العودة   ملتقى نسائم العلم > ملتقى عام > ملتقى عام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 05-12-2017, 05:28 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس الحادي والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة


من علماء الآخرة

شيخ الإسلام ابن تيميَّة
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه
علماء الآخرة

شيخ الإسلام ابن تيمية
هو الإمام الربَّاني، الفقيه المجتهد، المجدِّد، بحْر العلوم العقلية والنقلية، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدِّين أبي المحاسن عبدالحليم بن الشيخ الإمام مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن أبي محمَّد عبدالله بن أبي القاسم الخَضر بن محمَّد بن تيميَّة بن الخضر بن علي بن عبدالله النميري.لقبه:لُقِّب بشيخ الإسلام، وبابن تيمية.
إنَّ لقب تيمية: إنما هو لجَدِّه محمد بن الخضر، وسببه قولان: "فقيل: إنَّ جَده محمد بن الخضر حجَّ على درْب تيماء -بلدة بين الشام ووادي القُرى في طريق حجاج الشام-، فرأى هناك طفلةً فلما رجع وجد امرأته قد ولدتْ له بنتًا فقال: يا تيميَّة - يا تيمية، وقيل: إنَّ جده محمدًا كانت أمُّه تسمَّى تيمية، وكانت واعظةً، فنُسب إليها، وعرف بها"؛ الإمام مرعي الكرمي، الكواكب الدرية، (ص: 52) بتصرف.، وغالبًا ما يُجمع بينهما فيقال: شيخ الإسلام ابن تيمية.كنيته:كني بأبي العباس، مع أنه لم يتزوَّج؛ ذلك أنَّه من السُّنة أن يكنى المسلِم، ولو لم يُولد له، أو كان صغيرًا؛ لحديث عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها -: أنها قالت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا رسول الله، كل نسائك لها كُنية غيري، فقال لها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم-"اكتني بابنِك عبدالله-يعني: ابنَ الزبير-أنت أمُّ عبدالله" صحيح: رواه الإمام أحمد في مسنده (6/151)، 186)، وصحَّحه الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، (1 ص 45)، رقم (132).، ولقول أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل فرأى ابنًا لأبي طلحةَ، يُقال له:أبو عُمَير، وكان له نُغَير يلعب به، فقال"يا أبا عُمير، ما فعَل النُّغَير؟".رواه البخاري، (16/479 - 480 فتح) رقم (6203)، وبوَّب عليه الإمام البخاري في كتاب الأدب بابًا بعنوان: الكُنية للصبي وقبل أن يُولَد للرجل، ورواه مسلم (4/1692 - 1694) رقم (2150).
الألوكة
*الاسم: أحمد تقي الدين بن شهاب الدين عبدالحليم بن أبي البركات مجد الدين بن تيمية، الحرَّاني، الدمشقي -أبو العباس- .*ولادته: ولد بحرَّان يوم الإثنين 10 من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ.* انتقل مع والده من حرَّان إلى دمشق، وكان عمره سبع سنوات، وذلك بعد إغارة التتر على حرَّان.
-كانت أولى أعمال ابن تيمية في تعليم القرآن الكريم، فقد كان يعلم الناس كيفية قراءة القرآن وحفظه، كما أنه أتم حفظ القرآن الكريم منذ سن صغيرة، واهتم بعد ذلك في تعلم علوم الفقه والتفسير، وبدأ في البحث في مثل هذه الأمور، وبعد أن بلغ من العمر سبعة عشر عامًا بدأ في جمع وتأليف ملاحظاته في بعض الكتب-
*
تُوفِّي والدُه وعمره 22سنة، سنة 682هـ.قام مقام والدِهِ في مشيخة التدريس في هذه السن المبكرة، بدار الحديث السكرية في 2 المحرم 683هـ، وحضر درسَه كبار علماء دمشق.هنا ..
من تلاميذه :
الإمام ابن قيِّم الجوزية، والإمام الذهبي، والإمام ابن كثير، والحافظ البزار، والإمام ابن عبدالهادي ، والشيخ الواسطي ، والشيخ ابن الوردي ، والشيخ ابن رشيق ، والإمام ابن مُفلِح ، وغيرهم الكثير والكثير، والذين قد حملوا عِلمَه، وسلَكوا منهاجَه في تبليغ الشريعة.وبالنظر إلى تلاميذ هذا الإمام العملاق، تظهر منزلتُه، ويبين قدرُه، فإذا كان تلاميذه أئمة، ولهم من العلم ما لهم مِن تآليف، وتولٍّ لقضاء أو إصلاح، فكيف يكون قدرُ أستاذهم وشأنه؟!إنَّه بحر لا ساحلَ له، وموسوعةٌ عِلمية ومكتبية متنقِّلة، مع العلم والعمل، والزهد وترْك المناصب، واللهج بذِكْر الله - عز وجل - والدعوة إلى نُصْرة شرْعه بنفسه ورُوحه وماله كله، وهذا معروفٌ وواضح من أحواله، بما ترجم له مَن رآه، أو رأى مَن رآه، وبما تواترتْ أخباره بيْن ناقليها مِن جميع فئات شعبي دمشق ومصر، وبما ترَك خلفَه من آثار: سواء في تلاميذ، أو كتب، أو إصلاح.عقيدته ومذهبه:عقيدته:عقيدة الإمام ابن تيمية التي يعتقِدها هي عقيدة السلف الصالح: أهل السنة والجماعة، المتمثِّلة في القرون الثلاثة الأولى، على ما كان عليه النبيُّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله"خير أمَّتي قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".رواه البخاري (10/517 - 518 فتح)، رقم (3650)، ومسلم (4/1962- 1964) رقم (2533-2535).، فلا علاقة لمعتقده بشخصٍ معيَّن، ولا بمذهب معيَّن، لا حنبلي ولا غيره؛ بل بما جاء في كتاب الله - عز جل - وبما ثبَت في صحيح السنة النبوية المطهَّرة، وتفسير لما فيها بما ثبت عن الصحابة الكِرام، وعن تابعيهم بإحسانٍ من تلك القُرون الثلاثة الفاضلة، ومع أنَّ إمامه في الفقه هو الإمام أحمد بن حنبل، فإنَّ الإمام ابن تيمية لم يَدْعُ أحدًا قط إلى الْتزام العقيدة على منهج الحنابلة؛ بل كان يدعو إلى الْتزام معتقد السلف الصالح، وقد أبان ذلك هو بنفسه إذ قال "أما الاعتقاد، فإنَّه لا يُؤخذ عني ولا عمَّن هو أكبرُ مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما أجمع عليه سلفُ الأمَّة، فما كان في القرآن وجَب اعتقادُه، وكذلك ما ثبَت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيحي البخاري ومسلم... وكان يَرِدُ عليَّ مِن مصر وغيرها مَن يسألني عن مسائلَ في الاعتقاد أو غيره، فأُجيبه بالكتاب والسُّنة، وما كان عليه سَلفُ الأمة"الإمام ابن عبدالهادي، العقود الدرية، (ص: 170) بتصرف، الإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (3/161).، وقد كتَب الإمام ابن تيمية هذه العقيدةَ التي يَدين اللهَ بها حينما طُلِب منه أن يَكتبها، فكتبَها فيما بيْن الظُّهر والعصرالإمام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (3/194)، وهذه العقيدة هي:
الإيمانُ بالله وملائكته، وكُتبه ورسله، والبعْث بعد الموت، والإيمان بالقَدر خيره وشرِّه، وإثبات معيَّة الله لخلْقه، وأنها لا تُنافي علوَّه فوقَ عرْشه، ورؤية المؤمنين لربِّهم يومَ القيامة.ومِن الإيمان بالله تعالى:الإيمانُ بكلِّ الأسماء والصفات الواردة في الكتاب وصحيح السنة، ثم الإيمان بالقُرآن الكريم، وأنَّه كلام الله، منزَّل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنَّ الله تكلَّم به حقيقة، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره.ثم الإيمان باليوم الآخِر، وما يكون فيه من أمورٍ بعد هذه الفِتنة، إمَّا نعيم وإمَّا عذاب، إلى أن تقومَ القيامة الكبرى، فتُعاد الأرواح إلى الأجساد، ثم تقوم القيامة، فيقوم الناس مِن قبورهم لربِّ العالمين حفاةً عراةً غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويُلجمهم العرق، وتُنصب الموازين، فتوزَن بها أعمالُ العباد، وتنشَر الدواوين، ثم الإيمان بالحِساب.والإيمان بحوْض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي من شرِب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا، والإيمان بالصِّراط، وهو منصوبٌ على متْن جهنم: وهو الجِسر الذي بين الجَنَّة والنار، يمرُّ الناس على قدْر أعمالهم، فمَن مرَّ على الصِّراط، دخَل الجنة، فإذا عبَرُوا عليه وقفوا على قنطرة بيْن الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم مِن بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجَنَّة، وأوَّل مَن يَستفتح بابَ الجنة محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأوَّل مَن يدخل الجنة مِن الأمم أمَّتُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القيامة ثلاثُ شفاعات:الأولى:يشفع في أهْل الموقف حتى يُقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياءُ عنها؛ آدم فمَن بعده، حتى تنتهي إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم.الثانية:يشفع في أهل الجَنَّة أن يدخلوها.
الثالثة:يشفع فيمَن استحقَّ النار، وهذه الشفاعة لـه ولسائرِ النبيِّين والصِّدِّيقين وغيرهم، فيشفع فيمَن استحق النار ألاَّ يدخلها، ويشفع فيمَن دخلها أن يخرج منها.كما يعتقد أنَّ الإيمان قولٌ وعمل، يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو متَّبع لمعتقد أهل السُّنة والجماعة؛ الفرْقة الناجية، في عدم تكفير أهْل القِبلة بمُطلق المعاصي والكبائر؛ بل الأُخوَّة الإيمانية ثابتةٌ مع المعاصي.ومما يعتقده:وجوب سلامة القلْب واللِّسان لأصحاب النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتولَّى آل بيت رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحبُّهم، كما يتولَّى أزواج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمهات المؤمنين، وأنهنَّ أزواجه في الدنيا وفي الآخرة، كما أنَّه يُمسك عما شجَر بين الصحابة - رضي الله عنهم - لأنَّ الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زِيدَ فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه.والصحيح منه هم فيه معذورون:إما مجتهدون مُصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، مع الاعتقاد بأنَّ كل واحد من الصحابة ليس بمعصومٍ عن كبائر الإثم وصغائره، لكن لهم من السوابق والفضائل ما يُوجِب مغفرةَ ما يصدر منهم إنْ صدر، حتى إنهم يُغفر لهم من السيئات ما ليس لمَنْ بعدَهم، أو بتوبة أو شفاعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتُلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟!وأنَّهم خيرُ البشر بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمَّة التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله.
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 05-12-2017, 05:29 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس الثاني والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه
شيخ الإسلام ابن تيمية
تابع عقيدة شيخ الإسلام ابن تيميَّة
*وهو تابع لأهل السُّنة بأنهم يَدينون بالنصيحة للأمَّة، والصبر عند البلاء، والشُّكر عند الرخاء، والرضا بمرِّ القضاء، ويدْعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والعفو عمَّن ظلم، ويدْعون إلى برِّ الوالدين، وصِلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، والبُعد عن الأخلاق السيِّئة؛ كل ذلك اتباعًا للكتاب والسنة، وتطبيقًا للشريعة التي بُعِث بها محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وله عبارات رقراقة ومن هذه العبارات:
1
-المـؤمن مأمورٌ بأن يفعـل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور"
2
الذِّكْر للقلْب مثل الماء للسمك"
3
إنَّ في الدنيا جَنَّةً مَن لم يدخلها لا يدخُل جَنَّةَ الآخرة"
4
المحبوس مَن حُبِس قلْبه عن ربه - تعالى - والمأسور مَن أَسَره هواه"
5
ما يَصنع أعدائي بي؟! أنا جَنَّتي وبُسْتاني في صدري، أين رحتُ فهي معي لا تُفارقني؛ إنَّ حبسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي مِن بلدي سياحة".
6
العبادة: اسمٌ جامِع لكلِّ ما يحبه الله ويرْضاه، مِن الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة"
7
النَّفْس لا تزكو وتصلح حتى تُمحَّصَ بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيِّده من رديئه، حتى يفتنَ في كِير الامتحان"
8
الطاعة والعبادة هي مصلحةُ العبد التي فيها سعادتُه ونجاته"
9
ما يقوم بالقلْب من الشعور والحال يُوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر مِن سائر الأعمال يُوجِب للقلب شعورًا وأحوالاً"
10
المشارَكة في الهديِ الظاهر تُورِث تناسبًا وتشاكلاً بيْن المتشابهين، يقود إلى موافقةٍ ما في الأخْلاق والأعمال.
11
كلُّ قائل إنَّما يُحتَجُّ لقوله لا به، إلا الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم".
12
ما ينبغي أن يُمنَع العِلمُ ممَّن يطلبه".
13
لن يخاف الرجلُ غيرَ الله إلا لمرَض في قلبه".



رد مع اقتباس
  #23  
قديم 05-12-2017, 05:31 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس الثالث والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه
تابع من علماء الآخرة
شيخ الإسلام ابن تيمية
14-"الإمامة في الدِّين موروثةٌ عن الصبر واليقين"
إِذَا كَانَ المُسلِمُ في حَيَاتِهِ مُحتَاجًا إِلى التَّحَلِّي بِمَحَامِدِ الأَخلاقِ وَكَرِيمِ الصِّفَاتِ؛ لِيَعِيشَ في دُنيَاهُ عِيشَةً نَقِيَّةً، وَيَمُوتَ إِذَا انتَهَى أَجَلُهُ مِيتَةً سَوِيَّةً، فَإِنَّ الصَّبرَ مِن أَهَمِّ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ في جَوَانِبِ حَيَاتِهِ وَمَجَالاتِهَا المُختَلِفَةِ، ذَلِكُم أَنَّهُ لا استِقَامَةَ وَلا كَرَامَةَ، وَلا إِمَامَةَ وَلا زَعَامَةَ، وَلا فَوزَ وَلا فَلاحَ إِلاَّ بِالتَّحَلِّي بِالصَّبرِ، إِذْ هُوَ وَقُودٌ وَزَادٌ، وَقُوَّةٌ في الشَّدَائِدِ وَعَتَادٌ، يَحتَاجُهُ المَرِيضُ في شَكوَاهُ، وَلا يَستَغني عَنهُ المُبتَلى في بَلوَاهُ، وَلَولا الصَّبرُ لَغَرِقَ المَهمُومُ في بُحُورِ هُمُومِهِ، وَلَغَشَتِ المَحزُونَ سَحَائِبُ غُمُومِهِ. طَالِبُ العِلمِ بِحَاجَةٍ إِلى الصَّبرِ عَلَى كُتُبِهِ وَدُرُوسِهِ، وَالدَّاعِيَةُ مَعَ مَدعُوِّيهِ لا يَشُدُّ عَزمَهُ مِثلُ الصَّبرِ، وَلَن تَرَى أَبًا في بَيتِهِ وَلا مُعَلِّمًا في مَدرَسَتِهِ ولا موظفًا في مُؤَسَّسَتِهِ، وَلا أُمًّا وَلا زَوجَةً وَلا رَبَّةَ بَيتٍ وَلا خَادِمًا، إِلاَّ وَهُم في حَاجَةٍ إِلى الصَّبرِ مَاسَّةٍ. وَعَلَى كَثرَةِ النِّعَمِ الَّتي يُولِيهَا الرَّبُّ ـ جل وعلا ـ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّ الصَّبرَ يَأتي مِنهَا في المُقَدِّمَةِ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم ـ"....وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ"
الراوي : أبو سعيد الخدري | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 1469 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
قَالَ الشَّيخُ ابنُ سِعدِيٍّ - رحمه الله

