#1
|
||||
|
||||
الحميد المجيد
الحميد المجيد
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( (الحَمِيدُ ): ( ((الحَمِيدُ))... هوَ الذي لهُ الحمدُ كُلُّهُ)([1]) (فالحميدُ " فَعِيلٌ " من الحمدِ، وهوَ بِمَعْنَى " مَحْمُودٍ ". وأكثرُ ما يَأْتِي " فَعِيلٌ " في أسمائِهِ تَعَالَى بِمَعْنَى " فاعِلٍ " كَسَمِيعٍ، وبَصِيرٍ، وعَلِيمٍ، وقَدِيرٍ، وعَلِيٍّ، وحَكِيمٍ، وحَلِيمٍ، وهوَ كَثِيرٌ. وكذلكَ " فَعُولٌ " كَغَفُورٍ، وشكورٍ، وصبورٍ... وأمَّا (( الحَمِيدُ )) فلم يَأْتِ إلاَّ بِمَعْنَى المحمودِ، وهوَ أَبْلَغُ من المحمودِ؛ فإنَّ " فَعِيلاً " إِذَا عُدِلَ بهِ عنْ " مفعولٍ " دَلَّ على أنَّ تلكَ الصفةَ قدْ صَارَتْ مِثْلَ السَّجِيَّةِ الغَرِيزِيَّةِ والخُلُقِ اللازمِ، كما إذا قُلْتَ: فُلانٌ ظَرِيفٌ أوْ شَرِيفٌ أوْ كريمٌ. ولهذا يكونُ هذا البناءُ غَالِباً مِنْ " فَعُلَ " بوزنِ شَرُفَ، وهذا البناءُ منْ أَبْنِيَةِ الغرائزِ والسَّجَايَا اللازمةِ كَكَبُرَ وصَغُرَ وحَسُنَ ولَطُفَ ونحوِ ذلكَ. ولهذا كانَ حَبِيبٌ أَبْلَغَ منْ مَحْبُوبٍ؛ لأنَّ المحبوبَ هوَ الذي حَصَلَتْ فيهِ الصِّفَاتُ والأفعالُ التي يُحَبُّ لأَجْلِهَا. فهوَ حَبِيبٌ في نفسِهِ وإنْ قُدِّرَ أنَّ غيرَهُ لا يُحِبُّهُ لِعَدَمِ شُعُورِهِ بِهِ أوْ لِمَانِعٍ مَنَعَهُ منْ حُبِّهِ، وَأَمَّا المحبوبُ فهوَ الذي تَعَلَّقَ بهِ حُبُّ المُحِبِّ، فَصَارَ مَحْبُوباً بِحُبِّ الغَيْرِ لهُ، وأمَّا الحبيبُ فهوَ حَبِيبٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَلَّقَ بهِ حُبُّ الغيرِ أوْ لمْ يَتَعَلَّقْ. وهكذا الحميدُ والمحمودُ. فـالحميدُ: الذي لهُ من الصِّفَاتِ وأسبابِ الحمدِ ما يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ محموداً وإنْ لم يَحْمَدْهُ غَيْرُهُ، فهوَ حَمِيدٌ في نفسِهِ، والمحمودُ مَنْ تَعَلَّقَ بهِ حمدُ الحَامِدِينَ، وهكذا المَجِيدُ والمُمَجَّدُ، والكبيرُ والمُكَبَّرُ، والعظيمُ والمُعَظَّمُ. والحَمْدُ والمَجْدُ إليهما يَرْجِعُ الكمالُ كلُّهُ؛ فإنَّ الحمدَ يَسْتَلْزِمُ الثناءَ والمَحَبَّةَ للمحمودِ، فَمَنْ أَحْبَبْتَهُ ولم تُثْنِ عَلَيْهِ، لم تَكُنْ حَامِداً لهُ، وكذا مَنْ أَثْنَيْتَ عليهِ لِغَرَضٍ ما، ولم تُحِبَّهُ لمْ تَكُنْ حَامِداً لهُ، حتَّى تَكُونَ مُثْنِياً عليهِ مُحِبًّا. وهذا الثَّنَاءُ والحُبُّ تَبَعٌ للأسبابِ المُقْتَضِيَةِ لهُ، وهوَ ما عليهِ المحمودُ منْ صفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ والإحسانِ إلى الغيرِ؛ فإنَّ هذهِ هيَ أسبابُ المَحَبَّةِ، وَكُلَّمَا كانتْ هذهِ الصِّفَاتُ أَجْمَعَ وأَكْمَلَ كانَ الحمدُ والحُبُّ أَتَمَّ وَأَعْظَمَ، واللهُ سُبْحَانَهُ لهُ الكمالُ المطلقُ الذي لا نَقْصَ فيهِ بوجهٍ ما، والإحسانُ كُلُّهُ لهُ وَمِنْهُ. فهوَ أحقُّ بكلِّ حمدٍ، وبكلِّ حُبٍّ منْ كلِّ جهةٍ؛ فهوَ أَهْلٌ أنْ يُحَبَّ لذاتِهِ ولصفاتِهِ ولأفعالِهِ ولأسمائِهِ ولإحسانِهِ ولكلِّ ما صَدَرَ منهُ سُبْحَانَهُ)([2]). (واللهُ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ الخَلْقَ بالحمدِ وخَتَمَ أمرَ هذا العالَمِ بالحَمْدِ فقالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقالَ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]. وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ بالحَمْدِ، وَشَرَعَ دِينَهُ بالحمدِ، وَأَوْجَبَ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ بالحمدِ، فَحَمْدُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ إلاَّ مَحْمُوداً. فالحمدُ سَبَبُ الخلقِ وغايتُهُ، بالحمدِ أَوْجَدَهُ، وللحمدِ وُجِدَ، فَحَمْدُهُ وَاسِعٌ لِمَا وَسِعَ عِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَقَدْ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَلَمْ يُوجِدْ شَيْئاً ولم يُقَدِّرْهُ ولم يَشْرَعْهُ إلاَّ بحمدِهِ ولحمدِهِ، وكلُّ ما خَلَقَهُ وشَرَعَهُ فهوَ مُتَضَمِّنٌ للغاياتِ الحميدةِ... ولهذا مَلأَ حَمْدُهُ سَمَاواتِهِ وَأَرْضَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا وما شاءَ منْ شيءٍ بَعْدُ مِمَّا خَلَقَهُ وَيَخْلُقُهُ بَعْدَ هذا الخلقِ، فَحَمْدُهُ مَلأَ ذلكَ كُلَّهُ. وَحَمْدُهُ تَعَالَى أَنْوَاعٌ: - حَمْدٌ على رُبُوبِيَّتِهِ. - وحَمْدٌ على تَفَرُّدِهِ بِهَا. - وَحَمْدٌ على أُلُوهِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ. - وحَمْدٌ على نِعْمَتِهِ. - وحَمْدٌ على مِنَّتِهِ. - وحَمْدٌ على حِكْمَتِهِ. - وحَمْدٌ على عَدْلِهِ في خَلْقِهِ. - وحَمْدٌ على غِنَاهُ عنْ إِيجَادِ الوَلَدِ والشَّرِيكِ والولِيِّ من الذُّلِّ. - وحَمْدٌ على كَمَالِهِ الذي لا يَلِيقُ بغيرِهِ. فهوَ محمودٌ على كلِّ حالٍ، وفي كلِّ آنٍ ونَفَسٍ، وعلى كلِّ ما فَعَلَ، وكلِّ ما شَرَعَ، وعلى كلِّ ما هوَ مُتَّصِفٌ بهِ، وعلى كلِّ ما هوَ مُنَـزَّهٌ عنهُ، وعلى كلِّ ما في الوجودِ منْ خيرٍ وشرٍّ، وَلَذَّةٍ وَأَلَمٍ، وَعَافِيَةٍ وَبَلاءٍ. فَكَمَا أَنَّ المُلْكَ كُلَّهُ لَهُ، والقدرةَ كُلَّهَا لَهُ، والعِزَّةَ كُلَّهَا لَهُ، والعلمَ كلَّهُ لهُ، والجمالَ كلَّهُ لهُ، والحمدَ كلَّهُ لهُ كما في الدعاءِ المأثورِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ المُلْكُ، وَبِيَدِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، وَأَنْتَ أَهْلٌ لأَنْ تُحْمَدَ)) ([3]). وما عَمَرَت الدنيا إلاَّ بحمدِهِ، ولا الجنَّةُ إلاَّ بحمدِهِ، ولا النارُ إلاَّ بحمدِهِ، حتَّى إنَّ أَهْلَهَا