عرض مشاركة واحدة
  #29  
قديم 05-14-2017, 03:28 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,224
Exclamation


المجلس التاسع والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤الأنس بالله¤
"بدأَ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ كما بدأَ غريبًا، فطوبى للغرباءِ".الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم: 145- خلاصة حكم المحدث : صحيح. .

- وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن صفة هؤلاء الغرباء "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء . قيل من هم يا رسول الله؟ قال" الذين يصلحون إذا فسد الناس"السنن الواردة في الفتن" لأبي عمرو الداني -1/ 25-وغيره، وصححه الألباني في "الصحيحة" 3/ 267" السلسة الصحيحة برقم 1273.
وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين.

والغربة غُربتان: غُربة ظاهرة، وغُربة باطنة:
فالظَّاهرة: غربة أهلِ الصلاح بين الفُساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق الذين سُلِبُوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدينَ بين الراغبينَ في كل ما ينفد وليس هو بباقٍ.
وأمَّا الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه.الألوكة .
فما سر صبر هؤلاء الغرباء في هذه الأزمان العصيبة ؟ وما الذي أذهب عنهم الوحشة في سلوك طريق الصلاح مع قلة سالكيه وقلة الأعوان عليه ؟ وما الذي جعلهم يتميزون بالاستقامة وسط هذا الركام من الانحراف و الفساد ؟ فلا بد أن لهم حادٍ يسوقهم ومسلٍ يؤنسهم !!
إنه لا شيء غير الأنس بالله والتسلي بالقرب منه سبحانه فهم أناس امتلأت قلوبهم بمعرفة الله ومحبته وتعظيمه وإجلاله، وحلاوة مناجاته وتلاوة كتابه، فأكسبهم ذلك لذة أنستهم في لذات الدنيا و شهواتها، والأسف على ما فات منها، وكان لهم في ذلك العوض الأكبر - هنا -

قال تعالى "الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"الرعد: ٢٨. فيزول قلق النفوس واضطرابها ، وتحضرها أفراحها ولذاتها، لأنها امتلأت أنسًا ببارئها سبحانه وشوقًا إلى لقائه، فليست تترك ما أمرت به لشعورها بالوحدة على الطريق وكان لها في صفوة الله من خلقه أسوة ، فلم يزدادوا عليهم السلام عند اشتداد الكروب وكثرة الخطوب وتسلط الأعداء إلا أنسًا بالله . فهاهو نوح عليه السلام يأنس بالله في دعوة قومه ، فما استوحش الطريق ولا ضعفت همته وداوم على ذلك تسعمائة وخمسون سنة، يستمد فيها العون من الله ، قال تعالى"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ" يونس: ٧١. وهاهو إبراهيم عليه السلام يأنس بالله في توحيده ، ويرضى بالوحدة لأنها النجاة فكان كما قال الله عنه قال تعالى "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "النحل: ١٢٠ . وهاهو يوسف عليه السلام يفضل الأنس بربه في خلوته ، يوم أغروه بما يغضب ربه جل وعلا " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" يوسف: ٣٣.
وهاهو موسى عليه السلام يأنس بالله ويتسلى بفضله، يوم أن أصبح غريبًا مطاردًا من جنود فرعون قال تعالى "فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" القصص: ٢١ . وسيدنا يونس عليه السلام يوم ابتلعه الحوت ، لم تكن له إلا رحمة الله أنيسًا قال تعالى "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"الأنبياء: ٨٧ . وهكذا جميع أنبياء الله يوم أحاطت بهم مكائد أقوامهم ، لم يكن لهم أنس إلا بالله المطلع على أحوالهم . وإنما استوحش الجاهلون وقست قلوبهم، ولم يجدوا الأنس بطاعة الله وذكره، لأنهم يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها، فهم لا يعرفون سواها فهي أُنسهم، وأنفس شيء عندهم ، وأصعب شيء عند المترف مفارقة ترفه، لأنه لا عوض عنده من لذات الدنيا إذا تركها، فهو لا يصبر على تركها ومع ذلك فلا راحة له في ذلك الترف وذلك البعد عن الله حالهم :

