#1
|
||||
|
||||
المكر و الكيد في القرآن الكريم
المكر و الكيد في القرآن الكريم جاء في الكتاب القيم الرائع "قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عزّ وجلّ " للشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني رحمه الله ، في القاعدة التاسعة عشر ، صفحة 454 من الطبعة الثانية: المكر : 1- في قول الله تعالى في سورة الأنفال : " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ "الأنفال:30. 2- وقول الله تعالى في سورة النمل : "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"50 فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ"51" فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"52:النمل . 3- وقوله تعالى في سورة الأعراف : " أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ"98" أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"99 . 4- وقوله تعالى في سورة يونس : " وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ"21 . ونحو ذلك . . بحثنا عن المعنى الأصلي اللغوي للمكر فوجدنا أنه : تدبير أمر في خفاء . ومعلوم بداهة أن ما يُدبّر في الخفاء لا يلزم منه أن يكون شرًا ، بل قد يكون خيرًا . ثم اكتسب المكر في تصورات العامة أو في العرف العام بعد ذلك صورة قبيحة مستهجنة ، تخصيصًا منهم للمكر في تدبير ما هو شر . وسيطر هذا المعنى الجديد على أفكار بعض المفسّرين ،فوجدوا إشكالاً في نسبة المكر إلى الله تعالى ، فلجأوا إلى تأويل ذلك بأنه من باب المشاكلة . ولو أنهم أبعدوا عن تصورهم هذا المفهوم المستحدث ، ورجعوا إلى أصل المعنى اللغوي ، لظهر لهم أن " المكر" الذي هو تدبير أمر في خفاء ، قد يكون مكرًا في خير ، وقد يكون مكرًا في شر ، وجانب الخير منه لا ينافي الكمال بل هو عنصر من عناصره ، إن الحاكم العادل يمكر بالمجرمين حتى تقيض عليهم يد العدالة ، والمسلم الملتزم بإسلامه يمكر ، ومكره يكون في الخير ومرضاة الله تعالى ، والله جلّ وعلا يمكر وهو خير الماكرين . لذلك ذم الله تعالى في القرآن المكر السيء ، ولم يذم مطلق المكر ، فقال تعالى في سورة فاطر : " وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ"10 . " اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ . . "43 . ولما كان الأمر كذلك فقد وجب المصير إلى المعنى الأصلي اللغوي حتمًا ، ولا حاجة بنا إلى إخراج اللفظ عن أصل دلالته اللغوية ، يُضاف إلى ذلك أن هذا الإخراج يوقعنا في الإشكال ، ويجعلنا في حاجة للتأويل ، إنه لغط لا داعي له الكيـد : في قوله تعالى في سورة الطارق : " إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا"15" وَأَكِيدُ كَيْدًا"16" فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا"17. - وقوله تعالى في سورة يوسف : " . . كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ . . "76 . - وقوله تعالى في سورة الأعراف : " وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ"183 . جاء معنى " الكيد " لغة ما يلي : الكيد : الاحتيال والاجتهاد . الكيد : التدبير بباطل أو حق . الكيد الحرب . وتأتي كاد بمعنى طلب و أراد . . وغير ذلك من معان . أنظر لسان العرب . ونستطيع أن نقول : إن هذه المعاني تدور حول : اتخاذ أعمال وتدبيرات توقع الآخرين بما يكرهون . وبأدنى تأمّل يتضح لنا أنّ اتخاذ مثل هذه الأعمال قد يكون في الخير وقد يكون في الشر ، وجانب الخير منه لا يكون منافيًا للكمال ، بل هو من عناصره . فإذا شاع في تصورات العامة ، أو في العرف العام ، أو كان أحد المعاني اللغوية ، تخصيص الكيد في الصورة القبيحة المستهجنة التي لا تليق بكمال صفات الله جلّ وعلا ، فلا يصح أن يسيطر هذا المعنى على متدبّر ما نُسب إلى الله في القرآن من "الكيد " ، حتى يلجأ إلى التأويل بالمشاكلة وغير ذلك ، ما دام باستطاعته أن يجد في المعاني اللغوية الأصول ما لا ينافى مع كمال صفات الله عزّ وجل ، بل هو ينطبق - على ما نعلم - بالنصوص القطعية الأخرى وبالبراهين العقلية من صفات الله تعالى . وبناء على هذا نقول أن الكافرين يكيدون في الشر ، لأنهم يعملون بمكايد لإدحاض الحق وإقامة الباطل في الأرض ، أما الله تعالى