لَيَحْمَدُونَهُ، كما قالَ الحسنُ: ( لقدْ دَخَلَ أهلُ النارِ النارَ وإنَّ قُلُوبَهُم لَتَحْمَدُهُ مَا وَجَدُوا عليهِ منْ حُجَّةٍ ولا سَبِيلٍ)([4]). ([فـ]الحمدُ هوَ الأصلُ الجامعُ لذلكَ كُلِّهِ، فهوَ عقدُ نظامِ الخلقِ والأمرِ، والربُّ تَعَالَى لهُ الحمدُ كُلُّهُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ وَاعْتِبَارَاتِهِ وتَصَارِيفِهِ. فما خَلَقَ شيئاً ولا حَكَمَ بشيءٍ إلاَّ ولهُ فيهِ الحمدُ، فَوَصَلَ حمدُهُ إلى حيثُ وَصَلَ خلقُهُ وأمرُهُ, حمداً حقيقيًّا يَتَضَمَّنُ: مَحَبَّتَهُ، وَالرِّضَا بهِ، والثناءَ عليهِ، والإقرارَ بحكمتِهِ البالغةِ في كلِّ ما خَلَقَهُ وأَمَرَ بهِ)([5]). [فصلٌ: في إثباتِ الحمدِ كُلِّهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ... ]. ( الحمدُ كلُّهُ للهِ رَبِّ العالمِينَ؛ فَإِنَّهُ المحمودُ على ما خَلَقَهُ وأَمَرَ بهِ وَنَهَى عنهُ … [و] كلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الكونِ شاهدةٌ بحمدِهِ [سُبحانَهُ]، ولهذا سَبَّحَ بحمدِهِ السَّمَاواتُ السبعُ والأرضُ ومَنْ فِيهِنَّ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وكانَ في قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ الاعتدالِ من الركوعِ: " رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ". فَلَهُ سُبْحَانَهُ الحَمْدُ حَمْداً يَمْلأُ المَخْلُوقَاتِ والفضاءَ الذي بَيْنَ السماواتِ والأرضِ، وَيَمْلأُ ما يُقَدَّرُ بعدَ ذلكَ مِمَّا يَشَاءُ اللهُ أنْ يَمْلأَ بِحَمْدِهِ، وذاكَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: - أحدُهُمَا: أنْ يَمْلأَ ما يَخْلُقُهُ اللهُ بعدَ السَّمَاواتِ والأرضِ، والمَعْنَى أنَّ الحمدَ مِلْءُ ما خَلَقْتَهُ، وَمِلْءُ مَا تَخْلُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. - الثاني: أنْ يكونَ المَعْنَى: مِلْءَ ما شِئْتَ منْ شَيْءٍ [بَعْدُ] يَمْلأُهُ حَمْدُكَ، أَيْ: يُقَدَّرُ مَمْلُوءاً بِحَمْدِكَ وإنْ لمْ يكُنْ مَوْجُوداً. ولكنْ قدْ يُقَالُ: المَعْنَى الأوَّلُ أَقْوَى؛ لأنَّ قولَهُ: ((مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) يَقْتَضِي أنَّهُ شَيْءٌ يَشَاؤُهُ، وما شاءَ كانَ، والمشيئةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِهِ لا بمُجَرَّدِ ملءِ الحمدِ لهُ. فَتَأَمَّلْهُ. لكنَّهُ إذا شاءَ كَوْنَهُ فَلَهُ الحمدُ مِلأَهُ، فالمشيئةُ راجعةٌ إلى المملوءِ بالحمدِ، فلا بُدَّ أنْ يَكُونَ شَيْئاً مَوْجُوداً يَمْلؤُهُ حَمْدُهُ. وأيضاً: فإنَّ قولَهُ: ((مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) يَقْتَضِي أنَّهُ شيءٌ يَشَاؤُهُ سبحانَهُ بعدَ هذهِ المخلوقاتِ، كما يَخْلُقُهُ بعدَ ذلكَ منْ مخلوقاتِهِ من القيامةِ وما بعدَهَا. ولوْ أُرِيدَ تَقْدِيرُ خَلْقِهِ لَقِيلَ: وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ مَعَ ذلكَ؛ لأنَّ المُقَدَّرَ يكونُ معَ المُحَقَّقِ. وأيضاً: فإنَّهُ لمْ يَقُلْ: مِلْءَ ما شِئْتَ أَنْ يَمْلأَهُ الحمدُ، بلْ قالَ: ما شِئْتَ، والعبدُ قدْ حَمِدَ حَمْداً أَخْبَرَ بهِ، وإنَّ ثَنَاءَهُ وَوَصْفَهُ بِأَنَّهُ يَمْلأُ مَا خَلَقَهُ الربُّ سُبْحَانَهُ وَمَا يَشَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ. وأيضاً: فقولُهُ: ((وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) يَقْتَضِي إِثْبَاتَ مَشِيئَةٍ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذلكَ. وعلى الوجهِ الثاني قدْ تَتَعَلَّقُ المشيئةُ بملءِ المُقَدَّرِ، وقدْ لا تَتَعَلَّقُ. وأيضاً: فإذا قِيلَ: " مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ ذلِكَ " كانَ الحمدُ مَالِئاً لِمَا هوَ موجودٌ يَشَاؤُهُ الربُّ دائماً، ولا رَيْبَ أنَّ لهُ الحمدَ دَائِماً في الأُولَى والآخرةِ، وأمَّا إذا قُدِّرَ ما يَمْلَؤُهُ الحمدُ وهوَ غيرُ موجودٍ، فَالمُقَدَّرَاتُ لا حَدَّ لها، وما مِنْ شيءٍ منها إلاَّ يُمْكِنُ تقديرُ شيءٍ بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُ ما لا نهايَةَ لهُ كَتَقْدِيرِ الأعدادِ. ولوْ أُرِيدَ هذا المَعْنَى لم يَحْتَجْ إلى تعليقِهِ بالمشيئةِ، بلْ قِيلَ: " مِلْءَ مَا لا يَتَنَاهَى "، فأَمَّا ما يَشَاؤُهُ الربُّ تَعَالَى فلا يكونُ إلاَّ مَوْجُوداً مُقَدَّراً، وإنْ كانَ لا آخرَ لنوعِ الحوادثِ وبقاءِ ما يَبْقَى منها، فهذا كلُّهُ مِمَّا يَشَاؤُهُ بَعْدُ. وأيضاً: فالحمدُ هوَ الإخبارُ بِمَحَاسِنِ المحمودِ على وَجْهِ الحُبِّ لهُ، ومحاسِنُ المحمودِ تَعَالَى إمَّا قَائِمَةٌ بذاتِهِ، وإمَّا ظاهرةٌ في مخلوقاتِهِ، فأمَّا المعدومُ المَحْضُ الذي لمْ يُخْلَقْ ولا خُلِقَ قطُّ فَذَاكَ لَيْسَ فيهِ مَحَاسِنُ ولا غيرُهَا، فلا مَحَامِدَ فيهِ الْبَتَّةَ. فـ (( الحمدُ للهِ )) الذي يَمْلأُ المخلوقاتِ ما وُجِدَ منها وما يُوجَدُ، هوَ حَمْدٌ يَتَضَمَّنُ الثناءَ عليهِ بكمالِهِ القائمِ بذاتِهِ والمحاسنِ الظاهرةِ في مخلوقاتِهِ، وأمَّا ما لا وُجُودَ لهُ فلا مَحَامِدَ منهُ ولا مَذَامَّ؛ فَجَعَلَ الحمدَ مَالِئاً لِمَا لا حقيقةَ لهُ. وقد اخْتَلَفَ الناسُ في معنَى كونِ حمدِهِ يَمْلأُ السَّمَاواتِ والأرضَ وما بينَهُمَا: فقالَ طائفةٌ: هذا على جهةِ التمثيلِ: أيْ: لوْ كانَ أَجْسَاماً لَمَلأَ السَّمَاواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُمَا. قَالُوا: فإنَّ الحمدَ مِنْ قَبِيلِ المعاني والأعراضِ التي لا تُمْلأُ بها الأجسامُ، ولا تُمْلأُ الأجسامُ إلاَّ بالأجسامِ. والصوابُ أنَّهُ لا يُحْتَاجُ إلى