-: وَإِنَّمَا كَانَ الصَّبرُ أَعظَمَ العَطَايَا؛ لأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أُمُورِ العَبدِ وَكَمَالاتِهِ، وَكُلُّ حَالَةٍ مِن أَحوَالِهِ تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ، فَإِنَّهُ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتى يَقُومَ بها وَيُؤَدِّيَهَا، وَإِلى صَبرٍ عَن مَعصِيَةِ اللهِ حَتى يَترُكَهَا للهِ، وَإِلى صَبرٍ عَلَى أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ فَلا يَتَسَخَّطَهَا، بَل إِلى صَبرٍ عَلَى نِعَمِ اللهِ وَمَحبُوبَاتِ النَّفسِ، فَلا يَدَعَ النَّفسَ تَمرَحُ وَتَفرَحُ الفَرَحَ المَذمُومَ، بَل يَشتَغِلُ بِشُكرِ اللهِ، فَهُوَ في كُلِّ أَحوَالِهِ يَحتَاجُ إِلى الصَّبرِ وَبِالصَّبرِ يَنَالُ الفَلاحَ أ. هـ.وَلأَهَمِّيَّةِ الصَّبرِ وَعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ وَرِفعَةِ شَأنِهِ، فَقَد ذَكَرَهُ - جل وعلا ـ في كِتَابِهِ في أَكثَرَ مِن تِسعِينَ مَوضِعًا، فَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَن ضِدِّهِ فَقَالَ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوَا وَصَابِرُوا"، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم ـ"فَاصبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَستَعجِلْ لَهُم"، وَقَرَنَهُ بِالصَّلاةِ في قَولِهِ: (وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ)، وَجَعَل الإِمَامَةَ في الدِّينِ مَورُوثَةً عَنِ الصَّبرِ وَاليَقِينِ بِقَولِهِ:"وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوَا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"، وَحَتَّى في الأَحوَالِ الَّتي أُبِيحَ فِيهَا لِلمُؤمِنِ أَن يَتَجَاوَزَ مَا يَقتَضِيهِ الصَّبرُ فَيَنتَقِمَ لِنَفسِهِ، فَقَد نُدِبَ إِلى الصَّبرِ وَحُبِّبَ إِلَيهِ إِتيَانُهُ وَجُعِلَ خَيرًا لَهُ، قَالَ - تعالى ـ"وَإِنْ عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ"، وَإِنَّ مِن أَعظَمِ الخَيرِ في الصَّبرِ أَنَّ أَجرَهُ لا يُقَدَّرُ وَلا يُحَدَّدُ، قَالَ - سبحانه ـ"إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ"، وَإِذَا وَجَدَ الصَّابِرُونَ في الصَّبرِ مَرَارَةً في الحُلُوقِ وَثِقَلاً عَلَى النُّفُوسِ، أَتَت مَحَبَّةُ اللهِ - جل وعلا ـ لِلصَّابِرِينَ وَمَعِيَّتُهُ لَهُم، لِتُخَفِّفَ عَنهُم وَطأَتَهُ وَتُهَوِّنَ عَلَيهِم صُعُوبَتَهُ، قَالَ - تعالى ـ"وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"، وَقَالَ - تعالى ـ"وَاصبِرُوَا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" وَحِينَ يَفرَحُ المُستَعجِلُونَ بمَا يَنَالُونَهُ مِن مَتَاعٍ دُنيَوِيٍّ زَائِلٍ، أَو يَتَمَتَّعُونَ بِتَحقِيقِ مَا يَتَمَنَّونَهُ مِن أَمَانِيَّ قَرِيبَةٍ، يَأتي فَلاحُ الصَّابِرِينَ وَفَوزُهُم بِالجَنَّةِ مُطَمئِنًا لَهُم بِأَنَّ لَهُمُ العَاقِبَةَ الحَسَنَةَ وَالمَتَاعَ الجَمِيلَ في الآخِرَةِ؛ لِئَلاَّ يَيأَسُوا مِن رَوحِ اللهِ أَو يَقنَطُوا مِن رَحمَتِهِ، قَالَ - تعالى ـ"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ"، وقَالَ - تعالى ـ في أَهلِ الجَنَّةِ"إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بما صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ" وَقَالَ - سبحانه ـ: "وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبى الدَّارِ"، وَقَالَ ـ تعالى ـ"أُولَئِكَ يُجزَونَ الغُرفَةَ بما صَبَرُوا" . هنا .

15-"حصول العِلم في القلْب كحصول الطعام في الجِسم"العلم أعظم هبة من الله لعبده . به يعُرف به جل وعلا وتُعرف حدوده ونواهيه , ومن أعمر وقته بطلب العلم , كان في لذة وأنس لا تعدلها لذائد الدنيا كلها .
وإنك إن وقفت على سير من وجدوا هذه اللذة تملكك العجب من حالهم , وغبطتهم على ذلك السرور
إنه نموذج للحياة الطيبة التي كان يعيشها العلماء , والأنس والسرور الذي كانوا عليه في حياتهم الدنيا , ولما كثر انشغالنا بالتوافه من الأمور صارت حياتنا ضنك وهَمّ
قال: شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - قال العلامة ابن القيِّم - رحمه الله - "وسَمِعت شيخنا أبا العبَّاس ابن تيميَّة - رحمه الله - يقول - وقد عرضَ له بعضُ الألم - فقال له الطَّبيب: أضَرُّ ما عليك الكلام في العلم والفِكْر فيه، والتوجُّه والذِّكْر، فقال: ألَسْتُم تزعمون أن النَّفْس إذا قوِيَتْ وفَرِحت أوجب فرَحُها لها قوَّةً تُعين بها الطَّبيعة على دَفْع العارض؛ فإنه عدوُّها، فإذا قويَتْ عليه قهرَتْه؟ فقال الطبيب: بلى، فقال: إذا اشتغلَتْ نفسي بالتَّوجيه والذِّكْر والكلام في العلم، وظفرَتْ بِما يُشْكِل عليها منه، فرِحَتْ به وقويت، فأوجب ذلك دفْعَ العارض، هذا أو نحوه من الكلام!"مفتاح دار السعادة . هنا .
فدعوة إلى العلم وطلبه , وإن لم تستطع فلا أقل من تغذية الروح بالمطالعة في كتب أهل العلم, انظر في تفسير آية , أو شرح حديث , أو سيرة عطرة ,16-"لا يُنال الهُدى إلا بالعلم، ولا يُنال الرَّشاد إلا بالصَّبْر"الرَّشاد:الصواب
17-"العبادة مبناها على الشَّرْع والاتباع، لا على الهوى والابتداع"18-"كلُّ نقمة منه عدل، وكلُّ نِعمة منه فضل"
"....ماضٍ فيَّ حكمُك ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك... " الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة-الصفحة أو الرقم: 199 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.

19-"مَن أراد السعادة الأبدية، فلْيلزم عتبة العبودية".
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 05-12-2017, 05:32 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس الرابع والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه
تابع من علماء الآخرة
شيخ الإسلام ابن تيمية
20 "لا تجعل قلْبك للإيرادات والشُّبهات مِثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعلْه كالزُّجاجة المصمَتة، تمرُّ الشبهات بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته"
-أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ قال سألتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين : بأيِّ شيءٍ كان نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يفتتحُ صلاتَه إذا قام من الليلِ ؟ قالت : كان إذا قام من الليلِ افتتح صلاتَه "اللهمَّ ! ربَّ جبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ . فاطرَ السماواتِ والأرضِ . عالمَ الغيبِ والشهادةِ . أنت تحكم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون . اهدِني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنِك إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ " .الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم: 770 | خلاصة حكم المحدث : صحيح- الدرر .
*عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّهُ قال"يا عبادي ! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا . فلا تظَّالموا . يا عبادي ! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه . فاستهدوني أَهْدِكم."
الراوي : أبو ذر الغفاري |المحدث : مسلم |المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 2577 |خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر.
كلُّكم ضَالٌّ إلَّا مَن هديْتُه، يعني: إنَّ الهدايةَ لِمَنْ حصَلتْ إنَّما هي مِن عندِ اللهِ لا مِن عندِ نفْسِه, الدرر.
*قال الإمام مسلم في صحيحه : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قال:حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلِ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي،وَاذْكُرْ، بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ، سَدَادَ السَّهْمِ».صحيح مسلم .صحيح مسلم / 48 - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / 18 - باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل / حديث رقم 2725
الشرح (سددني) أي وفقني واجعلني مصيبًا في جميع أموري مستقيمًا ،وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور وسداد السهم تقويمهبالهدىالهدى هنا هو الرشاد ويذكر ويؤنث ومعنى اذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم أي تذكر ذلك في حال دعائك بهذين اللفظين لأن هادي الطريق لا يزيغ عنه ومسدد السهم يحرص على تقويمه ولا يستقيم رميه حتى يقومه وكذا الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد عمله وتقويمه ولزومه السنة وقيل ليتذكر بهذا لفظ السداد والهدى لئلا ينساه.شرح النووي لـ صحيح مسلم .

*دعاء مأثور وليس حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
اللهم أرنى الحق حقًا و ارزقنى اتباعه و أرني الباطل باطلا ووفقنى لاجتنابه ..هو دعاء عام . هنا .
هذا دعاء مأثور عن عمر -رضي الله عنه-، ذكره البهوتي في كتابه شرح منتهى الإرادات 3/497، وعزاه إلى عمر - رضي الله عنه -، و ذكره ابن كثير في تفسيره. ابن كثير 1/ 444 .هنا .

*فهذه نصيحة - لا تجعل قلْبك للإيرادات والشُّبهات...-قدمها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – لأشهر تلاميذه، وهو ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى – فنعم الناصح ونعم المنصوح.يقول ابن القيم عن هذه النصيحة: ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.مفتاح دار السعادة:1/ 443.
وهذا موجّه لابن القيم المعروف بسعة علمه، وبقوة تألُّهه وعبادته، وخبرته بأحوال القلوب وأمراضها وأدوائها وطرائق علاجها: فكيف بنا وبأحوالنا والله المستعان؟
الإسفنجي الذي حذّر منه شيخ الإسلام تلميذه ابن القيم، فهو ذلك الذي يتشرّب شبهات أهل الأهواء فتعلق في قلبه فيكررها وينشرها وينضح قلبه بها.
هنا .
21 " مَن فارق الدليل ضلَّ السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم"
. الألوكة .
¤
قال الإمام أحمد بن حنبل:
لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا .الإعلام لابن القيم
¤«ومَن أحالك على غيرِ «أخبرنا» و«حدَّثنا» فقد أحالك: إمَّا على خيالٍ صوفيٍّ، أو قياسٍ فلسفيٍّ، أو رأيٍ نفسيٍّ. فليس بعد القرآن و«أخبرنا» و«حدَّثنا» إلَّا شبهاتُ المتكلِّمين، وآراءُ المنحرفين، وخيالاتُ المتصوِّفين، وقياسُ المتفلسفين. ومَن فارق الدليلَ ضلَّ عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنَّة سوى الكتاب والسنَّة. وكلُّ طريقٍ لم يصحبها دليلُ القرآن والسنَّة فهي مِن طرق الجحيم والشيطان الرجيم».
«مدارج السالكين» ابن القيِّم ¤.
¤إنَّ من أهمِّ ما ينبغي أن يعتني به المسلم ـ عمومًا ـ، وطالب العلم ـ خصوصًا ـ في أمور الإيمان والاعتقاد: تصحيح المصدر الَّذي يقيم عليه دينه واعتقاده، ذلك بأنَّه إذا سلم للإنسان مصدرُه؛ سلم له ـ تبعًا لذلك ـ إيمانُه ومعتقدُه. هنا .

¤¤¤¤¤
¤إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من النفر القليل الذين كانت حياتُهم كلُّها للهِ، والذين دعوا إلى الله على بصيرة، شاهدًا لله سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو، قائمًا بالقسط، فقد كتب وألف عشرات المجلدات بل مئات المجلدات في هذين المعنيين: إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وتحذير الأمة من الشرك الذي تفشى فيها بعد صدر الإسلام، ثم إثبات عدلِ اللهِ في تشريعاتِهِ وقضائهِ وقَدَرِهِ، ولقد تعرض شيخ الإسلام في سبيل ذلك إلى تفنيد مزاعم قوى الشرِّ كلِّها التي انتشرت وسادت المسلمينَ في عصرِهِ في القرن السابع الهجري وأوائل الثامن. فتصدى بالرد على الفلاسفةِ وأذنابِهم والرافضةِ وأكاذيبِهم، والباطنيةِ وخبثِهم ونفاقِهم، والصوفيةِ وعقائدِهم الفاسدةِ و تُرَّهَاتِهِم، وللمتكلمينَ وخلفائِهم وتأويلاتِهم الباطلةِ، وللمقلدينَ وعبادتِهم لشيوخِهم وتعصبِهم لآرائِهم المخالفةِ للكتابِ والسنةِ، وألف في كل ذلك وكتب ودرس وسافر وارتحل وناقش ولم يكتف بهذا أيضًا بل جرد سيفَهُ لقتالِ التتارِ فجمعَ الجموعَ لملاقاتِهم، ووحدَ صفوفَ المسلمينَ لحربِهم، وخاضَ المعاركَ ونصرَهُ اللهُ عليهم..
وهو في كل هذا عازفٌ عنِ الدنيا، لم يتزوج ولم يكتنز مالاً أو يبني دارًا ويتخذ عقارًا إلا ما أراده من دار الآخرة.
وعدم زواجه ليس زهدًا وتبتلًا ."
قال الشيخ الفوزان حفظه الله : شيخ الإسلام ،إنما ترك الزواج : لأنه مجاهد في سبيل الله ..وأيضا مُطارد ويُسجن ويُعذب ..وهو لم يتفرغ للزواج .الألوكة .
ومما يدل على ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية "الامتناع من فعل المباحات مطلقًا كالذي يمتنع من أكل اللحم ... ويمتنع من نكاح النساء ويظن أن هذا من الزهدِ فهذا جاهلٌ ضالٌ "الألوكة .
وعالِم هذا شأنُهُ لا شك أن يكثرَ أعداؤُهُ وحسادُهُ.. فقد عادى الدنيا كلَّها في اللهِ وخاصم كلَّ منحرفٍ في ذاتِ اللهِ، ولم يُداهن أميرًا ولا وزيرًا في الحق، بل صدعَ به حيثُ كانَ، ولذلك كثُرَتِ ابتلاءاتُهُ ومحنهُ فلا يخلصُ من محنةٍ إلا ودخلَ في أخرى، وكل ذلك وهو صابر محتسب، بل فرح مستبشر أن أكرمه الله بكل هذه الكرامات وهيأ له كل هذه الأسباب لينشر علمَهُ وتَعْظُم محبةُ أهلِ الخيرِ له، فكان قدوةً للعالمينَ من أهلِ الخيرِ في زمانِهِ، ونموذجًا للعلماء العاملين في وقته، بل كان من تلاميذِهِ جهابذة الأمة في كل فرع من فروع المعرفة الدينية فمن تلاميذِهِ ابن كثير إمام المؤرخينَ والمفسرينَ، والذهبي علَم المحققينَ والحافظ المِزي، إمام من أئمة النقل والرجال والحديث وابن عبد الهادي عَلَم التحقيقِ، وابن القيم إمام الأمة وفارسها، وروحاني الإسلام.. وخَلْق كثيرونَ.. ثم أصبحت كتبُهُ من بعدِهِ هي الهادي والمرشد لعقيدة أهل السنة والجماعة، بعد أن لبَّسَ المُلَبِّسونَ من أهلِ الكلامِ والزندقةِ على الناسِ
*
أعود فأقول عالم هذا شأنه وكثر حسادُهُ وأعداؤه في حياته وبعد مماته ينقبون كتبَهُ ويفتشون لعلهم يظفرون له بخطيئةٍ أو بزَلَّةٍ وليس هو بمعصوم فيضخمون ما ظنوه خطأ. فيجعلون خطأَهُ كفرًا، ورِدَّةً، ثم يفترون عليه ويكذبون، وكل ذلك يسعون جاهدينَ أن ينفروا الأمةَ عن طريقِهِ ويصرفوا العَالَمَ عن مطالعةِ كتبِهِ، ولكن هذا منهم كان ينقلب في كل مرة عليهم حيث يقف الناس على كذب شانئيه ومبغضيه .، هنا
*المعارضة الأولى لأفكارِه كانت سنة 698هـ عندما وجَّه إليه أهلُ حَماة يسألونه عن تحقيق العلماء في الصفات التي وصف الله بها نفسه، فدافع ابن تيمية عن عقيدة السلف واعتقاد أهل السنة هنا ..
جهاده كما ذكرنا بأن عائلة ابن تيمية اضطرت لمغادرة حُرَّان في الفترة التي بدأ فيها اقتراب المغول إلى حُران، ولجأوا إلى مدينة دمشق في بلاد الشام، ولكن مع بدء اقتراب الزحف المغولي إلى دمشق، قام ابن تيمية بتحريض الناس إلى ضرورة الوقوف أمام الزحف المغولي، وكان ذلك في فترة حكم المماليك، وتم انتدابه من قِبل الناس من أجل السفر إلى مصر من أجل لقاء السلطان محمد بن قلاوون، وذلك من أجل الحديث معه في أمر الجهاد، والتصدي إلى الزحف المغولي، وقام بالحديث معه عن أهمية الجهاد، وبدأ بنشر الفتاوى التي تخص الجهاد بين الناس في تلك المناطق .حدثت موقعة شقحب المشهورة، التي كان فيها أول انتصار للمسلمين على التتر، وكان المحرك والسبب الذي قيضه الله لهذا الانتصار هو شيخ الإسلام رحمه الله تعالى،فإنه قد اشترك بنفسه، ودعائه، وعلمه، وتعليمه للناس، فكان يمر عليهم، ويَعِدُهُم بالنصرِ، ويقرأ عليهم آيات الجهاد، وكانت الموقعة في رمضان، فجعل يأكل، ويفطر أمامهم، ويأمرهم بالفطر، ويتأول حديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم " -إنكم قد دنَوتُم من عدوِّكم والفطرُ أقْوى لكم."الراوي : أبو سعيد الخدري | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم: 1120 | خلاصة حكم المحدث : صحيح الدرر.وجعل يفطر أمامهم مُعَلِّمًا إياهم، ثم أنه جعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إن المسلمين لمنصورون، فكان بعض الناس يقولون له: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأول آيات القرآن،"ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّه "الحج60. فصار انتصار المسلمين على يديه، بفضل الله تعالى.