فإنه يكيد في الخير ، لأنه لا يُصلح عمل المفسدين ، بل يرد كيد الكافرين إلى نحورهم وينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه ، ويؤيد أنصار الحق ، ويأبى إلا أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون . وينتهي بذلك الأمر دون إشكال ، ولا تأويل ، وتستقيم عملية التدبر لكلام الله . انتهى وتعقيبًا على هذا الكلام المفيد الشيخ الميداني ، أقول : أن " المكر " مجاله تدبير الخطط ، أي التخطيط ، ومناقشة الأساليب والأعمال لاختيار الناجع منها ، كما في قوله تعالى في سورة الأنفال : " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ "30. لذلك وُوصف " المكر " في القرآن بأنه خير أو سيء . أما "الكيد " فمجاله الأعمال نفسها ، ومحاولة تطبيقها على الواقع لتحقيق الغاية المرادة ، وإلغاء ثأثير المقاومة أو الممانعة التي تحول دون تحقيق الغاية المرادة . كما ورد في مقاييس اللغة 5/ 149 : "كَيَدَ" الْكَافُ وَالْيَاءُ وَالدَّالُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةٍ لِشَيْءٍ بِشِدَّةٍ، ثُمَّ يَتَّسِعُ الْبَابُ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكَيْدُ: الْمُعَالَجَةُ. لذلك وُوصف " الكيد " في القرآن – في إطار تحقيق المراد - بأنه : متين ، أو ضعيف ، أو عظيم ، أو أنه في تضليل أو ضلال أي لم يحقق المراد . وعليه ، فإن وصف كيد الشيطان بأنه ضعيف يعني ، أن الله جلّ وعلا لم يعطِ الشيطان أي شيء من القدرة أو القوة للقيام بأعمال من شأنها أن تُكره الإنسان على الضلال ، إلا الوسوسة . كما قال عليه وآله الصلاة والسلام" الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة "الدرر = عن الشيطان الرجيم فليس للشيطان - بوصفه من الجن - أي تأثير على الإنسان ، بوصفه الخليفة في الأرض ، في الإكراه على الضلال ، كما بين الله تعالى وذكر عن خطبة إبليس في الجنة : بأنه لم يكن له على الكافرين الضالين إلا الدعوة والطلب ، عن طريق الوسوسة : " وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم . . " إبراهيم22 حتى أن بعض المفسرين اعتبر الاستثناء منقطعًا ، على اعتبار أن فعل " الدعوة " ليس من نوع " السلطان " بل هو مجرد الطلب والتزيين . وهذا بخلاف واقع الإنسان فإن له قدرة وتأثير على أخيه الإنسان بالإكراه والجبر والغصب والسجن والقتل . .إلخ ومن ثم فإن وصف كيد النساء بأنه عظيم ، من باب أن له تأثير قوي ، وله فاعلية عالية في تحقيق ما تريده المرأة . وقد وردت الكلمتان " المكر " و " الكيد " في سورة يوسف ، كل في سياقها الذي بيناه سابقًا: " . . فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ"28" يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ"29" "إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " الضمير في " إِنَّهُ " يعود على ما حصل بينهما وأنه من فعلها " كيدها " وليس من فعل يوسف ، بدليل القميص وقد قُدّ من دبر . . "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ"30" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ"31. " فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ " مكر النسوة هنا هو : قولهن في امرأة العزيز ، وإشاعته وتداوله حتى وصل لسمعها . . حينها قررت أن ترد عليهن ، بمكر وكيد جديدين ، أي بتخطيط وتنفيذ للمخطط .. فقطّعن أيديهن . " قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ"32" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"33" فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"34" "وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ " كيد النسوة هنا هو : إجباره على أن يفعل ما يأمرْنَه به ويكرهْنَه عليه من الفاحشة . وبهذا يُرفع الإشكال ، ويذهب الخلاف . . والله تعالى أعلم وأجلّ . هذا في بيان المكر والكيد كما وردا في القرآن الكريم ، لكن ما أهمية إدراك هذا الفهم ؟ وما دوره في تعامل الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مع الواقع الذي كانوا يعيشونه ؟ وما تأثير ذلك على سيرهم من أجل تحقيق الغاية من حمل الرسالة ؟ والحمد لله رب العالمين =ملتقى أهل التفسير=
__________________
|
|
|