هذا التَّكَلُّفِ الباردِ؛ فإنَّ مِلْءَ كلِّ شيءٍ يكونُ بِحَسَبِ المالِئِ وَالمَمْلُوءِ، فإذا قِيلَ: امْتَلأَ الإناءُ مَاءً، وَامْتَلأَت الجَفْنَةُ طَعَاماً؛ فهذا الامتلاءُ نوعٌ. - وإذا قِيلَ: امْتَلأَت الدارُ رِجَالاً، وَامْتَلأَت المدينةُ خَيْلاً وَرِجَالاً؛ فهذا نوعٌ آخَرُ. - وإذا قِيلَ: امْتَلأَ الكتابُ سُطُوراً؛ فهذا نوعٌ آخرُ. - وإذا قِيلَ: امْتَلأَتْ مَسَامِعُ الناسِ حَمْداً أوْ ذَمًّا لفُلانٍ؛ فهذا نوعٌ آخَرُ، كما في أَثَرٍ معروفٍ: " أَهْلُ الجنَّةِ مَن امْتَلأَتْ مَسَامِعُهُ مِنْ ثَنَاءِ الناسِ عليهِ، وأهلُ النارِ مَن امْتَلأَتْ مَسَامِعُهُ منْ ذَمِّ الناسِ لهُ " ([6]). وقالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ في عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: كُنَيَّفٌ مُلِئَ عِلْماً([7]). وَيُقَالُ: فلانٌ عِلْمُهُ قدْ مَلأَ الدنيا. وكانَ يُقَالُ: مَلأَ ابنُ أبي الدُّنْيَا الدُّنْيَا عِلْماً. وَيُقَالُ: صِيتُ فلانٍ قدْ مَلأَ الدُّنْيَا وَضَيَّقَ الآفَاقَ، وَحُبُّهُ قَدْ مَلأَ القلوبَ، وَبُغْضُ فلانٍ قدْ مَلأَ القلوبَ، وَامْتَلأَ قلبُهُ رُعْباً، وهذا أكثرُ مِنْ أَنْ تُسْتَوْعَبَ شَوَاهِدُهُ، وهوَ حَقِيقَةٌ في بابِهِ. وجَعْلُ المِلْءِ والامتلاءِ حقيقةً للأجسامِ خاصَّةً تَحَكُّمٌ باطلٌ ودَعْوَى لا دليلَ عليها الْبتَّةَ، والأصلُ الحقيقةُ الواحدةُ، والاشتراكُ المَعْنَوِيُّ هوَ الغالِبُ على اللُّغَةِ والأفهامِ والاستعمالِ، فالمصيرُ إليهِ أَوْلَى من المَجَازِ والاشتراكِ اللَّفْظِيِّ، وليسَ هذا مَوْضِعَ تَقْرِيرِ هذهِ المسْأَلَةِ... فإذا قِيلَ: " الحَمْدُ كُلُّهُ للهِ "، فهذا لهُ مَعْنَيَانِ: - أحدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُودٌ على كلِّ شيءٍ، وبكلِّ ما يُحْمَدُ بهِ المحمودُ التامُّ؛ وإنْ كانَ بَعْضُ خَلْقِهِ يُحْمَدُ أَيْضاً – كَمَا يُحْمَدُ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَأَتْبَاعُهُم – فذلكَ مِنْ حَمْدِهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، بلْ هوَ المحمودُ بالقصدِ الأوَّلِ وبالذَّاتِ، وما نَالُوهُ من الحمدِ فَإِنَّمَا نَالُوهُ بحمدِهِ، فهوَ المحمودُ أوَّلاً وَآخِراً وظاهِراً وباطِناً. وهذا كَمَا أنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ، وقدْ عَلَّمَ غَيْرَهُ منْ عِلْمِهِ ما لمْ يكُنْ يَعْلَمُهُ بدونِ تعليمِهِ، وفي الدعاءِ المأثورِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ المُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ؛ أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ)). ([8]) وهوَ سبحانَهُ لهُ المُلْكُ، وقدْ آتَى مِنْ مُلْكِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ، ولهُ الحمدُ، وقدْ آتَى غَيْرَهُ من الحمدِ ما شَاءَ، وكما أنَّ مُلْكَ المخلوقِ دَاخِلٌ في مُلكِهِ، فحمدُهُ أيضاً داخلٌ في حمدِهِ، فما مِنْ محمودٍ يُحْمَدُ على شيءٍ مِمَّا دَقَّ أوْ جَلَّ إلاَّ واللهُ المحمودُ عليهِ بالذَّاتِ والأَوَّلِيَّةِ والأَوْلَوِيَّةِ أيضاً، وإذا قالَ الحامدُ: " اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ " فالمرادُ بهِ أَنْتَ المُسْتَحِقُّ لكلِّ حمدٍ، ليسَ المرادُ بهِ الحمدَ الخارجيَّ فَقَطْ. - المعنَى الثانِي: أنْ يُقالَ: " لكَ الحمدُ كلُّهُ "؛ أي: الحَمْدُ التامُّ الكاملُ، فهذا مُخْتَصٌّ باللهِ عزَّ وجلَّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فيهِ شَرِكةٌ. والتحقيقُ أنَّ لهُ الحمدَ بالمَعْنَيَيْنِ جَمِيعاً، فَلَهُ عُمُومُ الحمدِ وَكَمَالُهُ، وهذا مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ؛ فهوَ المحمودُ على كلِّ حالٍ وعلى كلِّ شيءٍ أَكْمَلَ حَمْدٍ وَأَعْظَمَهُ، كما أنَّ لهُ المُلْكَ التامَّ العامَّ، فَلا يَمْلُكُ كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ هوَ، وليسَ الملكُ التامُّ الكاملُ إلاَّ لهُ. وَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم يُثْبِتُونَ لهُ كمالَ المُلْكِ وكمالَ الحمدِ، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّهُ خَالِقُ كلِّ شيءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، لا يَخْرُجُ عنْ خَلْقِهِ وقُدْرتِهِ ومشيئتِهِ شيءٌ الْبتَّةَ، فلهُ المُلْكُ كُلُّهُ)([9]). (وهوَ الحميدُ فكلُّ حَمْدٍ واقِعٌ = أوْ كانَ مَفْرُوضاً مَدَى الأزمانِ مَلأَ الوجودَ جميعَهُ ونظيرَهُ = من غيرِ ما عَدٍّ ولا حُسْبَانِ هوَ أَهْلُهُ سبحانَهُ وبحمدِهِ = كلُّ المحامدِ وَصْفُ ذي الإحسانِ)([10]) [فصلٌ]: ومِنْ تمامِ حمدِهِ تَسْبِيحُهُ وَتَنْـزِيهُهُ عَمَّا وَصَفَهُ بهِ أَعْدَاؤُهُ والجاهلونَ بهِ مِمَّا لا يَلِيقُ بهِ، ((فَكَمَالُ حَمْدِهِ يُوجِبُ أَنْ لا يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَرٌّ ولا سُوءٌ ولا نَقْصٌ لا في أسمائِهِ ولا في أفعالِهِ ولا في صفاتِهِ))([11]). وكانَ في تَنَوُّعِ تَنْـزِيهِهِ عنْ ذلكَ من العلومِ والمعارفِ وتقريرِ صفاتِ الكمالِ وتكميلِ أنواعِ الحمدِ ما في بيانِ مَحَاسِنِ الشيءِ وكمالِهِ عندَ معرفةِ ما يُضَادُّهُ وَيُخَالِفُهُ، ولهذا كانَ تَسْبِيحُهُ تَعَالَى منْ تَمَامِ حَمْدِهِ، وَحَمْدُهُ منْ تمامِ تَسْبِيحِهِ، ولهذا كانَ التسبيحُ والتحميدُ قُرْبَتَيْنِ؛ فكانَ ما نَسَبَهُ إليهِ أعداؤُهُ والمُعَطِّلُونَ لصفاتِ كمالِهِ منْ عُلُوِّهِ على خلقِهِ وإنزالِهِ كلامَهُ الذي تَكَلَّمَ بهِ على رُسُلِهِ وغيرِ ذلكَ منْ صفاتِ كمالِهِ مُوجِباً