يقول سبحانه "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" طه: ١٢٤ .
قال ابن القيم رحمه الله :" من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه، ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته، ثم تعامل غيره ، وأن تعرف قدر غضبه، ثم تتعرّض له، وأن تذوق ألم الوحشة ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه، ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره، ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه، والإنابة إليه، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب" الفوائد /47. فالطاعة توجب القرب من الرب سبحانه والقرب يوجب الأنس فكلما اشتد القرب قوى الأنس والمعصية توجب البعد من الرب فكلما كثرت الذنوب اشتد البعد وقويت الوحشة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين وأطيب العيش عيش المستأنسين و العاقل لا يبيع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والاضطراب و حتى يظل العبد في أنس وطمأنينة ، و راحة وسكينة ،لابد عليه أن يظل مراقبا لنفسه مطيعا لربه ، محسنا في ذلك ، فالله مع المحسنين بتأييده وتوفيقه وإيناسه يقول سبحانه "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ "العنكبوت: ٦٩ .وقال أيضًا" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" النحل: ١٢٨ . فمع الله إذا في كل زمان ومكان وفي كل حين وآن مع الله في السر والعلن مع الله في الشدة بالصبر وفي الرخاء بالشكر مع الله في البيع والشراء بالصدق مع الله عند رؤية المنكر بالتغيير مع الله في الحث على الخير والدلالة على المعروف مع الله في وصل الأرحام و بر الوالدين مع الله في مخالطة الناس بحميد الأخلاق مع الله في مكان الوظيفة بالأمانة والإتقان مع الله في البيت بالتربية والتوجيه مع الله في كل مدخل ومخرج مع الله في الحل والترحال عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " رواه الترمذي برقم 1987وهو في صحيح الجامع برقم 97. هذه هي حياة المؤمن لا يخلو جزء منها من العيش مع الله فهو طالب للأنس منه سبحانه بطاعته، في كل حركاته وسكناته، كالسمكة إذا أخرجت من الماء صارت ميتة يقول سبحانه "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣ .فالحارس الذي لا يفارق قلبه :أنا لله فليس لي أن أفعل ما أشاء، هل هذا الأمر طاعة لله فأمضي أم هو معصية فأحجم ؟ فيا من يبحث عن اللذة والطمأنينة والأنس ، أطع مولاك تجد مفقودك ،أزل عنك لباس الغفلة فالله يقول"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" النحل: ٩٧. وسل الله أن يحي قلبك فهو القائل "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" فأنس يا أخي بقرب الله ووعده في طلب الطمأنينة والأنس. ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. البقرة: ١٨٦.
- هنا -

قال ابن القيم: ‏والأنس بالله : حالةٌ وجدانية ، وهي من مقامات الإحسان ، تقوى بثلاثة أشياء: دوام الذكر ، وصدق المحبة ، وإحسان العمل. مدارج السالكين .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
"
ومن علامات صحة القلب : أن لا يفتر عن ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته- يقصد لا يسأم من عبادة وطاعة الله-، ولا يأنس بغيره ، إلا بمن يَدُلُّه عليه ، ويذكِّرُهُ به ، ويذاكره بهذا الأمر" انتهى من " إغاثة اللهفان " ( ص 72 ) .
فالأنس بالله تعالى حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن ، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام .
قال أحد السلف " مساكين أهل الدنيا ، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قيل : وما أطيب ما فيها ؟ قال : محبة الله ، والأنس به ، والشوق إلى لقائه ، والتنعم بذكره وطاعته ".انتهى من " إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك " لعبد الكريم الحميد (1/168) .

وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه سبحانه ، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به ، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له ، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة ، فكلما كان الْمُحِب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه وأنسه به أعظم .
فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" .
أخرجه البخاري (50) ، ومسلم (5) .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعليقًا على الحديث والأثر : " فهذان مقامان :
أحدهما : الإخلاص ، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه
الثاني : أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه ، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان" .
انتهى من " استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس".
يشير ابن رجب رحمه الله بكلامه هذا إلى منزلة المراقبة ، ومقام المشاهدة أو المعاينة كما يسميه بعض أهل العلم .
فـ" المشاهدة" ناتجة عن معاينة آثار أسمائه وصفاته تعالى في الكون ، بحيث يترتب عن ذلك تنور القلب وتعلقه بالرب ، وهذه المنزلة هي التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ " فهي رؤية حُكْمية .
أما " المراقبة" فهي العلم واليقين باطلاع الحق سبحانه على ظاهر العبد وباطنه ، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلامه السابق :
"
يتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله ، والخلوة لمناجاته وذكره ، واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم " .
انتهى من " استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس "
فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد حصل له الأنس بالله تعالى .
ووجه ذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب سبحانه ، والقُرب منه جل وعلا يوجب الأنس
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
"
والقُرب يوجِبُ الأنسَ والهيبةَ والمحبةَ" . انتهى من " مدارج السالكين "(2/382) .
ويقول كذلك رحمه الله :
"
وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب ، فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى ، وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد " .
انتهى من " مدارج السالكين " (3 / 95) .
وإذا ارتقى العبد إلى تحقيق مقام المشاهدة والمعاينة لآثار أسمائه وصفاته في الكون بحيث يتنور قلبه حصل الأنس ، ووجهه أن منشأ الأنس بالله تعالى ومبدؤه التعبد بمقتضى أسمائه تعالى وصفاته بعد التفهم لمعانيها
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
"
هذا الأنس المذكور مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها ، كاسم الجميل ، والبَر ، واللطيف ، والودود ، والحليم ، والرحيم ، ونحوها "
انتهى من " مدارج السالكين " (2/419) .
وزيادة في الإيضاح نقول : أن التفهم لمعاني الأسماء والصفات يحمل العبد على معاملة ربه بالمحبة والرجاء وغيرهما من أعمال القلوب .
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله :
"
فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من : الخوف ، والرجاء ، والمهابة ، والمحبة ، والتوكل ، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات " .
انتهى من " شجرة المعارف والأحوال " .
والعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان واستقرت قدمه فيه أنس بالله تعالى والتذ بطاعته وذكره .
قال العلامة السعدي رحمه الله ، مقرِرًا ذلك في منظومته ، واصفا أهل السير إلى الله والدار الآخرة :
"
عبدوا الإلهَ على اعتقادِ حضورِهِ **** فتبوؤوا في منزلِ الإحسانِ" .
ثم قال شارحًا رحمه الله :
"
وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلَّها ، ولكنها تحتاج إلى تدريج للنفوس شيئًا فشيئًا ، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها ، فيعيش العبد قرير العين بربه ، فرحًا مسرورًا بقربهِ "
ولذا فإن الأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات ، كما قال ابن القيم رحمه الله" فكل طائع مستأنس ، وكل عاص مستوحش" .انتهى من " مدارج السالكين " (2/406 ) .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
"
إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة ؛ لأن المخالفة توجب الوحشة ، والموافقة مبسطة المستأنسين ، فيا لذة عيش المستأنسين ، ويا خسارة المستوحشين " انتهى من " صيد الخاطر " (ص 213 ) .
قيل للعابد الرباني وهيب بن الورد رحمه الله : " هل يجد طعم العبادة من يعصيه ؟ قال : لا ، ولا من يهم بالمعصية " .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول :
"
من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية"انتهى
ولأجل ذلك كان السلف الصالح الكرام ، والأئمة الأعلام يتشوقون إلى فعل الطاعات ، ويحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات ، ولا يسأمون من العبادات لأنسهم برب البريات .
قال الوليد بن مسلم " رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس" .
وهذا أبو عائشة الإمام التابعي مسروق بن الأجدع كان يصلي حتى تتورم قدماه ، قالت زوجته " فربما جلستُ أبكي مما أراه يصنع بنفسه ، ولما حضرته الوفاة قال :ما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى " .

فاحرص على بلوغ منزلة الإحسان وفق العلم الأثري والهدي النبوي حتى ترزق الأنس عند الطاعات ، ولا تستوحش إذا خلوت بذكر رب الأرض والسماوات ، فليس العجب ممن لم يأنس بالله ولم يرزق التوفيق ، وإنما العجب ممن أدرك ذلك وانحرف عنه إلى بنيات الطريق انتهى جميع المادة السابقة منقولة باختصار يسير من كتاب "فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب " للشيخ محمد نصر الدين عويضة.
رد مع اقتباس