عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-14-2017, 03:10 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,233
Lightbulb

فقه الحديث
اختلف السلف في أصل العزلة، فقال الجمهور الاختلاط أوْلى لما فيه من اكتساب الفوائد
الدينية للقيَام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أَنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك. وقال قوم العزلة أولى لتحقق السلام بشرط معرفة ما يتعين. وقال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أَنه يقع في معصية، فإن أشكل الأمر فالعزلة أَولى. وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أَحد الأمرين ومنهم من يترجح؛ فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليهما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما إذا تسويا فيختـلف باختـلاف الأحوال فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة (1).

وذكر الخطابي في "كتاب العزلة" أن العزلة والاختلاط يختلف باختلاف متعلِّقاتهما فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعَلق بطاعة الأَئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات، ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو أروح للبدن والقلب واللَّه أعلم. وقال القشيري في " الرسالة ": طريق من اثر العزلة أن يعتقد سلامة الناس من شره لا العكس. فإن الأول ينتجه استصغاره نفسه وهي صفة المتواضع، والثاني شهوده مزية له على غيره وهذه صفة المتكبر.(2)

فمن قال بأفضلية الإختلاط استدل بأحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ َلَى أَذَاهُمْ)(3). قال الصنعاني في كتابه "سبل السلام" (4): (فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ولكل حال مقال).

وأما من قال بأفضلية العزلة فاستدل بأدلة منها حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَتْلُوهُ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهَا...)(5). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِه)ِ قَالُوا: "ثُمَّ مَنْ ؟" قَالَ: (مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ)(6). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(7): (هو محمول على من لا يَقدر على الجهاد فيستحب في حقه العزلة ليسلم ويسْلم غيره منه).

وأجاب الجمهور عن أحاديث العزلة بأنها محمولة على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هي فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك(8).

أما في زمن الفتن فالنصوص تدل على أفضلية العزلة، وصيانة الدين من الفتن، ومن تلك النصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ)(9)، وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ قَالَ يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ...)(10). فتشرع العزلة في زمان المحن والفتن ولا تشرع فيما عداها لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع(11). وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة أصحاب الكهف وفرارهم بدينهم من فتنة الملك ومحاولته ردهم عن دينهم، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره(12): (إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة … فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم وأختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الله} أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضا بأبدانكم {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم...).

قال العلماء: الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ومرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت، ولم يخص موضعا من موضع وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك إن كنت بين أظهرهم(13).

_______
(1) بتصرف: فتح الباري، كتاب الفتن، باب التعرب في الفتنة، حديث "يوشك أن يكون خير مال..".

(2) فتح الباري، كتاب الرقاق، باب العزلة راحة من خلاط السوء، حديث " يأتي على الناس زمان خير ..".
(3) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، حديث "المؤمن الذي يخالط الناس.. " (قرص موسوعة الحديث) وإسناده حسن (سبل السلام شرح بلوغ المرام: 2\546 ).
(4) سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني: (2\546).
(5) سنن الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء أي الناس خير ، حديث " ألا أخبركم بخير الناس..". قال أبو عيسى: هذا حديث حَسَنٌ غَرِيبٌ مِن هذا الوجه. (قرص موسوعة الحديث)
(6) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في، حديث " مؤمن يجاهد في سبيل الله ..".
(7) فتح الباري، كتاب الرقاق، العزلة راحة من خلاط السوء، حديث "رجل جاهد بماله ونفسه...".
(8) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، حديث " رجل يجاهد في سبيل الله بماله.." (قرص موسوعة الحديث)
(9) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، حديث ""ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ..".
(10) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، حديث " إنها ستكون فتن ألا ثم ... "
(11) انظر: تفسير القرآن العظيم لإبن كثير (3\103).
(12) بتصرف: المرجع السابق (3\103)
(13) بتصرف: تفسير القرطبي، للقرطبي (10\361).


================

تم والحمد لله . هنا .
رد مع اقتباس