-عفوه: موقفه لما عَرضَ عليه السلطانُ قتلَ بعض القضاة الذين أفتوا بقتل ابن تيمية، لكلامه في الصفات ولرَدِّهِ على ابن العربي وأمثاله:
قال بعض أصحاب شيخ الإسلام:
"
وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر أن السلطان لما جلسا-يعني السلطان وشيخ الإسلام- بالشباك أخرج من جيبه فتاوى لبعض الحاضرين في قتله واستفتاه في قتل بعضهم
قال ففهمتُ مقصودَهُ وأن عندَهُ حنقًا شديدًا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملكَ المظفرَ ركنَ الدين بيبرس الجاشنكير
فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتكأما أنا فهم في حِلٍ من حقي ومن جهتي وسكَّنْتُ ما عنده عليهم
قال فكان القاضي زيد الدين ابن مخلوف قاضي المالكية يقول بعد ذلك ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نُبْقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قَدَرَ علينا عفا عنا"
العقود الدرية ص 298هنا .
وكان من جملة معارضيه ابن مخلوف.. وقد كتب إلى السلطان قائلا عن ابن تيمية :
"
يجب التضييق عليه إن لم يقتل , وإلا فقد ثبت كفره " العقود الدرية
و كان كلام شيخ الإسلام في ابن مخلوف " وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه ولا أعين عليه عدوه قط ولا حول ولا قوة إلا بالله
هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونًا للشيطانِ على إخواني المسلمين" مجموع الفتاوى - ج 3 / ص 271.هنا .
- موقفه لما قام عليه بعض مُقَلدة أهل البدع وضربوه وآذوه:
"
قال رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وكان بعض أصحاب الشيخ جالسًا عند شرف الدين قال فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقًا كثيرًا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا .
فقال لهم الشيخ لأي شيء قال لأجلك فقال لهم هذا ما يحق ، فقالوا نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم هذا ما يحل قالوا فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نقاتلهم على ما فعلوا والشيخ ينهاهم ويزجرهم فلما أكثروا في القول قال لهم إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حِلٍّ منه وإن كان لكم فإنْ لم تسمعُوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم ،وإن كان الحقُّ لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء قالوا فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه قالوا فتكون أنت على الباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولِهم،
فقال لهم ما الأمر كما تزعمونَ فإنهم قد يكونونَ مجتهدينَ مخطئينَ، ففعلوا ذلك باجتهادِهم ،والمجتهد المخطىء له أجر" العقود الدرية ص 302. هنا .
"إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجرانِ ، وإذا حكم فاجتهدَ ثم أخطأَ فله أجرٌ".الراوي : عمرو بن العاص |المحدث : البخاري |المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 7352 |خلاصة حكم المحدث : [صحيح]- الدرر.

الله أكبر!! هكذا علماء الآخرة لا ينتصرون لأنفسهم!
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 05-12-2017, 05:34 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس الخامس والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤موت الفجأة يزهدنا في الدنيا ويرغبنا في الآخرة
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه

¤نسيان الموت سبب للهو والغفلة والانغماس في الدنيا كما أن تذكر الموت سبب للزهد في الدنيا والإقبال على العمل الصالح؛ولذا حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تذاكر الموت وعدم نسيانه لئلا نغفل فقال صلى الله عليه وسلم :
- "
أَكثروا ذِكرَ هاذمِ اللَّذَّات" يعني الموتَ
الراوي : أبو هريرة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي. الصفحة أو الرقم: 2307 | خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.الدرر .
الشرح :تَذكُّرُ الموتِ والآخرةِ مِن البواعثِ الحقيقيَّةِ على تَحسينِ الصِّلةِ بين العبدِ وربِّه، وإزالةِ شواغلِ الدُّنيا مِن الفِكرِ والعقلِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أكثِروا ذِكْرَ هاذِمِ"، أي: قاطِعِ "اللَّذَّاتِ"، أي: الشَّهواتِ العاجلةِ، "يَعني الموتَ"، أي: إنَّ الموتَ هو سَببٌ يمنَعُ المتوغِّلَ في الشَّهواتِ والمعاصي الاستمرارَ في ذلك، وذِكرُه والوقوفُ على حقيقتِه يُعدِّلُ مسارَ هذا العاصي إلى الزِّيادةِ في أفعالِ الجنَّة، والابتعادِ عن كلِّ ما يُقرِّبُ مِن النَّارِ، كما يُنبِّهُ على عدمِ تركِ النَّفسِ لمشاغِلِ الدُّنيا. .الدرر .
وأكثر ما يخافه المؤمن في الموت أن يباغته وهو لم يتهيأ له، هنا.
لقد كتب الله الموت على كل واحد منا، وهو ملاقيه لا محالة؛ فـ"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"آل عمران:185.كل واحد منا ذائقٌ للموتِ في الوقت الذي قضاه الله وقدره، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولن يتجاوز أحد ما قدره سبحانه ، وأجرى به القلم، فهي مكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، فعن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ: وَمَاذَا أَكْتُبُ؟! قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".
الراوي : عبادة بن الصامت |المحدث : الألباني |المصدر : صحيح أبي داود
الصفحة أو الرقم: 4700 |خلاصة حكم المحدث : صحيح.الدرر .

ويكتبُ الملك الكريم -عليه السلام- "رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؛ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ". رواه البخاري وغيره- إنَّ خَلْقَ أحدِكم يُجمعُ في بطنِ أُمِّهِ أربعين يومًا أو أربعين ليلةً ، ثم يكونُ علقةً مثلَه ، ثم يكونُ مضغةً مثلَه ، ثم يُبعثُ إليه المَلَكُ ، فيُؤذنُ بأربعِ كلماتٍ ، فيكتبُ : رزقَه ، وأجَلَه ، وعملَه ، وشقيٌّ أم سعيدٌ ، ثم يُنفخُ فيه الروحُ ، فإنَّ أحدَكم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ حتى لا يكونُ بينها وبينَه إلا ذراعٌ ، فيسبقُ عليه الكتابُ ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ فيدخلُ النارَ . وإنَّ أحدَكم ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ ، حتى ما يكونُ بينها وبينَه إلا ذراعٌ ، فيسبقُ عليه الكتابُ ، فيعملُ عملَ أهلِ الجنةِ فيدخُلها"

الراوي : عبدالله بن مسعود | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 7454 | خلاصة حكم المحدث : صحيح. الدرر .
يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم خَلْقَ الإنسانِ؛ بأنَّ الجنينَ في بَطْنِ أمِّه يَمرُّ في تكوينِه بأربعةِ أدوارٍ، فيَكونُ في الدَّورِ الأوَّلِ لِمُدَّة أربَعين يومًا نُطْفَة، أيْ: حَيوانًا مَنويًّا يَجتمِع ببُوَيْضةِ الأُنثى فيُلقِّحها، وتَحمَل الْمَرأةُ بإِذنِ الله تعالى، ثمَّ يتَحوَّل في الدَّورِ الثاني لمدَّة أربعين يومًا إلى عَلَقة، أي: نُقطةٍ دموِيَّة جامِدة تَعْلَق بالرَّحِم، ثمَّ يتحوَّلُ في الدَّور الثَّالث لمدَّة أربَعين يومًا مُضْغَةً، أي: قطعةَ لَحْمٍ صَغيرة بِقَدْر ما يَمْضَغ الإنسانُ في الفَمِ، ثمَّ في الدَّور الرَّابع يَبدَأ تَشْكِيلُه وتَصْوِيره، ويكونُ قد أكملَ أربعةَ أشهُر، فيُرسِلُ اللهُ إليه الْمَلَك الموكَّلَ بالأرحامِ وكِتابةِ الأَقْدَارِ؛ فيَكتُب أعمالَه التي يَفعَلها طِيلَةَ حياتِه خيرًا أو شرًّا، ورِزْقَه وأجَلَه ويَكتُب خاتِمَته ومَصيرَه الذي يَنتهي إليه إن كان مِن أهلِ الشَّقاوةِ أو مِن أهل السَّعادة، مِن أهل الجنَّةِ أو النَّار؛"فإنَّ الرَّجلَ ليَعمَل بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بينَه وبينَ الجنَّةِ إلَّا ذِرَاع"؛ وهو غَايةُ القُرْب، "فيَسْبِق عليه كِتَابُه"، أي: فيَكون قد كُتِب عليه سابقًا في بَطْنِ أمِّه أنَّه شَقِي، فيُختَم له بالشَّقاوة؛ ((فيَعْمَل بعمَلِ أهلِ النَّار فيَدخُلها)) كما سبَق به القَدَرُ، ((ويَعمَل حتَّى ما يَكونُ بينَه وبينَ النَّارِ إلَّا ذِرَاع، فيَسبِق عليه كتابُه فيَعمَل بعمَلِ أهلِ الجنَّة فيَدخُلها)).
في الحديث: كِتابة أَقْدار كلِّ إنسان وهو ما زال جَنينًا في بَطْن أمِّه بعدَ استِكمالِ تَشْكِيلِه وتَصوِيره، وتَكامُلِ أَعْضائه وحَواسِّه.
وفيه: الإيمانُ بالقدَرِ، سواءٌ تعلَّقَ بالأعمالِ أو بالأرزاقِ والآجَال.
وفيه: نَفْخُ الرُّوح في الجَنِين بعدَ استِكْمال تكوينِه.
وفيه: عدمُ الاغتِرار بصُوَر الأعمال؛ لأنَّ الأعمالَ بالخَوَاتيم.
وفيه: أنَّ الأعمال مِن الحسَنات والسيِّئات أَمَارَاتٌ لا مُوجِبات، وأنَّ مصيرَ الأَمْر في العاقبة إلى ما سَبَق به القَضاءُ وجرَى به التَّقديرُ.. الدرر .

*والجواب عن ذلك أن هذا في حق من لا يعمل إخلاصًا وإيمانا ، بل يعمل بعمل أهل الجنة
"
فيما يبدو للناس" فقط ، كما جاء موضحا في الحديث الآخر الذي رواه البخاري (4207) ومسلم (112) عَنْ سَهْلٍ قَالَ" الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". الدرر .
وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة ، إخلاصًا وإيمانًا ، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره .
بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت ، كما قال تعالى " يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" إبراهيم/27 ، وقال " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " العنكبوت/69 ، وقال " إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " يوسيف/90 ، وقال "يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ" آل عمران/171
قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163 : " وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس ، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه . وقوله " لم يبق بينه وبينها إلا ذراع " يشكل على هذا التأويل ، فيقال : لما كان العمل بآخره وخاتمته ، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له ، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره ، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة ، فرجع إلى موجبها ، وعملت عملها ، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه ... والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض" انتهى .
وقال ابن رجب رحمه الله :
"
وقوله "فيما يبدو للناس" إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك ، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس ؛ إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت .
وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار ، وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير ، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره ، فتوجب له حسن الخاتمة .
قال عبد العزيز بن أبي رواد:حضرت رجلا عند الموت يلقن الشهادة : لا إله إلا الله ، فقال في آخر ما قال : هو كافر بما تقول ، ومات على ذلك !!
قال : فسألت عنه ، فإذا هو مدمن خمر !!
وكان عبد العزيز يقول اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته .
وفي الجملة: فالخواتيم ميراث السوابق ؛ وكل ذلك سبق في الكتاب السابق ، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم ، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق .
وقد قيل : إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم ، يقولون : بماذا يختم لنا ؟!!
وقلوب المقربين معلقة بالسوابق ، يقولون : ماذا سبق لنا ؟!! ...
وقال سهل التستري : المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي ، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر !!
ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ، ويشتد قلقهم وجزعهم منه ؛ فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر ؛ كما تقدم أن دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة " انتهى .
جامع العلوم والحكم (1/57-58.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " إن حديث ابن مسعود "حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع" أي: بين الجنة ، ليس المراد أن عمله أوصله إلى هذا المكان حتى لم يبق إلا ذراع ، لأنه لو كان عمله عمل أهل الجنة حقيقة من أول الأمر ما خذله الله عز وجل ؛ لأن الله أكرم من عبده، عبد مقبل على الله ، ما بقي عليه والجنة إلا ذراع ، يصده الله؟! هذا مستحيل ، لكن المعنى: يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، حتى إذا لم يبق على أجله إلا القليل زاغ قلبه والعياذ بالله -نسأل الله العافية- هذا معنى حديث ابن مسعود . إذًا: لم يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع بالنسبة لأجله ، وإلا فهو من الأصل ما عمل عمل أهل الجنة -نعوذ بالله من ذلك ، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا- عامل وفي قلبه سريرة خبيثة أودت به إلى أنه لم يبق إلا ذراع ويموت "انتهى من "اللقاء الشهري" (13/14.
وأشار بعض أهل العلم إلى أن المذكور في الحديث قد يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة ، حتى إذا اقترب أجله ساءت خاتمته ، فمات على كفر أو معصية ، لكن هذا نادر ، وهو راجع أيضًا إلى خبيئة وبلية يقيم عليها هذا الشخص ، من اعتقاد فاسد أو كبيرة موبقة ، أوجبت سوء خاتمته ، نسأل الله العافية .فيكون الحديث فيه تحذير من الاغترار بالأعمال ، وتوجيه إلى سؤال الله الثبات حتى الممات، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" : " الْمُرَاد بِالذِّرَاعِ التَّمْثِيل لِلْقُرْبِ مِنْ مَوْته وَدُخُوله عَقِبه , وَأَنَّ تِلْكَ الدَّار مَا بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن أَنْ يَصِلهَا إِلَّا كَمَنْ بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن مَوْضِع مِنْ الْأَرْض ذِرَاع , وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع فِي نَادِر مِنْ النَّاس , لَا أَنَّهُ غَالِب فِيهِمْ , ثُمَّ أَنَّهُ مِنْ لُطْف اللَّه تَعَالَى وَسَعَة رَحْمَته اِنْقِلَاب النَّاس مِنْ الشَّرّ إِلَى الْخَيْر فِي كَثْرَة , وَأَمَّا اِنْقِلَابهمْ مِنْ الْخَيْر إِلَى الشَّرّ فَفِي غَايَة النُّدُور , وَنِهَايَة الْقِلَّة , وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى" إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وفي رواية غَلَبَتْغَضَبِي" مرقاة المفاتيح . وَيَدْخُل فِي هَذَا مَنْ اِنْقَلَبَ إِلَى عَمَل النَّار بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَة , لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّخْلِيد وَعَدَمه ; فَالْكَافِر يُخَلَّد فِي النَّار , وَالْعَاصِي الَّذِي مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُخَلَّد فِيهَا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره . وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِإِثْبَاتِ الْقَدَر , وَأَنَّ التَّوْبَة تَهْدِم الذُّنُوب قَبْلهَا , وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْء حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ , إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب الْمَعَاصِي غَيْر الْكُفْر فِي الْمَشِيئَة . وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ فِيهِ فَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا : الْقَدَرُ السَّابِقُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ; بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ ; بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ...
والفصل الثاني :أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَدْ جَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا تَكُونُ بِهَا ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فَيُحْبِلَهَا ؛ فَلَوْ قَالَ هَذَا : إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُولَدُ لِي فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ كَانَ أَحْمَقَ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْوَطْءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يُنْبِتُ لَهُ الزَّرْعَ بِمَا يَسْقِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَيَبْذُرُهُ مِنْ الْحَبِّ ؛ فَلَوْ قَالَ : إذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَذْرِ كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِذَلِكَ ...
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ ، قُلْنَا : ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَشْقِيَاءِ ؛ فَاَللَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْقَى بِهَذَا الْعَمَلِ ، فَلَوْ قِيلَ : هُوَ شَقِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ بَاطِلًا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" ؛ فَأَقْسَمَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنْ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ ، وَمَنْ اتَّبَعَ إبْلِيسَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى ، وَلَا يُعَاقِبُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ حَتَّى يَعْمَلَهُ ...
وَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَمَنْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ يَسَّرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَمَنْ قَالَ : أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَوَاءٌ كُنْت مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا ، إذَا عَلِمَ أَنِّي مِنْ أَهْلِهَا كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا بِالْإِيمَانِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، بَلْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ، بَلْ كَافِرًا ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
وَلِهَذَا أَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَمَنْ قَالَ : أَنَا لَا أَدْعُو وَلَا أَسْأَلُ اتِّكَالًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مُخْطِئًا أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَهُدَاهُ وَنَصْرَهُ وَرِزْقَهُ . وَإِذَا قَدَّرَ لِلْعَبْدِ خَيْرًا يَنَالُهُ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ الدُّعَاءِ ، وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَعَوَاقِبِهِمْ فَإِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ ؛ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَبِ ، وَاَللَّهُ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ...
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَلَّ طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ : " فَرِيقٌ " آمَنُوا بِالْقَدَرِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، فَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكْفُرُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ !!
وَفَرِيقٌ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ الْجَزَاءَ مِنْ اللَّهِ كَمَا يَطْلُبُهُ الْأَجِيرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مُتَّكِلِينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ ، وَكَمَا يَطْلُبُهُ الْمَمَالِيكُ ، وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً إلَيْهِ ، وَلَا نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا بِهِ ؛ وَلَكِنْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ : " يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي" ...
فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ ، وَمَنْ طَلَبَ الْقِيَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعْرِضًا عَنْ الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ ; بَلْ الْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى " إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" ؛ فَنَعْبُدُهُ اتِّبَاعًا لِلْأَمْرِ وَنَسْتَعِينُهُ إيمَانًا بِالْقَدَرِ ..." انتهى .
مقتطفات من مجموع الفتاوى (8/66) وما بعدها . .هنا.


رد مع اقتباس
  #26  
قديم 05-12-2017, 05:38 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس السادس والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤تابع موت الفجأة يزهدنا في الدنيا ويرغبنا في الآخرة


إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ. وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه
¤وأكثر ما ينبغي للمؤمن أن يخافه في الموت أن يباغته وهو لم يتهيأ له، وهو ما يسمى بموت الفجأة؛ ذلك أن من عادة الإنسان التسويف في التوبة والعمل الصالح، وطول الأمل والرغبة في الدنيا، وإلا فإن المقدم على الموت لمرض عُضال أصابه أو نحوه تتغير حياة أكثرهم في آخر أيامه، فترخُصُ عنده الدنيا وتَعْظُمُ الآخرة، فيكونُ ما ألَمَّ به من علامات الموت ومقدماته خيراً له؛ فيجدد التوبة ويخرج من المظالم ويكفرُ الله مِنْ خَطَايَاهُ بما أصابه من مصيبة المرض، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍتعب-وَلاَ وَصَبٍ مرض-، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ". رواه البخاري.
أيها الأحبة: في الحديث: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مِنْ اقْتِرَاب السَّاعَة أَنْ يُرَى الْهِلاَل لِلَيْلَة فَيُقَالُ: لِلَيلَتَينِ، وَأَنْ يَظْهَر مَوتُ الْفَجْأة، وَأَنْ تُتَّخَذ الْمَسَاجِد طُرُقاً". رواه الطبراني عَنْ أَنَس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني.
وموت الفجأة موجود من قديم الزمان، ولكن كثر ظهوره وانتشاره في هذه الأزمان، والمتابع للأخبار اليوم يجد عجبًا من كثرته سواء على المستوى الفردي أم الجماعي.
خلاصة أقوال أهل العلم في موت الفجأة: أنه تخفيف عن العبد المؤمن ومحبوب للمراقبين المستعدين للموت، وقد مات به جماعة من الأنبياء؛ فقد قيل:......، وكذلك بعض الصالحين.
أما من ليس مستعدًا للموت بكونه مثقل الظهر بالمظالم فليس بمحبوب، وبذلك يجتمع القولان.
ومفاجأة الموت ربما تفوّت على الإنسان أشياءً كثيرة؛ فقد يكون في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، وقد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر الآخرة أو الموت، فيفوّت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله.
ومع كثرة موت الفجأة إلا أن جملة منا في غفلة، وكأن الأمر لا يعنيه ولن يأتيه أو يقرب من داره.
عجبًا لنا!! كيف نجرؤ على أن نعصي الله وأرواحنا بيده!! وكيف نغفُل عن رقابته والموت بأمره يأتي فجأة، أما سأل أحدنا نفسه: لماذا لا يستطيع أحد أن يعلم متى سيموت؟! إنها حكمة بالغة، ليبقى المؤمن طوال حياته مترقبًا وَدَاعَ الدنيا، مستعدًا للقاء ربه، فهل لنا أن نتنبه لذلك؟!
يا لها من غفلة أن نسير في هذه الدنيا ولسان فِعَلنا كأن أحدنا سيُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُنجيه مِنَ الْموتِ أَنْ يُعَمَّرَ! ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعادًا مؤجلاً! كم قريبًا دَفَنَّا، وكم حبيبًا ودَّعنا، نفضنا أيدينا من غبار قبره، وعدنا من دُوْرِ اللحود، وعادت معنا الدنيا لنغرق في همومها وملذاتها، وكأن الأمر لا يعنينا، بل نجد منا من لا يفتر عن حديث الدنيا وهو قائم على تلك الأجداث، وكأن معه صكًّا إِلهَيًّا بالخلود في الدنيا.
أين العيون الباكية من خشية الله؟! أين القلوب الوجلة من لقاء الله؟! لم لا نعود أنفسنا على توديع هذه الدنيا كل يوم، فنحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبها الله؟! ونؤدي للعباد كل ما علينا قبل أن يؤديه الله من أعمالنا الصالحة؟! لمَ لا نعزم على مضاعفة الأعمال الصالحة من صلاة واستغفار وذكر وبر وصلة؟! لم لا نفكر بجدية مقرونة بعمل أن نقلع من معاصينا، ونتوب من تقصيرنا في حق الله تعالى؟! لم لا نجعل ساعة الموت هذه واعظًا لنا في هذه الدنيا الفانية من الغفلة عن الله تعالى؟! .
"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ".
قال ابن الجوزيّ "الواجب على العاقل أخذ العدّة لرحيله؛ فإنّه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربّه، ولا يدري متى يستدعى، وإنّي رأيت خلقًا كثيرًا غرّهم الشّباب ونسوا فقدان الأقران، وألهاهم طول الأمل"
قال بعضهم: أعجب حالات الإنسان أنه يحسب لكل شيء حسابًا ويستعدُ له، يخشى الفقر فيدخر له المال، ويخشى البردَ فيستعدُ له، والحر كذلك.
ويخشى الشيخوخةَ والكبر فيسعى في تحصيل الأولاد، لعلهم يخدمونه عند العجز، ويخلفونه في شؤونه الدنيوية والأخروية... وهكذا.
لكنه لا يدخل الموت الذي ربما فاجأه في حسابه فلا يستعد له مع أنه يشاهد الموتى يذهبون ولا يعودون.
وهو مهدد بالموت في كل ساعة، خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه أسباب موت الفجأة. نسأل الله أن يوقظ قلوبنا للاستعداد له.
موت الفجأة، ويكون عامًا وخاصًا:
أما العام فيشمل أهل بلاد بوقوع وباء مهلك يحصد الأرواح، ويملأ المقابر، ويتساقط الناس فيه سراعًا، حتى تفنى أُسر وعشائر بأكملها، وتغلق دور وتخلو مدن من ساكنيها، وحفار القبور لا يرفع ظهره من كثرة من يدفنون فما يلبث أن يدفن هو فيما حفر من قبور، وكم من مغسل للموتى غسل على ذات السرير الذي يغسل الناس عليه، وقد وقع ذلك كثيرًا في التاريخ في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب.
وفي وقت الصحابة رضي الله عنهم هلك كثير منهم ومن التابعين في طاعون عَمَوَاس الذي ضرب بلاد الشام في خلافة عمر رضي الله عنه فمات فيه خلق كثير، ومن مشاهير من مات فيه من الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وزوجتاه وأولاده كلهم وأبو جندل رضي الله عنهم.
وكانت هذه الأوبئة العامة تنتقل من بلاد إلى بلاد، وتعاود الظهور زمانًا بعد زمان، وتشمل أحيانا الإنسان والحيوان كما وقع في أخريات القرن الخامس إذ كثرت الأمراض بالحمى والطاعون في العراق والحجاز والشام وأعقب ذلك موت الفجأة ثم ماتت الوحوش في البراري ثم تلاها موت البهائم حتى عزت الألبان واللحوم، فيما ذكره المؤرخون.
ولما منَّ الله تعالى على البشرية باكتشاف أمصال وتلقيحات ضد الأمراض المعدية، والأوبئة الفتاكة كانت الأعاصير والزلازل والفيضانات ميادين رحبة لموت الفجأة..تضرب بلادا في لحظة فتهلك أهلها وتتركها خرابا يبابا، ولا قدرة للبشر على مواجهتها أو دفعها أو تخفيفها.
وعقب اختراع الطائرات والسفن العملاقة أضحت مجالا جديدا من مجالات موت الفجأة بسقوط الطائرات وغرق السفن، فتهلك فيها أنفس كثيرة ما كانت تظن أن ركوبها فيها هو آخر العهد بالحياة.
وأما الموت المفاجئ الخاص فيقع لفرد أو أسرة على إثر هدم أو حريق أو غرق أو نحوه، ثم كانت حوادث السيارات في العصر الحاضر من أوسع المجالات الفردية لموت الفجأة، يخرج الرجل أو الأسرة من منزلهم بسيارتهم فيؤتى بهم إلى ثلاجة الموتى.
وقد يموت العبد بشيء لا يظن أنه يموت به أبدا، وفي حجة الوداع وقع رجل في عرفة من راحلته فوقصته فمات، وكم من سقوط لا يميت في العادة هلك به صاحبه، وكم من ضربة لا تؤلم مات المضروب بها، وليست إلا مقادير قُدِّرت على بني آدم، كانت هذه أسبابها، كبرت الأسباب أم صغرت.
وموت الفجأة لا يُذم ولا يمدح، فقد يكون رحمة للمؤمن الطائع كما يكون عقوبة على الكافر والفاجر، فمن كان مستعدًا للموت كل حين بالإيمان والعمل الصالح فإن موت الفجأة رحمة في حقه، وتخفيف عليه. ومن كان متثاقلا عن الطاعات، مسارعا إلى المحرمات فإن موت الفجأة نقمة عليه وعذاب في حقه؛ لأن الميت يبعث يوم القيامة على ما مات عليه؛ ولأنه لا يتمكن من التوبة، ومن أداء ما عليه من الحقوق؛ ولذا كان موت الفجأة كأخذة الغضب، وجاء في حديث عند أبي داود عن عُبَيْدِ بن خَالِدٍ السُّلَمِيِّ :(مَوْتُ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسِفٍ) أي غضبان وصححه الألباني. قال النخعي رحمه الله تعالى: إنْ كانوا ليكرهون أخذةً كأخذةِ الأَسِف.
أسأل الله تعالى أن يحسن خواتمنا، وأن يرزقنا الاعتبار بغيرنا، والاستعداد لما أمامنا، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، "رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" {البقرة:201} بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
هنا
قد يكون ملك الموت بانتظارنا ولم يبق من أعمارنا إلا دقائق معدودة، فما نحن فاعلون؟! وهل نحن مستعدون؟! هذه ـ والله ـ هي الحقيقة لا محيد لنا ولا مهرب ولا ملجأ. إن موت الفجأة هو جرس إنذار لنا لنستيقظ من غفلتنا، ولننتبه من رقادنا في وقت انشغل الناس بالدنيا ونسوا الآخرة، ونسوا أنهم قادمون على الله شاؤوا أم أبوا.
هنا


وأقبل شهر شعبان

حال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شعبان ؟
ـ عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ قال : قلتُ يا رسول الله ! لَمْ أَرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
" ذاك شـهر تغفـل النـاس فيـه عنـه ، بيـن رجـب ورمضـان ، وهـو شـهر ترفـع فيـه الأعمـال إلـى رب العالميـن ، وأحـب أن يُرفـع عملـي وأنـا صائـم"
رواه النسائي . وحسنه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1 / ( 9 ) ـ كتاب : الصوم / ( 8 ) ـ باب ـ : الترغيب في صوم شعبان / حديث رقم : 1022 / ص : 595 .
وقـد بيِّـنَ صلـى الله عليـه وسـلم فـي هـذا الحديـث ؛ الحكمـة مـن إكثـار الصـوم في هذا الشهر ، وهـي :
أ ـ غفلة الناس عن هذا الشهر .
ب ـ رفع الأعمال فيه إلى الله .
ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
" كـان رسـولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يصومُ حتـى نقولَ لا يفطرُ ، ويفطر حتى نقولَ لا يصوم ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ استكمل صيامَ شهرٍ قطّ إلا شهرَ رمضانَ ، وما رأيتُهُ في شهرٍ أكثرَ صيامًا منه في شعبان ".


صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1 / 9 ـ كتاب : الصوم8 / ـ باب ـ : الترغيب في صوم شعبان / حديث رقم : 1024

قالـت ـ أي : عائشـة ـ " مـا رأيـتُ النبـيَّ فـي شـهر أكثـر صيامـًا منـه فـي شـعبان،كـان يصومـه إلا قليـلاً ، بـل كـان يصومُـه كُلَّـه(1)"
صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1 / ( 9 ) ـ كتاب :الصوم /( 8 ) ـ باب ـ : الترغيب في صوم شعبان /حديث رقم : 1024
( 1 )كُلّه: أي أكثره .حاشية صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1

ـ عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
"ما رأيتُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان"
رواه الترمذي . وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1 / ( 9 ) ـ كتاب : الصوم / ( 8 ) ـ باب ـ الترغيب في صوم شعبان / حديث رقم : 1025


هذا هو حال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهديه في شعبان ، كان يحب أن يرفع عملُه وهو صائم ،
الله الله على الصوم
فالصوم له تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة .فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات ووساوس الشياطين.


*فالصوم من أكبرِ العونِ على التقوى.
قال تعالى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" سورة البقرة / آية : 183

*الصيام من مظاهر حسن الخاتمة ، وسبب لدخول الجنة


ـ فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : أسندتُّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صدري فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم " من قال ( لا إله إلا الله ) ؛ خُتمَ له بها ؛ دخل الجنة ، ومن صـام يومًا ابتغاء وجه الله ؛ خُتم له به ؛ دخل الجنة ، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ؛ خُتم له بها ؛ دخل الجنة"
رواه أحمد . وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1 / ( 9 ) ـ كتاب : الصوم / ( 8 ) ـ باب ـ : الترغيب في صوم شعبان / حديث رقم : 985 / ص : 579 .
ألا مـن مُشَـمِّر للجنـة
هيا نعيش شهر شعبان كما كان يعيشه الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ونطهر أنفسنا من دنس الذنوب والمعاصي تمهيدًا لاستقبال شهر رمضان والفوز به ، عسى أن تكون حسن خاتمة .
قـال صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم :
" إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله " قيل : كيف يستعمله ؟ .قال صـى الله عليه وعلى آله وسلم"يوفقه لعملٍ صالحٍ قبل الموتِ ثم يقبضه عليه "
رواه أحمد والترمذي عن أنس . وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الجامع الصغير وزيادته / الهجائي / ج : 1 / حديث رقم : 305 / ص : 117 .




اللهم استعملنا ولا تستبدلنا واختم لنا بالصالحات

مـا ورد فـي ليلــة النصــف مـن شـعبان

ـ عـن معـاذ بـن جبـل ـ رضي الله عنه ـ عـن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قـال :

" يطَّلـع اللهُ إلـى جميـع خلقِـهِ ليلَـةَ النصـفِ مـن شـعبانَ ، فيغفـرُ لجميـعِ خلقـه إلا لمشـركٍ أو مُشـاحن " .

رواه الطبراني ، وابن حبان . وقال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في صحيح الترغيب والترهيب / ج : 1 / ( 9 ) ـ كتاب : الصوم / ( 8 ) ـ باب ـ : الترغيب في صوم شعبان / حديث رقم : 1026 / ص : 597 ، حسن صحيح .



وليـس معنـى هـذا أن نخـص هـذه الليلـة بعبـادة معينـة ( صيـام ، قيـام ، ..... ) ، ولكـن نفعـل كمـا فعـل رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وهـو صيـام أغلـب شـهر شـعبان بمـا فيـه هـذه الليلـة دون تخصيـص .



