ينبغي أن يدعو للمخرج دعاء يناسب الحال لهذه الفائدة التي ذكرها الله أنَّ الدعاء يسكن القلب، وينشّط المخرج وهو شكر له على ذلك، وأنَّه يجب إخراج الوسط فلا يجب على المخرج أن يخرج العالي، ولا يحل له أن يعدل إلى الدون، وفيها مصالح الزكاة، وأنَّها تطهر أهلها من الصفات الذميمة، وتزكيهم بالأخلاق الكريمة، وتطهر المال، وتقيه الآفات، وأنَّها لهؤلاء الأصناف الثمانية. منهم من يأخذ لحاجته كالفقير والمسكين، والفقير أشد حاجة فهو المحتاج المضطر، والغارمين لأنفسهم، وفي الرقاب يدخل فيه إعتاق الرقاب من الرق، وإعانة المكاتبين، وفداء أسرى المسلمين، وابن السبيل وهو الغريب المنقطع به عن بلده. ومنهم من يأخذ للحاجة إليه وقيامه بمصلحة عمومية، وذلك كالعاملين عليها من جاب لها، وحافظ وكاتب وقاسم، والمؤلفة قلوبهم ممن يرجى إسلامهم أو يخشى شرهم، أو يرجى قوة إسلامهم أو إسلام نظيره، والغارمين لإصلاح ذات البين بين الطوائف وأهل البلدان والقبائل والمجاهدين في سبيل الله، ومن الجهاد في سبيل الله العلم والتعلم والتعليم للعلوم الشرعية، ومن جمع من هؤلاء وصفين أو أكثر أعطي بحسب ما فيه من الأوصاف.
وقوله تعالى"إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ "البقرة: 271. فيها حث على إخفاء الصدقات إذا أعطيت الفقراء، فإن بذلت في المصالح العامة فالأولى إظهارها لما في ذلك من المصالح.
ونهى تعالى عن اتباعها بالمنّ على الله، أو على المعطَى، أو الأذية لِلمُعْطَى، وتقدم أنَّه استدل بقوله"قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى" 14:الأعلى. على زكاة الفطر. وأمَّا مقادير الأنصباء والواجبات فمفصل بالسنة.
وقد أمر تعالى بإخلاص النفقات لله من الواجبات والمستحبات، وأخبر عن مضاعفتها وعن حبوط عمل المرائي والعاصي - في النسخة الأولى: «المان».-، وضرب لذلك الأمثال المقربة للمعاني غاية التقريب.

رد مع اقتباس