تحويــــل القِبلـــة

* فعـن البـراء بـن عـازبٍ أن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كـان أولَ مـا قَـدِمَ المدينـةَ نـزل علـى أجـداده أو قـال : أخوالـهِ مـن الأنصـار ، وأنـه صلـى قِبـلَ بيـت المقـدسِ سـتة عَشَـرَ شـهرًا ، أو سـبعة عشـرَ شـهرًا ، وكـان يعجبـه أن تكـون قبلتـه قِبـلَ البيـتِ ، وأنـه صلـى أول صـلاةٍ صلاهـا صـلاة العصـر ، وصلـى معـه قـوم ، فخـرج رجـل ممـن صلـى معـه فمـر علـى أهـل مسـجد وهـم راكعـون فقـال : أشـهد بالله لقـد صليـتُ مـع رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قِبَـلَ مكـةَ ، فـداروا كمـا هـم قِبَـلَ البيـتِ وكانـت اليهـودُ قـد أعجبهـم إذ كـان يصلـي قِبَـلَ بيـتِ المقـدسِ وأهـلُ الكتـابِ 0 فلمـا ولـى وجهـه قِبَـلَ البيـتِ أنكـروا ذلـك .

صحيح البخاري . متون / ( 2 ) ـ كتاب : الإيمان / ( 30 ) ـ باب : الصلاة من الإيمان ... / حديث رقم : 40 / ص : 15 .

تعقيـــب :

********

1 ـ نقـل الإمـام القرطبـي عـن أبـي حاتـم البسـتي قـال :

صلـى المسـلمون إلـى بيــت المقـدس سـبعة عشـر شـهرًا وثلاثــة أيـام ، وذلـك أن قـدومـه صلـى الله عليـه وعلـى آله وسـلم المدينـة كـان يـوم الإثنيـن لاثنتـي عشـرة ليلـة ، خلـت مـن شـهر ربيـع الأول ، وأمـره الله عــز وجــل باسـتقبال الكعبـة يـوم الثلاثـاء للنصـف الأول مـن

شـعبان .



2ـ ويحكـي ابـن كثيـر فـي البدايـة والنهايـة ، وكذلـك فـي تفسـيره أن ذلـك كـان فـي رجـب سـنة اثنتيـن علـى رأس سـتة عشـر شـهرًا .

علـى أن الخـلاف فـي وقـت التحويـل لا يهمنـا بقـدر مـا يهمنـا مـا يفعلـه النـاس فـي المواسـم بمـا طغـى علـى ما وقـع فيهـا مـن أحـداث هامـة مـن أمـر الإسـلام .

مجلة التوحيد العدد الخاص بشـعبان : 1414 هـ ، 1415 هـ .



رد مع اقتباس
  #27  
قديم 05-12-2017, 05:40 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجـلـس السابع والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة


¤اليقين¤
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
حديثنا اليوم عن خصلة من خصال المؤمنين، وخلة لعباد الله المحسنين، خلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي اليقين بالله، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يذكرك بالله، فيقول لك بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله.
قال تعالى:

"وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ" الذاريات 20 .
"
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ "آل عمران190.
"
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ "الأنعام75.
¤
اليقين¤
*
"عليكم بالصِّدْقِ ؛ فإنَّهُ مع البِرِّ ، وهُما في الجنةِ ، وإيَّاكمْ والكذِبَ ، فإنَّهُ مع الفُجورِ ، وهُما في النارِ ، وسَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ ؛ فإنَّهُ لمْ يُؤْتَ أحدٌ بعدَ اليقينِ خيْرًا من المُعافاةِ ، ولا تَحاسَدُوا ، ولا تَباغَضُوا ، ولا تَقاطَعُوا ، ولا تَدابَرُوا ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا ، كَمَا أمرَكُمُ اللهُ"
الراوي : أبو بكر الصديق| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الجامع
الصفحة أو الرقم: 4072 | خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر
.

*"
صلاحُ أوَّلِ هذهِ الأُمَّةِ بالزُّهدِ واليَقينِ ، وهلاكُ آخِرِها بالبُخلِ والأمَلِ"
الراوي : عبدالله بن عمرو| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 3215 | خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره .الدرر .
*
اليقين الذي يقول عنه العالمُ الرباني طبيب القلوب ابن القيم رحمه الله :
اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد ، وفيه تفاضل العارفون ، وفيه تنافس المتنافسون ، وإليه شمَّر العاملون.ا.هـ .
فاليقين سببٌ رئيسٌ في (تهوين ) المصائب و(تخفيف) البلايا

"....ومن اليقينِ ما تُهَوِّنُبه علينا مُصِيباتِ الدنيا".
الراوي : عبدالله بن عمر|المحدث : الألباني|المصدر : صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم: 3502 |خلاصة حكم المحدث : حسن.
*اليقين من مثبتات السعادة في الروح ،ومقويات الطمأنينة في القلب
ودعني أضربُ لك مثالاً يوضح لك المعنى:
لو أنّ رجلاً فقيرًا معدمًا كثيرَ العيال هدّتْ كاهله الديون، وسال لبؤسه ماءُ العيون،ثم أخبروه أن (عمه المغترب) في بلادٍ أوربية قد ماتَ وخلّف ثروةً طائلةً تقدر بـ(100) مليون دولار وليس له وريثٌ إلا هو!!
لكنّ إجراءات حصر الإرث والورثة ونقل الثروة ستتأخر قليلاً ولن يستلم الثروة إلا بعد سنة كاملة.
أخبرني الآن:كيف سيعيشُ هذه السنة ؟ ويحيا أيامَ هذا العام؟
لا شك أنه سيكونُ مسرورًا جدًا، مطمئنًا جدًا، فرحًا جدًّا رغم أنه مازال بعدُ فقيرًا معدمًا لكنّ (يقينه) بأنه بعد سنة سيصبحُ غنيًّا جعل قلبه مستقرًا بالسعادة ومشعـًّا بالطمأنينة
وكذلك "يقين"المؤمن بما أعدّه الله له في الجنة سيجعله سعيدًا مطمئنًا مهما كان فقره وبلاؤه.
سر عظيم سيغير حياتك . عبد الله بن أحمد الحويل

قال ابن القيم -رحمه الله :
الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين:قد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك : أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه ، ثم أراك إياه فازددت يقينًا ،ثم ذقت منه ، فالأول : علم اليقين ،
والثاني : عين اليقين ،
والثالث : حق اليقين .
فعلمنا الآن بالجنة والنار : علم يقين .
فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك:عين اليقين
فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين "مدارج السالكين 2/129."
والواجب في الإيمان هو علم اليقين،وقد يزداد إيمان المسلم حتى كأنه يرى الله ويرى الجنة والنار كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل الصحيح "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" البخاري (50) ومسلم (8)، والإحسان درجة كمال الإخلاص ودوام المراقبة، وإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء طلب من ربه أن يوصله درجة عين اليقين وهي الرؤية، لا شكًا حاشاه عليه السلام- وإنما ليزداد إيمانه طمأنينة وكمالاً "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي....." البقرة: 260 والله أعلم.هنا .
د. محمد بن عبدالله الخضيري
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم

¤علامات أهل اليقين ¤
كيف تعرف أن عندك يقينًا ، وأنك متحل بهذه الصفة العظيمة ؟
لأهل اليقين علامات يُعرفونَ بها ،وتنعكس على حياتهم اليومية، ، ومن تلك العلامات على سبيل الإجمال ما يلي :1-أيقن بالله حقًا فآمن به: واستشعر مراقبة الله له
"
....فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ..... " .

الراوي : أبو هريرة |المحدث : البخاري |المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 4777 |خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر.
فإذا استشعر ذلك لم يعصه


2
-أيقن بأن الموت حق فحذره"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ "العنكبوت57.
وأهل اليقين هم أولى بالاتعاظ به.
3
أيقنبأن البعث حق فخاف :"وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"البقرة 2814أيقن بأن الجنة حق فاشتاق إليها ، وعمل لها .
"
وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "البقرة25.

5
-وأيقن بأن النار حق فظهر سعيه للنجاة منها
"
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"آل عمران162.

6
-وأيقن بأن الحساب حق فحاسب نفسه
"
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"آل عمران135.


¤الأنبياء واليقين¤
اليقين هو خُلق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع الله به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران،

¤آدم ¤عليه السلام:
إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبي الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف عليه السلام في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حق ربِّهِ الكريم، وقد بدت له سوءَتُهُ، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة،"فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى "طه121 ، فجاءه اليقين بالله فنادى ربه وناجاه، فغفر الله ذنبه، وستر عيبه وكفَّر خطيئته، "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "الأعراف23.
قال آدم وحواء: ربنا ظلمنا أنفسنا بالأكل من الشجرة, وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن ممن أضاعوا حظَّهم في دنياهم وأخراهم.
"فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" البقرة :37.
¤يُونُسُ بْنُ مَتَّى ¤عليه السلام
"وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "الأنبياء87.
هذا اليقين الذي دخل به يُونُسُ بْنُ مَتَّىعليه السلام بطن الحوت في ظلمات ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرب إليه جل في علاه، "فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "الأنبياء87.
هذه الجملة العظيمة التي فيها اعترافين كبيرين الأول وهو الأعظم :الاعتراف بألوهية الله تعالى ووحدانيته وتنزيهه.
و الثاني: الاعتراف بالذنب و التقصير و الخطأ ، فالأول يدل على تمام العبودية لله رب العالمين ،و الثاني يدل على قوة الايمان و الرغبة في تطبيق العبودية تطبيقا صحيحًا .
، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات.
¤أيوب عليه السلام¤
"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *83" فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" الأنبياء : 84.
توسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه، وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ، وبرحمة ربه الواسعة العامة فاستجاب الله له،قال سبحانه
"ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ "ص42.
هذا اليقين الذي وقف به أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أصابه الضر والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلب لا يعرف أحدًا سواه، ففرج الله عز وجل كربه، ونفسَّ همه وغمه، ورد عليه ما افتقده.
هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد، وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيمًا، وبحالهم عليمًا، ففرج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب.
¤
موسى عليه السلام¤
وقف موسى عليه الصلاة والسلام البحر أمامه والعدو وراءه ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر فلما قال له بنو إسرائيل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ "الشعراء61. قال واليقين معمور به قلبه ومليءٌ به فؤاده: "قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ "الشعراء:62 ، كلا؛ لا أُدرك ولا أُهان ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامر الله:

" فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }الشعراء63 .
"وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى "طه77.
وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركًا فيها ولا يخشى، ،سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقًا في ذلك البحر لا يخاف دركًا ولا يخشى، " لَّا تَخَافُ دَرَكًا " أي أن يدركك فرعون " وَلَا تَخْشَى" غرقًا ،كل ذلكباليقين بالله.

اليقين أعظم زاد:
سار الصالحون على نهج الأنبياء*، واتَّبَعَ آثارَهُم عبادُ اللهِ المهتدونَ، فما نزلت بهم خطوب، ولا أحاطت بهم كروب، إلا عاذوا بالله علام الغيوب، والمؤمن في كل زمان ومكان يحتاج إلى هذا اليقين بالله، تحتاجه إذا عَظُمَتْ منك الذنوبُ، وعظمت منك الإساءة في دينك، تحتاجه وأنت مع أهلِكَ وولدِكَ، وتحتاجه وأنت مع عدوِّكَ، وصديقِكَ، ولذلك كان لزامًا على كل من يحب الله أن لا يمسي ويصبح وفي قلبه غير الله، وإذا أراد الله أن يحبك وأن يصطفيك ويجتبيك ألهمك أن يكون قلبك متعلقًا به جل جلاله، إذا أردت أن يحبك الله كمال المحبة، فلا تمسينّ ولا تصبحنّ وفي قلبك غير الله وحده، تدور أحزانك وتدور أفراحك مع الله، وجميع شُعب قلبكمنيبة إليه، فكم في عباد الله من أناس ملئوا قلوبَهُم بحب الله واليقين به، فكان الله معهم، ومن ذكر الله ذكره الله، ومن ذكره الله فالأمن له كل الأمن.
"إنَّ اللهَ قال : من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحربِ ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه ، وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحبَّه ، فإذا أحببتُه : كنتُ سمعَه الَّذي يسمَعُ به ، وبصرَه الَّذي يُبصِرُ به ، ويدَه الَّتي يبطِشُ بها ، ورِجلَه الَّتي يمشي بها ، وإن سألني لأُعطينَّه ، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه ، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه ترَدُّدي عن نفسِ المؤمنِ ، يكرهُ الموتَ وأنا أكرهُ مُساءتَه

الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 6502 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.
لذلك كان من منازل العبودية ودلائل الإنابة إلى الله أن توقن بالله الذي لا إله إلا هو، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: واليقين من منازل "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "الفاتحة:5. فمن قال"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "الفاتحة:5، فإن الله يمتحنه باليقين.
دلائل اليقين
*عدم صرف الحب والخوف لغير الله: إن اليقين بالله له دلائل، وهذه الدلائل تجدها في نفسك، وتجدها في قلبك، ومن أعظمها: أنك لا تمسي ولا وتصبح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، فإذا أمسيت وأصبحت وأخوف ما يكون في قلبك هو الله، وأحب ما يكون في قلبك هو الله فاعلم أن الله قد أعطاك اليقين، فلا تمسي ولا تصبح وفي قلبك حب لغير الله أكثر من حبك لله، وتمسي وتصبح وليس في قلبك خوف من أحد إلا الله جل وعلا.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين الذين أوجب لهم درجات النعيم.
*جعلُ الإنسان الآخرة نُصْب عينيه:
الدليل الثاني على دلائل اليقين: فهو أن يجعلَ الإنسانُ الآخرةَ نُصْب عينيه.
فكما أن اليقين يكون بالفرج، يكون كذلك بيقين الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه منقلب بين الجنادل في الحفائر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحركون القلوب باليقين بالآخرة، ولقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن من أيقن بالآخرة صحت عبادته وكملت زهادته، فقال جل ذكره: "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة:45-46.
التعلق بغير الله ينافي اليقين:
هذه العبارة تقطع قلوب المؤمنين، عبارة تدل على بعدنا عن الله وطول غربتنا عن داعي الله وجهلنا بعظمة الله عز وجل، فكم من أناس بيننا إذا نزلت بهم الشدائد وأحاطت بهم الهموم والغموم تعلقوا بغير الله والعياذ بالله! وكم من أناس بيننا يقولون: لا إله إلا الله؛ ولكن يعظمون الأسباب ويحبونها أشد من حبهم لله، فكم من مريض أصابه المرض ظن أن طبيبه يداويه وأنه يعافيه ويشفيه، فنقص الإيمان من قلبه على قدر ما فات من يقينه، وكم من مديونٍ ظن أن عبداً يفك دينه ويقضي حاجته فخيب الله ظنه وقطع رجاءه، فأصبح فقيراً صفر اليدين من اليقين به جل جلاله.
لذلك لا يليق بالإنسان أن يعلق رجاءه بغير الله، والله تبارك وتعالى إذا امتحن الإنسان باليقين فتعلق بغير الله، فإن الله تبارك وتعالى يمكر به، ومن مواطن المكر بالإنسان أن يصرف قلبه لغير الله عز وجل، ولذلك تجد بعض من يستعين بالسحرة وبالمشعوذين -والعياذ بالله- يمهلهم الله جل جلاله، ويستدرجهم بتفريج الخطوب والكروب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والله ثم إنه -والله- إذا أراد الله بك الضر فلن ينجيك منه أحدٌ سواه، ولذلك استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن إذا وضع خده ليسلم نفسه للموتة الصغرى أن يقول الدعاء المأثور: إذا أوَيتَ إلى فراشِك فقُلْ : اللهمَّ أسلَمتُنفسيإليك ، ووجَّهتُ وجهي إليكَ ، وفوَّضْتُ أمري إليك ، وألجَأْتُ ظهري إليك ، رغبةً ورهبةً إليك ، لا ملْجَأَ ولا مَنْجا منك إلا إليك ، آمنتُ بكتابِك الذي أنزلتَ . وبنبيِّك الذي أرسلْتَ . فإنك إن مُتَّ في ليلتِك متَّ على الفطرةِ ، وإن أصبحْتَ أصبْتَ أجرًا"
الراوي : البراء بن عازب| المحدث : البخاري| المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 7488 | خلاصة حكم المحدث : صحيح.

وفوَّضْتُ أمري إليك، أي: توكَّلتُ في جميع أموري عليك، راجيًا أن تَكفيَني كلَّ شيء، وتَحميَني من كلِّ سوء،
فلا يظن الإنسان أن أحدًا ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 05-14-2017, 03:25 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation

المجلس الثامن والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤ تابع اليقين ¤
إنَّ الحَمْدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضْلِلْ، فَلا هَادِي لَهُ.وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه .
*"صلاحُ أوَّلِ هذهِ الأُمَّةِ بالزُّهدِ واليَقينِ ، وهلاكُ آخِرِها بالبُخلِ والأمَلِ"الراوي : عبدالله بن عمرو| المحدث : الألباني| المصدر : صحيح الترغيب-الصفحة أو الرقم: 3215 | خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره .الدرر .
وفوَّضْتُ أمري إليك
، أي: توكَّلتُ في جميع أموري عليك، راجيًا أن تَكفيَني كلَّ شيء، وتَحميَني من كلِّ سوء،فلا يظن الإنسان أن أحدًا ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.
وقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة الضعيفة، مع صبي ضعيف في وادٍ، -أمره الله بالهجرة إليه- غير ذي زرع، لا أنيس به ولا جليس، فكان صلوات الله وسلامه عليه مستجيبًا لأمر ربه مسلَّمًا لخالقه كما وصفه الله في كتابه، فجاءته تلك المرأة الضعيفة وتعلّقت به بعد أن حطَّ رحالها وتركها وصبيها، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فأعرض عنها عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لها: أنت تعلمين لمن أدعك .. فمضى إلى الوادي، فجرت وراءه وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فنظر إليها ثم أعرض عنها، ثم في المرة الثالثة، تعلقت به وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فقال: لله، قالت: إذاً لا يخيبنا الله، فوقع ما وقع لها ولصبيها فاستغاثت بالله عز وجل واستجارت في شربة ماء لها ولطفلها، ففجّر الله عز وجل الماء من تحت قدم صبيها. فمن أيقن بالله عز وجل في أي شدة أو أي خطب فإن الله لا يضيعه.
"رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ "إبراهيم37
*"أولُ ما اتَّخَذَ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أم إسماعيلَ ، اتخذتْ مِنْطَقًا لتُعفي أَثَرها على سارةَ ، ثم جاء بها إبراهيمُ وبابنها إسماعيلَ وهي تُرْضِعُهُ ، حتى وضعها عند البيتِ ، عند دَوْحَةٍ فوق زمزمَ في أعلى المسجدِ ، وليس بمكةَ يومئذٍ أحدٌ ، وليس بها ماءٌ ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جِرَابًا فيهِ تمرٌ ، وسقاءً فيهِ ماءٌ ، ثم قَفَّى إبراهيمُ منطلقًا ، فتبعتْهُ أمُّ إسماعيلَ ، فقالت : يا إبراهيمُ ، أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي ، الذي ليس فيهِ إنسٌ ولا شيٌء ؟ فقالت لهُ ذلك مرارًا ، وجعل لا يتلفتُ إليها ، فقالت لهُ : آللهُ الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يُضَيِّعُنَا ، ثم رجعت ، فانطلقَ إبراهيمُ حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيثُ لا يرونَهُ ، استقبلَ بوجهِهِ البيتَ ، ثم دعا بهؤلاءِ الكلماتِ ، ورفع يديهِ فقال : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ - حتى بلغ - يَشْكُرُونَ . وجعلت أمُّ إسماعيلَ تُرْضِعُ إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماءِ ، حتى إذا نفد ما في السِّقَاءِ عطشتْ وعطشَ ابنها ، وجعلت تنظرُ إليهِ يَتَلَوَّى ، أو قال يتلبَّطُ ، فانطلقت كراهيةَ أنتنظرَ إليهِ ، فوجدتِ الصفا أقربُ جبلٍ في الأرضِ يليها ، فقامت عليهِ ، ثم استقبلتِ الوادي تنظرُ هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، فهبطتْ من الصفا حتى إذا بلغتِ الوادي رفعتْ طرفَ درعها ، ثم سعت سعيَ الإنسانِ المجهودِ حتى إذا جاوزتِ الوادي ، ثم أتتِ المروةَ فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تَرَ أحدًا ، ففعلت ذلك سبعَ مراتٍ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( فذلك سعيُ الناسِ بينهما ) . فلما أشرفت على المروةِ سمعت صوتًا ، فقالت صَهْ - تريدُ نفسها - ثم تَسَمَّعَتْ ، فسمعت أيضًا ، فقالت : قد أُسْمِعْتُ إن كان عندكَ غَوَاثٌ ، فإذا هي بالمَلَكِ عند موضعِ زمزمَ ، فبحث بعقبِهِ ، أو قال : بجناحِهِ ، حتى ظهرِ الماءِ ، فجعلت تَحُوضُهُ وتقولُ بيدها هكذا ، وجعلت تغرُفُ من الماءِ في سقائها وهو يفورُ بعد ما تغرفُ . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( يرحمُ اللهُ أم إسماعيلَ ، لو كانت تركت زمزمَ - أو قال : لو لم تغرف من الماءِ - لكانت زمزمُ عينًا معينًا ) . قال : فشربت وأرضعتْ ولدها ، قال لها الملَكُ : لا تخافوا الضَّيْعَةَ ، فإنَّ ها هنا بيتُ اللهِ ، يبني هذا الغلامُ وأبوهُ ، وإنَّ اللهَ لا يُضَيِّعُ أهلَهُ . وكان البيتُ مرتفعًا من الأرضِ كالرابيةِ ، تأتيهِ السيولُ ، فتأخذُ عن يمينِهِ وشمالِهِ ، فكانت كذلك حتى مَرَّتْ بهم رفقةٌ من جُرْهُمَ ، أو أهلُ بيتٍ من جُرْهُمَ ، مقبلينَ من طريقِ كَدَاءٍ ، فنزلوا في أسفلِ مكةَ ، فرأوا طائرًا عائفًا ، فقالوا : إنَّ هذا الطائرَ ليدورُ على ماءٍ ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيهِ ماءٌ ، فأرسلوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فإذا هم بالماءِ ، فرجعوا فأخبروهم بالماءِ فأقبلوا ، قال : وأمُّ إسماعيلَ عند الماءِ ، فقالوا : أتأذنينَ لنا أن ننزلَ عندكِ ؟ فقالت : نعم ، ولكن لا حقَّ لكم في الماءِ ، قالوا : نعم . قال ابنُ عباسٍ : قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ "فألفى ذلك أمُّ إسماعيلَ وهي تُحِبُّ الأُنْسَ " . فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهلُ أبياتٍ منهم ، وشبَّ الغلامُ وتعلَّمَ العربيةَ منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شبَّ ، فلما أدركَ زوَّجوهُ امرأةً منهم ، وماتت أمُّ إسماعيلَ ، فجاء إبراهيمُ بعد ما تزوجَ إسماعيلُ يُطالعُ تَرِكَتَهُ ، فلم يجد إسماعيلَ ، فسأل امرأتَهُ عنهُ فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحنُ بشرٌ ، نحنُ في ضيقٍ وشدةٍ ، فشكت إليهِ ، قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليهِ السلامَ ، وقولي لهُ يُغَيِّرْ عتبةَ بابِهِ ، فلما جاء إسماعيلُ كأنَّهُ آنسَ شيئًا ، فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنَا عنكَ فأخبرتُهُ ، وسألني كيف عيشنا ، فأخبرتُهُ أنَّا في جهدٍ وشدةٍ ، قال : فهل أوصاكِ بشيٍء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأَ عليك السلامَ ، ويقولُ : غَيِّرْ عتبةَ بابكَ ، قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أُفَارِقَكِ ، الحقي بأهلِكِ ، فطلَّقها ، وتزوَّجَ منهم أخرى ، فلبثَ عنهم إبراهيمُ ما شاء اللهُ ، ثم أتاهم بعدُ فلم يجدْهُ ، فدخل على امرأتِهِ فسألها عنهُ ، قالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، قالت : نحنُ بخيرٍ وسِعَةٍ ، وأثنتْ على اللهِ . فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحمُ . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماءُ . قال : اللهمَّ بارِكْ في اللحمِ والماءِ . قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ "ولم يكن لهم يومئذٍ حَبٌّ ، ولو كان لهم دعا لهم فيهِ " . قال : فهما لا يَخلو عليهما أحدٌ بغيرِ مكةَ إلا لم يُوافقاهُ . قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليهِ السلامَ ، ومُرِيهِ يُثَبِّتْ عتبةَ بابِهِ ، فلما جاء إسماعيلُ قال : هل أتاكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخٌ حسنُ الهيئةِ ، وأثنتْ عليهِ ، فسألني عنك فأخبرتُهُ، فسألني كيف عيشنا فأخبرتُهُ أنَّا بخيرٍ ، قال : فأوصاكِ بشيٍء ، قالت : نعم ، هو يقرأُ عليك السلامَ ، ويأمرك أن تُثَبِّتْ عتبةَ بابكَ ، قال : ذاك أبي وأنتِ العتبةُ ، أمرني أن أُمْسِكَكِ ، ثم لبث عنهم ما شاء اللهُ ، ثم جاء بعد ذلك ، وإسماعيلُ يَبْرِي نَبْلًا لهُ تحت دَوْحَةٍ قريبًا من زمزمَ ، فلما رآهُ قام إليهِ ، فصنعا كما يصنعُ الوالدُ بالولدِ والولدُ بالوالدِ ، ثم قال : إنَّ اللهَ أمرني بأمرٍ ، قال : فاصنع ما أمر ربكَ ، قال : وتُعينني ؟ قال : وأُعينكَ ، قال : فإنَّ اللهَ أمرني أن أبني ها هنا بيتا ، وأشار إلى أَكْمَةٍ مرتفعةٍ على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعدَ من البيتِ ، فجعل إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يبني ، حتى إذا ارتفعَ البناءُ ، جاء بهذا الحجرِ ، فوضعَهُ لهُ فقام عليهِ ، وهو يبني وإسماعيلُ يُنَاوِلُهُ الحجارةَ ، وهما يقولانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قال : فجعلا يبنيانِ حتى يدورا حول البيتِ وهما يقولانِ : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
الراوي : عبدالله بن عباس-المحدث : البخاري -المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 3364 -خلاصة حكم المحدث : صحيح
شرح الحديث :
يَحكي ابنُ عَبَّاس رضي الله عنهما أنَّ أوَّلَ ما اتَّخَذَ النِّساءُ "المِنْطَقَوهو: قِطْعةٌ مِن قُماشٍ تَشُدُّ بِها المَرأةُ وسطَها، وتَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ، كانَ مِن جِهةِ هاجَرَ أُمِّ إِسْماعيلَ، وسَبَبُه أنَّ سارةَ كانت قَدْ وهَبَتْ هاجَرَ لِإِبْراهيمَ عليه السَّلام، فَلمَّا وَلَدَتْ إِسْماعيلَ غارَتْ منها، فَشَدَّت المِنْطَقَ، وصارَتْ تَجُرُّ أسفَلَه عَلى الأرضِ؛ لِتُخفي آثارَ أقدامِها، ثمَّ أمَرَه اللهُ تَعالى أن يَذهَبَ بِها إلى مَكَّةَ فَفَعَلَ، ولَم يَكُن هُناكَ بَيْتٌ ولا بِناءٌ ولا زَرْعٌ ولا ماءٌ، فَوَضَعَها تَحْتَ شَجرةٍ هُناكَ فَوْقَ مَكان زَمْزَمَ، وكانَ إِسْماعيلُ رَضيعًا، ومَكَّةُ صَحْراءَ قاحِلةً، وتَرَكَ لها جِرابَ تَمرٍ وسِقاءَ ماءٍ، وعاد راجِعًا إلى الشَّامِ، فَقالت له: أينَ تَذهَب وتَترُكنا بِهذا الوادي الَّذي لا إِنْسَ فيه ولا شَيءَ؟ وأعادَت السُّؤالَ مِرارًا، فَلَمَّا لَم يُجِبْها، سَألَتْه: هَلْ أمَرَك اللهُ بِذَلِكَ؟ فَأجابَها: نَعَم، قالت: ما دامَ قَد أمَرَك بِذَلِكَ، فَلَن يُضَيِّعَنا، وسارَ إِبْراهيمُ عليه السَّلام مُتَضَرِّعًا إلى اللهِ مُتَوجِّهًا إلى بَيتِه الحَرامِ داعيًا: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}، أي: لا نَباتَ فيه عِندَ بَيتِك المُحَرَّمِ، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَأي: إِنَّما جَعَلته مُحَرَّمًا؛ ليَتَمَكَّن أهْلُه مِن إِقامةِ الصَّلاةِ عِندَه، "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي: فاجْعَلْ جَماعاتٍ مِن النَّاسِ تَأتيهم "وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي: ليَكونَ ذلك عَونًا لهم عَلى طاعتِك. وجَعَلَتْ هاجَرُ تُرضِع إِسْماعيلَ عليه السَّلام، وتَشْرَب مِن ذلك الماءِ، حَتَّى إِذا نَفِدَ ما في السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابنُها، وجَعَلَتْ تَنظُر إليه "يَتَلَوَّى"، أي: يَتَلَفَّت، أو قالَ "يَتَلَبَّط أي: يُحرِّك لِسانَه، ويَكاد يَموتُ مِن شِدَّةِ العَطشِ، فَلَم تُطاوِعْها نَفْسُها أن تَراه عَلى تِلْكَ الحالةِ، فانْطَلَقَتْ كَراهيةَ أن تَنظُرَ إليه وهو عَلى وشْكِ أن يَموتَ مِن العَطشِ، ثمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسانِ المَجْهودِ تَبحَث عَن الماءِ بَينَ الصَّفا والمَرْوةِ سَبْعَ مَرَّات، فَشَرَع اللهُ لِلنَّاسِ السَّعْيَ في الحَجِّ مِن أجْلِ ذَلِكَ. فَلَمَّا أشْرَفتْ عَلى المَرْوةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالت: "صَهٍ" تُريدُ نَفْسَها، أي: طَلَبَتْ مِن نَفْسِها السُّكوتَ؛ لِكَي تَتعَرَّفَ عَن مَصدَرِ الصَّوتِ، ومِن أيْنَ أتى. ثمَّ تَسَمَّعتْ فَسَمِعَتْ أيْضًا الصَّوْتَ مَرَّة أُخرى، فَقالت: قَدْ أسْمَعتَ إِن كانَ عِنْدَك "غِواثٌ"، يَعْني: قَدْ سَمِعت صَوْتك، فَإِنْ كانَ عِنْدَك ما يُغيثني فَأغِثْني. فَإِذا هيَ بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِع زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِه، أو قالَ بِجَناحِه حَتَّى ظَهَرَ الماءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضه، وتَقولُ بيَدِها هَكَذا، أي: فَصارَتْ تُحيطه بالتُّرابِ وتَجْعَله حَوْضًا، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ ولَم تُحَوِّضها لَصارَتْ عَيْنًا مَعينًا، أي: عَيْنًا جاريةً عَلى وجْهِ الأرضِ. فَقالَ لها المَلَكُ: لا تَخافوا "الضَّيْعةَ"، أي: لا تَخافوا الضَّياعَ والهَلاكَ؛ لِأنَّكم تَحْتَ رِعايةِ اللهِ تَعالى. وكانَ البَيْتُ مُرتفِعًا مِن الأرْضِ كالرَّابيةِ، أي: مُرتفِعًا قَليلًا. ثمَّ مَرَّ بِذَلِكَ المَكانِ، أو بالقُربِ مِنه جَماعةٌ مُسافِرونَ مِن جُرْهُمٍ مَرُّوا بِأعْلى مَكَّةَ، فَرَأوْا طَيْرًا حائِمًا عَلى الماءِ، فَعَرَفوا أنَّ بِهذا الوادي ماءً، وكانَ عَهدهم بِه أنَّه وادٍ مُقْفِرٌ، فَأرْسَلوا رَسولًا مِن قِبَلهم، أو رَسولَيْنِ؛ ليَكشِفَ لهم عَن الحَقيقةِ، فَرَجَعَ إليهم رُسُلُهم يُخبِرونهم عَن وُجودِ ماءٍ في تِلْكَ البُقْعةِ، فَأقْبَلوا عَلى أُمِّ إِسْماعيلَ، واستَأذَنوا منها بالنُّزولِ في جِوارِها، فَأذِنَتْ لهم بِذَلِكَ، عَلى أن لا يَكونَ لهم حَقُّ التَّمَلُّكِ في ذلك الماءِ، وإنَّما لهم أن يَشرَبوا مِنه فَقَطْ، وسَكَنَتْ جُرْهُمٌ مَكَّةَ مُنْذُ ذلك العَهْدِ، واسْتَأْنَسَتْ بِسُكْناهم مَعَها، وشَبَّ الغُلامُ في هذه القَبيلةِ، وتَعَلَّمَ منهم اللُّغةَ العَرَبيَّةَ، ثمَّ لَمَّا بَلَغَ الرُّشدَ زَوَّجوه امْرَأةً منهم اسْمها عِمارةُ بِنْتُ سَعْدٍ، ثمَّ ماتَتْ أُمُّ إِسْماعيلَ، فَجاءَ إِبْراهيمُ عليه السَّلامُ بَعدَما تَزَوَّجَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ، يُطالِع تَرِكتَه، أي: يَتَفَقَّد حالَ أهْلِه ووَلَدِه، فَلَم يَجِد إِسْماعيلَ عليه السَّلام، فَسَألَ امْرَأتَه عَنْه، فَقالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَطلُب لَنا الرِّزْقَ، ثمَّ سَألَها عَن عَيْشِهم وهَيْئتِهم، أي: حالتِهم، فَقالت: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ في ضيقٍ وشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إليه، قالَ: فَإِذا جاءَ زَوْجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، وقولي له: يُغَيِّر عَتبةَ بابِه، فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلام، كَأنَّه آنَسَ شَيْئًا، فَقالَ: هَلْ جاءَكم مِن أحَد؟ أيْ: فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ، وكانَ قَدْ أحَسَّ في نَفْسِه أنَّه جاءَها أحَد، فَسَألَها قائِلًا: هَلْ جاءَكم مِن أحَد؟ قالت: نَعَم جاءَنا شَيْخ كَذا وكَذا، أي: صِفتُه كَذا، وأخْبَرَتْه بِكُلِّ ما دارَ. فَقالَ: ذاكَ أبي، وقَدْ أمَرَني أن أُفارِقَك، أي: أن أُطَلِّقَك، الْحَقي بِأهلِك، أي: أنْتِ طالِقٌ فاذْهَبي إلى أهْلِك. وتَزَوَّجَ منهم امْرَأةً أُخرى وهيَ رَعْلةُ بِنْتُ مُضامِن، فَلَبِثَ عَنْهُم إِبْراهيمُ عليه السَّلامُ مُدَّةً مِن الزَّمَنِ ثمَّ أتاهم بَعْدَ فلَم يَجِده، فَدَخَلَ عَلى امْرَأتِه، فَسَألَها عَنْه، قالت: خَرَجَ يَبْتَغي لَنا، أي: يَسْعى في طَلَبِ الرِّزقِ. قالَ: كَيْفَ أنْتُم، وسَألَها عَن عَيْشِهم وهَيْئتِهم؟ فَقالت: نَحْنُ بِخَيْرٍ وسَعةٍ، أي: نَحْنُ في نِعمةٍ مِن الله وسَعةٍ في الرِّزقِ وأثْنَت عَلى الله، أي: حَمِدَت رَبَّها وشَكَرَتْه؛ لِأنَّها كانت راضيةً بِما قَسَمَ لها، شَأْن المَرْأةِ الصَّالِحةِ، فَقالَ: ما طَعامُكم؟ قالت: اللَّحْمُ، قالَ: فَما شَرابُكم؟ قالت: الماءُ، أي: فَسَألَها عَن طَعامِهم وشَرابِهم الَّذي يَعيشونَ عليه، فَذَكَرَتْ أنَّ طَعامَهم اللَّحْم، وشَرابَهم الماء. فَدَعا لهم بالبَرَكةِ في اللَّحْمِ والماءِ، فَكانوا يَقْتَصِرونَ عليهما دونَ أن يَتَضَرَّروا منهما، وأصْبَحَ ذلك خاصًّا بِمَكَّةَ دونَ غَيرِها مِن البِلادِ، فَإِنَّه لا يَقتَصِر أهْل بَلَدٍ عليهما إلَّا تَضَرَّروا منهما، كَما قالَ: فَهُما لا يَخْلو عليهما أحَدٌ بِغَيرِ مَكَّةَ إلَّا لَم يوافِقاه، لَيْسَ أحَد يَخْلو عَلى اللَّحْمِ والماءِ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلَّا اشْتَكى بَطنَه، قالَ: فَإِذا جاءَ زَوجُك فاقْرَئي عليه السَّلامَ، ومُريه يُثبِت عَتَبةَ بابِه، فَلَمَّا جاءَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ قالَ: هَلْ أتاكم أحَد؟ فَأخْبَرتْه عَن الشَّيْخِ الَّذي جاءَها في غيابِه، وبِأوصافِه وما دارَ بَينَه وبَينَها. فَقالَ: ذاكَ أبي وأنْتِ العَتَبةُ، أمَرَني أن أُمسِكَك، أي: أن أُبقيَك في عِصمَتي. ثمَّ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وإسْماعيلُ عليه السَّلام يَبْري نَبْلًا، أي: يَنْحِت سَهْمًا ويُصلِحه. فَلَمَّا رَآه قامَ إليه فَصَنَعا كَما يَصنَع الوالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوالِدِ، أي: فَعانَقَه مُعانَقةَ الوالِدِ لِوَلَدِه. ثمَّ قالَ: يا إِسْماعيلُ، إِنَّ اللهَ أمَرَني بِأمرٍ، أي: أمَرَني أن أقومَ بِعَملٍ في هذا المَكانِ، ثمَّ طَلَبَ مِن ولَدِه إِسْماعيلَ عليه السَّلام أن يُعينَه عليه، ثمَّ قالَ: إِنَّ الله أمَرَني أن أبْنيَ هاهُنا بَيْتًا، وأشارَ إلى "أكَمةٍ مُرتَفِعةٍ"، أي: إلى رَبْوةٍ مُرتفعةٍ قَليلًا عَن سَطحِ الأرْضِ؛ ليُبَيِّن له المَكانَ الَّذي أُمِرَ بِبَناء الكَعْبةِ فيه، قالَ: فَعِنْدَ ذلك "رَفَعا القَواعِدَ"، أي: شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها البَيْتُ. فَجَعَلَ إِسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ، وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إِذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه. جاءَ بِهذا الحَجَرِ المَوْجودِ حاليًّا في المَقامِ، فَقامَ عليه، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِله الحِجارةَ، وهُما يَقولانِ: "رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فَيَدْعوانِ اللهَ بِقَبولِ بِنائِهما هذا، والرِّضا عَنْهما فيه؛ لِأنَّه السَّميعُ لِدُعائِهما، العَليمُ بِبِنائِهما.الدرر.هنا .
"لم يَكْذِبْ إبراهيمُ إلا ثلاثَ كَذِبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ منهنَّ في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ . قولُهُ"إِنِّي سَقِيمٌ " . وقولُهُ " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " . وقال : بينا هو ذاتَ يومٍ وسارةُ ، إذ أتى على جبارٍ من الجبابرةِ ، فقيل لهُ : إنَّ هاهنا رجلًا معهُ امرأةٌ من أحسنِ الناسِ ، فأرسلَ إليهِ فسألَهُ عنها ، فقال : من هذهِ ؟ قال : أختي ، فأتى سارةَ فقال : يا سارةُ ليس على وجهِ الأرضِ مؤمنٌ غيري وغيركِ ، وإنَّ هذا سألني فأخبرتُهُ أنكِ أختي ، فلا تُكَذِّبِينِي ، فأرسلَ إليها ، فلمَّا دخلت عليهِ ذهب يَتناولها بيدِهِ فأُخِذَ ، فقال : ادعي اللهَ ولاأضرُّكِ ، فدعتِ اللهَ فأُطْلِقَ . ثم تَناولها الثانيةَ فأُخِذَ مثلها أو أشدَّ ، فقال : ادعي اللهَ لي ولا أضرُّكِ ، فدعتْ فأُطْلِقَ ، فدعا بعضَ حجبتِهِ ، فقال : إنكم لم تأتوني بإنسانٍ ، إنما أتيتموني بشيطانٍ ، فأخدمها هاجرَ ، فأتتْهُ وهو يُصلِّي ، فأومأَ بيدِهِ : مَهْيَا ، قالت : رَدَّ اللهُ كيدَ الكافرِ ، أو الفاجرِ ، في نحرِهِ ، وأخدمَ هاجرَ- . قال أبو هريرةَ : تلكَ أُمُّكُمْ ، يا بني ماءِ السماءِ .
الراوي : أبو هريرة-المحدث : البخاري| المصدر:صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 3358 خلاصة حكم المحدث:صحيح-
شرح الحديث:
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ إِبراهيمَ عليْهِ السَّلامُ لم يَكذِبْ إلَّا ثلاثَ كذِباتٍ، ثم يخبر بتَفاصيلِ تلك الكذبات فيقولُ: "ثِنْتَينِ مِنهنَّ في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّوإنَّما قال عن ثِنتَينِ فقط إنَّها في ذاتِ الله؛ لأنَّ الثالِثةَ فإنَّها وإنْ كانتْ في ذاتِ اللهِ لكنَّ فيها حَظًّا لنَفسِهِ، وإنَّما أُطلِقَ الكذِبُ على هذِه الأمورِ لكونِهِ قالَ كلامًا يظُنُّهُ السامِعُ كذبًا لكنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّهُ لم يكنْ كذلِكَ لأنَّهُ مِن المَعاريضِ فليسَ بكذِبٍ مَحضٍ، أمَّا الأُولى: عِندما طلَبَ منهُ قَومُهُ أنْ يخرُجَ معَهمْ إلى عِيدِهِمْ وأرادَ أنْ يَكسِرَ آلِهتَهُم قالَ لهمْ"إِنِّي سَقِيمٌأي: ليظُنُّوا أنَّه مَريضٌ مُصابٌ، فيترُكوه، وأَرادَ أنَّ قَلْبَهُ مريضٌ ممَّا يَصنعونَ مِن الكُفرِ أو غيرِ ذلكَ.
وأمَّا الثانيةُ: فعِندما حطَّمَ الأَصنامَ ورَجعوا واتَّهموهُ بِهذا الفعلِ فقالَ"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا" أرادَ أنَّهُ سببٌ في الفِعلِ لا هُو الفاعلُ نفسُه؛ لأنَّهُ لَمَّا وَجدَها مُتراصَّةً حوْلَهُ تَعظيمًا لهُ حطَّمها كلَّها إِمْعانًا في إذْلالِهِ؛ وقد قال ذلك ليُعمِلوا عقولَهم فيَعرِفوا أنَّها أحجارٌ لا تستطيعُ فِعلَ شيءٍ.
وأمَّا الثالِثةُ: فعِندما قدِمَ هُوَ وزَوجَتُه سارَّةُ أرضًا كانَ يحكُمُها جبَّارٌ مِن الجَبابِرةِ، فقيلَ لهذا الجَبَّارِ: إنَّ في أَرضِكَ رجُلًا معَ امرأةٍ مِن أحسنِ النَّاسِ، أي: مِن أَجمَلِهمْ؛ فأَرسلَ إلى إِبراهيمَ فَسألَه عنْها؛ فَقالَ: إنَّها أُخْتي، أرادَ أنَّها أُختُه في اللهِ وفي الدِّينِ والإِسلامِ؛ إذْ لوْ قَالَ زَوجتي، لَقَتلَهُ الفاجِرُ ليَتخَلَّصَ مِنه، وقيلَ: لأَلزَمَه بِطلاقِها، ثمَّ رجَعَ إِبراهيمُ إلى زَوْجتِهِ، فَقالَ لها: إنَّهُ ليسَ على وَجهِ الأَرضِ مُؤمنٌ غَيري وغَيرُكِ، أي: الأرضُ التي هُمْ بِها، ثم قالَ لَها وقدْ سأَلني هَذا الجبَّارُ فأَخبَرْتُه أنَّكِ أُختي، فلا تُكَذِّبيني فتقُولي هُو زَوجي، فأَرسلَ إِليها هذا الجبَّارُ فلمَّا دَخلتْ عَليهِ ورأَى حُسْنَها غلبَه الميلُ إليها فذَهَبَ يُمسِكُها بيدِهِ، (فأُخِذَ) أي: اختَنقَ حتَّى ركَضَ بِرِجلِه كأنَّهُ مَصروعٌ، فقالَ لها: ادْعي اللهَ لي وَلا أضُرُّكِ، فدَعتِ اللهَ فقَالَ: اللهُمَّ إنْ يَمُتْ يَقولوا: هيَ التي قَتلَتْه، فاستجابَ اللهُ لها فعادَ سليمًا، غيرَ أنَّه غَلَبتْه شَهوتُه، فَحاوَلَ أنْ يَتَناوَلها ثانِيةً، فأُخِذَ أشدَّ مِن المرَّةِ الأُولى، فقالَ: ادْعي اللهَ لي وَلا أضُرُّكِ، فدَعتْ فأُطلِقَ، فلمَّا يَئِسَ منها دَعا بعضَ حجَبتِهِ وخدَمِهِ فقالَ: (إنَّكمْ لَمْ تَأْتوني بإِنسانٍ، إنَّما أَتَيْتمُوني بِشَيطانٍ)! حيثُ لم أَقدِرْ عَليها بلْ تَصرعُني كلَّما اقْتربتُ مِنها، ثمَّ لَمَّا رَأى مِنها ذلكَ أَعْطاها هاجَرَ خادِمةً لها، فَرَجعت سارَّةُ إلى إِبراهيمَ فوَجدَتْهُ يُصلِّي، "فأَوْمأَ بِيدِهِ أيْ: أَشارَ إِليها "مَهْياأي ما شَأنُكِ وحالُكِ معَه؟ فقالتْ: ردَّ اللهُ كيدَ الكافرِ، أو الفاجِرِ، في نَحرِهِ، فلمْ يَصِلْ إليَّ بِشيءٍ، وأَخدَمَ هاجَرَ.
وقولُه"تِلكَ أمُّكُمْ يا بَني ماءِ السَّماءِ"، "ماءُ السَّماءِ": أرادَ بِهمُ العَربَ؛ لأنَّهم يَعيشونَ بالمَطرِ ويتَّبِعونَ مواقعَ القَطرِ في البَوادي -وَمَوَاقِع الْقَطْر:أي : بطون الأودية, وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى -لأَجلِ المواشي، والمرادُ: فتِلكَ المرأةُ التي هيَ هاجرُ هيَ أمُّكمْ أيُّها العربُ.
وفي هذا الحديثِ: إجابةُ الدُّعاءِ بإِخلاصِ النيَّةِ، وبيانُ حِفظِ اللهِ لِعبادِهِ الصَّالحينَ
.
وفيه: أنَّ في المعاريضِ نَجاةً مِن الوُقوعِ في الكَذبِ.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين. اللهم إنا نسألك يقينًا لا يخالطه شك، ونسألك إيمانًا لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

عباد الله : اتقوا الله ربكم وراقبوه في جميع أعمالكم مراقبة من يعلمُ أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه ؛ وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: أوشكأن يظلَّكم شهرٌ مبارك وموسمٌ عظيم وموطنٌ جليل تكثُر فيه الخيرات وتعظُم فيه البركات وتتزايد فيه النعم والمنن ؛ إنه -أيها العباد- شهر رمضان المبارك ، شهر الخيرات والبركات ، فاحمدوا الله عز وجل على نعمائه ، واشكروه على فضله وعطائه ، وسلوه أن يبلِّغكم رمضان وأن يجعلكم من أهله حقًا وصدقًا.

*قال ابن ماجه في سننهحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ , أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , عَنْ ابْنِ الْهَادِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ , أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا , فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ , فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ , ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ , قَالَ طَلْحَةُ : فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ , إِذَا أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ , فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا , ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ , ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ , فَقَالَ : ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ , فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ , فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ , فَقَالَ : " مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ " , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ , وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً " , قَالُوا : بَلَى , قَالَ : " وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ , فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ " , قَالُوا : بَلَى , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " .
الراوي : طلحة بن عبيدالله-المحدث : الألباني-المصدر : صحيح ابن ماجه -الصفحة أو الرقم: 3185 - خلاصة حكم المحدث : صحيح-شرح الحديث .الدرر .شرح الحديث
طولُ العُمرِ مع حُسْنِ العَملِ مِن أسبابِ الفلاحِ والتَّفاضُلِ بين النَّاسِ، والله سُبحانَه وتعالى يُعْطي المُجتهِدَ على قَدْرِ اجتهادِه.
وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ طَلحةُ بنُ عُبيدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ رجُلينِ مِن بَلِيٍّ" وهم فَرعٌ مِن بني عُذْرةَ، وبنو عُذرةَ هم قَبيلةٌ كانتْ تَسكُنُ في وادي القُرى قُربَ المدينةِ، وكانُوا يَدينُونَ باليَهودِيَّةِ قَبلَ الإسلامِ، "قدِمَا على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكان إسلامُهما جميعًا"، أي: وَفَدا على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُشهِرَينِ لإسلامِهما في وقتٍ واحدٍ، "فكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا مِن الآخرِ"، أي: في العِبادةِ وأعمالِ البِرِّ، "فغَزا المُجتهِدُ منهما"، أي: خرَجَ في الغَزوِ والجهادِ، "فاسْتُشْهِدَ، ثمَّ مكَثَ الآخَرُ بَعدَه سَنةً، ثمَّ تُوُفِّيَ"، أي: مات المُجتهِدُ شهيدًا، ومات صاحبُه بعده بسَنةٍ، قال طَلحةُ رضِيَ اللهُ عنه: "فرأيْتُ في المنامِ بينا أنا عِندَ بابِ الجنَّةِ"، أي: بجوارِ بابِها من الخارجِ، "إذا أنا بهما"، أي: بالرَّجُلينِ واقفَينِ عند بابِ الجنَّةِ، "فخرَجَ خارِجٌ من الجنَّةِ"، أي: ملَكٌ مِن الملائكةِ، "فأذِنَ للَّذي تُوُفِّيَ الآخِرَ منهما"، أي: سمَحَ بالدُّخولِ للَّذي مات أخيرًا قبلَ الَّذي مات شَهيدًا، "ثمَّ خرَجَ فأذِنَ للَّذي اسْتُشْهِدَ"، أي: أدخَلَه بعد صاحِبِه، "ثمَّ رجَعَ إليَّ"، أي: رجَعَ المَلَكُ إلى طَلحةَ مُخاطِبًا إيَّاه، "فقال: ارجِعْ؛ فإنَّك لم يَأْنِ لك بعدُ"، أي: وأنت فلم يحضُرْك أجَلُك لتدخُلَها، "فأصبَحَ طَلحةُ"، أي: مِن لَيلتِه الَّتي رأى بها تلك الرُّؤيا، "يُحَدِّثُ به النَّاسَ"، أي: يُخبِرُهم بها، "فعَجِبوا لذلك"، أي: تعجَّبُوا لدُخولِ الآخِرِ قبلَ الأوَّلِ وقد مات شهيدًا، "فبلَغَ ذلك رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحَدَّثوه الحديثَ"، أي: علِمَ بها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتعجَّبَ النَّاسُ لحالِهما، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مِن أيِّ ذلك تعجَبونَ؟"، أي: ما سبَبَ تعجُّبِكم لحالِ الرَّجُلينِ، فقالوا: "يا رسولَ اللهِ، هذا كان أشدَّ الرَّجُلينِ اجتهادًا، ثمَّ اسْتُشْهِدَ، ودخَلَ هذا الآخِرُ الجنَّةَ قبلَه!" فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أليس قد مكَثَ"، أي: عاشَ وقضَى في الحياةِ، "هذا بَعدَه سَنةً"؟ فعُمِّرَ وعاش بعدَ صاحبِه عامًا، قالوا: "بلى"، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وأدرَكَ رمضانَ فصامَ؟"، أي: حصَلَ له أجْرُ الصِّيامِ والقيامِ فيه وليلةِ القدْرِ، "وصَلَّى كذا وكذا من سَجدةٍ في السَّنةِ؟"، أي: صَلَّى ألفًا وثَمانَ مِئةِ صَلاةٍ من ذلك العامِ الصَّلاةَ المفروضةَ، وما شمِلَها مِن تَطوُّعٍ ونَافلةٍ، قالوا: "بلى"، قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فما بينهما أبعدُ ممَّا بين السَّماءِ والأرضِ"، وفي روايةِ أحمدَ: قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لطَلحةَ: "وما أنكَرْتَ مِن ذلك؟! ليس أحدٌ أفضلَ عند اللهِ مِن مُؤمنٍ يُعَمَّرُ في الإسلامِ؛ لتَسبيحِه وتَكبيرِه وتَهليلِه"، أي: إنَّ ذلك فضْلُ طولِ العُمرِ وزِيادةِ العَملِ مع إحسانِه؛ لأنَّه لا يَزالُ يأتي بالحَسَنِ من الأعمالِ، وتُدَّخَرُ له، وهذا مُوافِقٌ لِمَا أخرَجَه الترمذيُّ أنَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "خيرُ النَّاسِ مَن طال عُمرُه وحسُنَ عمَلُه"
وفي الحديثِ: بَيانُ فَضْلِ العمَلِ الصَّالحِ المصحوبِ بالنِّيَّة الصَّالحةِ، وأنَّه يَرفَعُ صَاحِبَه في الدَّرجاتِ.
وفيه: بَيانُ فَضْلِ طُولِ العُمُرِ مَع حُسْنِ العَملِ
. هنا ..



رد مع اقتباس
  #29  
قديم 05-14-2017, 03:28 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,264
Exclamation


المجلس التاسع والعشرون
الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة
¤الأنس بالله¤
"بدأَ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ كما بدأَ غريبًا، فطوبى للغرباءِ".الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم: 145- خلاصة حكم المحدث : صحيح. .

- وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن صفة هؤلاء الغرباء "إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء . قيل من هم يا رسول الله؟ قال" الذين يصلحون إذا فسد الناس"السنن الواردة في الفتن" لأبي عمرو الداني -1/ 25-وغيره، وصححه الألباني في "الصحيحة" 3/ 267" السلسة الصحيحة برقم 1273.
وهؤلاء الغرباء قسمان:
أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.
والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين.

والغربة غُربتان: غُربة ظاهرة، وغُربة باطنة:
فالظَّاهرة: غربة أهلِ الصلاح بين الفُساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق الذين سُلِبُوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدينَ بين الراغبينَ في كل ما ينفد وليس هو بباقٍ.
وأمَّا الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه.الألوكة .
فما سر صبر هؤلاء الغرباء في هذه الأزمان العصيبة ؟ وما الذي أذهب عنهم الوحشة في سلوك طريق الصلاح مع قلة سالكيه وقلة الأعوان عليه ؟ وما الذي جعلهم يتميزون بالاستقامة وسط هذا الركام من الانحراف و الفساد ؟ فلا بد أن لهم حادٍ يسوقهم ومسلٍ يؤنسهم !!
إنه لا شيء غير الأنس بالله والتسلي بالقرب منه سبحانه فهم أناس امتلأت قلوبهم بمعرفة الله ومحبته وتعظيمه وإجلاله، وحلاوة مناجاته وتلاوة كتابه، فأكسبهم ذلك لذة أنستهم في لذات الدنيا و شهواتها، والأسف على ما فات منها، وكان لهم في ذلك العوض الأكبر - هنا -

قال تعالى "الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"الرعد: ٢٨. فيزول قلق النفوس واضطرابها ، وتحضرها أفراحها ولذاتها، لأنها امتلأت أنسًا ببارئها سبحانه وشوقًا إلى لقائه، فليست تترك ما أمرت به لشعورها بالوحدة على الطريق وكان لها في صفوة الله من خلقه أسوة ، فلم يزدادوا عليهم السلام عند اشتداد الكروب وكثرة الخطوب وتسلط الأعداء إلا أنسًا بالله . فهاهو نوح عليه السلام يأنس بالله في دعوة قومه ، فما استوحش الطريق ولا ضعفت همته وداوم على ذلك تسعمائة وخمسون سنة، يستمد فيها العون من الله ، قال تعالى"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ" يونس: ٧١. وهاهو إبراهيم عليه السلام يأنس بالله في توحيده ، ويرضى بالوحدة لأنها النجاة فكان كما قال الله عنه قال تعالى "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "النحل: ١٢٠ . وهاهو يوسف عليه السلام يفضل الأنس بربه في خلوته ، يوم أغروه بما يغضب ربه جل وعلا " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" يوسف: ٣٣.
وهاهو موسى عليه السلام يأنس بالله ويتسلى بفضله، يوم أن أصبح غريبًا مطاردًا من جنود فرعون قال تعالى "فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" القصص: ٢١ . وسيدنا يونس عليه السلام يوم ابتلعه الحوت ، لم تكن له إلا رحمة الله أنيسًا قال تعالى "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"الأنبياء: ٨٧ . وهكذا جميع أنبياء الله يوم أحاطت بهم مكائد أقوامهم ، لم يكن لهم أنس إلا بالله المطلع على أحوالهم . وإنما استوحش الجاهلون وقست قلوبهم، ولم يجدوا الأنس بطاعة الله وذكره، لأنهم يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها، فهم لا يعرفون سواها فهي أُنسهم، وأنفس شيء عندهم ، وأصعب شيء عند المترف مفارقة ترفه، لأنه لا عوض عنده من لذات الدنيا إذا تركها، فهو لا يصبر على تركها ومع ذلك فلا راحة له في ذلك الترف وذلك البعد عن الله حالهم :

يقول سبحانه "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" طه: ١٢٤ .
قال ابن القيم رحمه الله :" من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه، ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته، ثم تعامل غيره ، وأن تعرف قدر غضبه، ثم تتعرّض له، وأن تذوق ألم الوحشة ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه، ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره، ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه، والإنابة إليه، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب" الفوائد /47. فالطاعة توجب القرب من الرب سبحانه والقرب يوجب الأنس فكلما اشتد القرب قوى الأنس والمعصية توجب البعد من الرب فكلما كثرت الذنوب اشتد البعد وقويت الوحشة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين وأطيب العيش عيش المستأنسين و العاقل لا يبيع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والاضطراب و حتى يظل العبد في أنس وطمأنينة ، و راحة وسكينة ،لابد عليه أن يظل مراقبا لنفسه مطيعا لربه ، محسنا في ذلك ، فالله مع المحسنين بتأييده وتوفيقه وإيناسه يقول سبحانه "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ "العنكبوت: ٦٩ .وقال أيضًا" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" النحل: ١٢٨ . فمع الله إذا في كل زمان ومكان وفي كل حين وآن مع الله في السر والعلن مع الله في الشدة بالصبر وفي الرخاء بالشكر مع الله في البيع والشراء بالصدق مع الله عند رؤية المنكر بالتغيير مع الله في الحث على الخير والدلالة على المعروف مع الله في وصل الأرحام و بر الوالدين مع الله في مخالطة الناس بحميد الأخلاق مع الله في مكان الوظيفة بالأمانة والإتقان مع الله في البيت بالتربية والتوجيه مع الله في كل مدخل ومخرج مع الله في الحل والترحال عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " رواه الترمذي برقم 1987وهو في صحيح الجامع برقم 97. هذه هي حياة المؤمن لا يخلو جزء منها من العيش مع الله فهو طالب للأنس منه سبحانه بطاعته، في كل حركاته وسكناته، كالسمكة إذا أخرجت من الماء صارت ميتة يقول سبحانه "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣ .فالحارس الذي لا يفارق قلبه :أنا لله فليس لي أن أفعل ما أشاء، هل هذا الأمر طاعة لله فأمضي أم هو معصية فأحجم ؟ فيا من يبحث عن اللذة والطمأنينة والأنس ، أطع مولاك تجد مفقودك ،أزل عنك لباس الغفلة فالله يقول"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" النحل: ٩٧. وسل الله أن يحي قلبك فهو القائل "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" فأنس يا أخي بقرب الله ووعده في طلب الطمأنينة والأنس. ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. البقرة: ١٨٦.
- هنا -

قال ابن القيم: ‏والأنس بالله : حالةٌ وجدانية ، وهي من مقامات الإحسان ، تقوى بثلاثة أشياء: دوام الذكر ، وصدق المحبة ، وإحسان العمل. مدارج السالكين .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
"
ومن علامات صحة القلب : أن لا يفتر عن ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته- يقصد لا يسأم من عبادة وطاعة الله-، ولا يأنس بغيره ، إلا بمن يَدُلُّه عليه ، ويذكِّرُهُ به ، ويذاكره بهذا الأمر" انتهى من " إغاثة اللهفان " ( ص 72 ) .
فالأنس بالله تعالى حالة وجدانية تحمل على التنعم بعبادة الرحمن ، والشوق إلى لقاء ذي الجلال والإكرام .
قال أحد السلف " مساكين أهل الدنيا ، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قيل : وما أطيب ما فيها ؟ قال : محبة الله ، والأنس به ، والشوق إلى لقائه ، والتنعم بذكره وطاعته ".انتهى من " إحسان سلوك العبد المملوك إلى ملك الملوك " لعبد الكريم الحميد (1/168) .

وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه سبحانه ، فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به ، بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له ، فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة ، فكلما كان الْمُحِب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه وأنسه به أعظم .
فالأنس بالله مقام عظيم من مقامات الإحسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" .
أخرجه البخاري (50) ، ومسلم (5) .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعليقًا على الحديث والأثر : " فهذان مقامان :
أحدهما : الإخلاص ، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه
الثاني : أن يعمل العبد على مشاهدة الله بقلبه ، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان" .
انتهى من " استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس".
يشير ابن رجب رحمه الله بكلامه هذا إلى منزلة المراقبة ، ومقام المشاهدة أو المعاينة كما يسميه بعض أهل العلم .
فـ" المشاهدة" ناتجة عن معاينة آثار أسمائه وصفاته تعالى في الكون ، بحيث يترتب عن ذلك تنور القلب وتعلقه بالرب ، وهذه المنزلة هي التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ " فهي رؤية حُكْمية .
أما " المراقبة" فهي العلم واليقين باطلاع الحق سبحانه على ظاهر العبد وباطنه ، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلامه السابق :
"
يتولد عن هذين المقامين: الأنس بالله ، والخلوة لمناجاته وذكره ، واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم " .
انتهى من " استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس "
فمنزلة المراقبة إذا تحققت في العبد حصل له الأنس بالله تعالى .
ووجه ذلك أنه إذا حصلت المراقبة يحصل القرب من الرب سبحانه ، والقُرب منه جل وعلا يوجب الأنس
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
"
والقُرب يوجِبُ الأنسَ والهيبةَ والمحبةَ" . انتهى من " مدارج السالكين "(2/382) .
ويقول كذلك رحمه الله :
"
وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب ، فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى ، وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد " .
انتهى من " مدارج السالكين " (3 / 95) .
وإذا ارتقى العبد إلى تحقيق مقام المشاهدة والمعاينة لآثار أسمائه وصفاته في الكون بحيث يتنور قلبه حصل الأنس ، ووجهه أن منشأ الأنس بالله تعالى ومبدؤه التعبد بمقتضى أسمائه تعالى وصفاته بعد التفهم لمعانيها
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
"
هذا الأنس المذكور مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها ، كاسم الجميل ، والبَر ، واللطيف ، والودود ، والحليم ، والرحيم ، ونحوها "
انتهى من " مدارج السالكين " (2/419) .
وزيادة في الإيضاح نقول : أن التفهم لمعاني الأسماء والصفات يحمل العبد على معاملة ربه بالمحبة والرجاء وغيرهما من أعمال القلوب .
قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله :
"
فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من : الخوف ، والرجاء ، والمهابة ، والمحبة ، والتوكل ، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات " .
انتهى من " شجرة المعارف والأحوال " .
والعبد إذا ارتقى بالعلم النافع والعمل الصالح إلى مقام الإحسان واستقرت قدمه فيه أنس بالله تعالى والتذ بطاعته وذكره .
قال العلامة السعدي رحمه الله ، مقرِرًا ذلك في منظومته ، واصفا أهل السير إلى الله والدار الآخرة :
"
عبدوا الإلهَ على اعتقادِ حضورِهِ **** فتبوؤوا في منزلِ الإحسانِ" .
ثم قال شارحًا رحمه الله :
"
وهذه المنزلة من أعظم المنازل وأجلَّها ، ولكنها تحتاج إلى تدريج للنفوس شيئًا فشيئًا ، ولا يزال العبد يعودها نفسه حتى تنجذب إليها وتعتادها ، فيعيش العبد قرير العين بربه ، فرحًا مسرورًا بقربهِ "
ولذا فإن الأنس بالله تعالى ثمرة الطاعات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات ، كما قال ابن القيم رحمه الله" فكل طائع مستأنس ، وكل عاص مستوحش" .انتهى من " مدارج السالكين " (2/406 ) .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
"
إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة ؛ لأن المخالفة توجب الوحشة ، والموافقة مبسطة المستأنسين ، فيا لذة عيش المستأنسين ، ويا خسارة المستوحشين " انتهى من " صيد الخاطر " (ص 213 ) .
قيل للعابد الرباني وهيب بن الورد رحمه الله : " هل يجد طعم العبادة من يعصيه ؟ قال : لا ، ولا من يهم بالمعصية " .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول :
"
من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية"انتهى
ولأجل ذلك كان السلف الصالح الكرام ، والأئمة الأعلام يتشوقون إلى فعل الطاعات ، ويحرصون على تقديم القربات لرب الأرض والسماوات ، ولا يسأمون من العبادات لأنسهم برب البريات .
قال الوليد بن مسلم " رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس" .
وهذا أبو عائشة الإمام التابعي مسروق بن الأجدع كان يصلي حتى تتورم قدماه ، قالت زوجته " فربما جلستُ أبكي مما أراه يصنع بنفسه ، ولما حضرته الوفاة قال :ما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى " .

فاحرص على بلوغ منزلة الإحسان وفق العلم الأثري والهدي النبوي حتى ترزق الأنس عند الطاعات ، ولا تستوحش إذا خلوت بذكر رب الأرض والسماوات ، فليس العجب ممن لم يأنس بالله ولم يرزق التوفيق ، وإنما العجب ممن أدرك ذلك وانحرف عنه إلى بنيات الطريق انتهى جميع المادة السابقة منقولة باختصار يسير من كتاب "فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب " للشيخ محمد نصر الدين عويضة.
رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 10:35 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. تركيب: استضافة صوت مصر