لِتَنْـزِيهِ رُسُلِهِ لهُ وَتَسْبِيحِهِم عنْ ذلكَ مِمَّا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ وَسَبَّحَ بهِ نفسَهُ، فكانَ في ذلكَ ظهورُ حمدِهِ بِخَلْقِهِ، وَتَنَوُّعُ أَسْبَابِهِ، وَكَثْرَةُ شَوَاهِدِهِ، وَسَعَةُ طُرُقِ الثناءِ عليهِ بهِ، وتقريرُ عَظَمَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ في قلوبِ عبادِهِ، فَلَوْلا مَعْرِفَةُ الأسبابِ التي يُسَبَّحُ وَيُنَـزَّهُ وَيُتَعَالَى عنها وخَلْقُ مَنْ يُضِيفُهَا إليهِ ويَصِفُهُ بها؛ لَمَا قَامَتْ حَقِيقَةُ التسبيحِ، ولا ظَهَرَ لقلوبِ أهلِ الإيمانِ عنْ أيِّ شيءٍ يُسَبِّحُونَهُ وَعَمَّاذا يُنَـزِّهُونَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا في خَلْقِهِ مَنْ قدْ نَسَبَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بهِ، وَجَحَدَ مِنْ كَمَالِهِ ما هوَ أَوْلَى بهِ سَبَّحُوهُ حينئذٍ تَسْبِيحَ مُجِلٍّ لهُ مُعَظِّمٍ لهُ مُنَزِّهٍ لهُ عنْ أمرٍ قدْ نَسَبَهُ إليهِ أعداؤُهُ والمُعَطِّلُونَ لصفاتِهِ. ونظيرُ هذا اشتمالُ كلمةِ الإسلامِ وهيَ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ على النَّفْيِ والإثباتِ، فكانَ في الإتيانِ بالنَّفْيِ في صَدْرِ هذهِ الكلمةِ منْ تقريرِ الإثباتِ وتحقيقِ معنَى الإِلهيَّةِ وَتَجْرِيدِ التوحيدِ الذي يُقْصَدُ بِنَفْيِ الإِلهيَّةِ عنْ كلِّ ما ادُّعِيَتْ فيهِ سِوَى الإِلَهِ الحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَتَجْرِيدُ هذا التوحيدِ من العقدِ واللسانِ بتَصَوُّرِ إثباتِ الإِلهيَّةِ لغيرِ اللهِ - كما قَالَهُ أعداؤُهُ المشركونَ - وَنَفْيُهُ وإبطالُهُ من القلبِ واللسانِ منْ تمامِ التوحيدِ وكمالِهِ وتقريرِهِ وظهورِ أعلامِهِ ووضوحِ شواهدِهِ، وصِدْقِ براهينِهِ)([12]). ). [المرتبع الأسنى: ؟؟] ([1]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/66). ([2]) جلاءُ الأفهامِ (164-165). ([3]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 142. ([4]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/213-214). ([5]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/ 191). (6) أخرَجَهُ ابنُ المبارَكِ في الزُّهدِ (1/154)، وابنُ أبي عاصمٍ في الزهدِ (1/13) بلفظٍ مُقاربٍ من حديثِ أبي الجَوْزَاءِ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجنةِ وأَهْلِ النارِ؛ أَهْلُ الجَنَّةِ مَن مُلِئَتْ مَسامِعُهُ مِنَ الثَّنَاءِ الحَسَنِ وَهُوَ يَسْمَعُ، وأَهْلُ النَّارِ مَنْ مُلِئَتْ مَسَامِعُهُ مِنَ الثَّنَاءِ السَّيِّئِ وَهُوَ يَسْمَعُ". وهو مُرْسَلٌ. وقد رُوِيَ نحوُهُ بأسانيدَ مُختلفةٍ: - فرُوِيَ من طريقِ سُليمانَ بنِ المغيرةِ، عن ثابتٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ، رضيَ اللهُ عنه، مرفوعًا. رواهُ عن سُليمانَ: 1- أبو الظَّفَرِ عَبْدُ السلامِ بنُ مُطَهَّرٍ: كما عند البُخَارِيِّ في التاريخِ الكبيرِ (2/93)، والضِّياءِ المَقْدِسِيِّ في المختارةِ (5/101) 2- وعَلِيُّ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ: كما عند الضياءِ المَقْدِسِيِّ في المُختارةِ (5/100). - ورُوِيَ من طريق حمادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أبي الصِّدِّيقِ الناجِي مُرسَلاً، كما عند البُخَارِيِّ في التاريخِ الكبيرِ (2/93)، وابنِ الجَعْدِ في مُسنَدِه (1/483). - ورُوِيَ من طريقِ حمادِ بنِ سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ مُسنَدًا: رواه آدَمُ بنُ أَبِي إياسٍ، كما عند البيهقيِّ في الزُّهْدِ الكَبِيرِ (2/306)، والضياءِ المَقْدِسِيِّ في المُختارَةِ (5/101 ). قال ابنُ أبِي حاتِمٍ في العللِ (2/232): (سألتُ أبي، وأبا زُرْعَةَ عن حديثٍ رَواهُ أبو الظُّفْرِ عن سُلَيْمَانَ بنِ المغيرةِ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، قيلَ له: مَنْ أَهْلُ الجنَّةِ؟ مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قالَ: ((مَنْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَمْلأَ مَسَامِعَهُ مِمَّا يُحِبُّ))، فقالاَ: هذا عندنا خطأٌ، رواه حمادُ بنُ سلَمَةَ عن ثابتٍ عن أبي الصِّدِّيقِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مُرسلاً، وهو الصحيحُ. قال أبو زُرْعَةَ: فمنهم مَن يُحَدِّثُ عن سُليمانَ، عن ثابتٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مُرسلاً. والوهَمُ من أبي الظُّفْرِ، سمعتُ أبي قالَ: قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: أعلَمُ الناسِ بحديثِ ثابتٍ، وعليِّ بنِ يَزِيدَ، وحُمَيْدٍ، حمادُ بنُ سَلَمَةَ). قال الحافظُ المَقْدِسِيُّ: إسنادُهُ صحيحٌ، وتَعَقَّبَ تَوهِيمَ أبي زُرْعَةَ لأبي الظَّفَرِ مُحتجًّا بروايةِ عليِّ بنِ عبدِ الحَمِيدِ، وآدمَ بنِ أَبِي إِياسٍ. (7) أخرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ في الكبيرِ (8477)، وأبو نُعَيْمٍ في الحِِلْيَةِ (9735) عن زَيْدِ بنِ وَهْبٍ، قالَ: أَقْبَلَ عبدُ اللهِ ذاتَ يومٍ وعُمَرُ جالِسٌ، فقالَ: كُنَيِّفٌ مُلِئَ عِلْمًا. قال في مَجْمَعِ الزَّوائِدِ (9/291): ورجالُه رجالُ الصحيحِ. ([8]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 142. ([9]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (117-120). وقال –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى– في طريقِ الهجرتينِ (122 – 123): (فصلٌ: في بيانِ أن حَمْدَهُ تعالَى شاملٌ لِكُلِّ ما يُحْدِثُهُ. والمقصودُ بيانُ شُمولِ حَمْدِه تعالَى وحِكْمَتِه لكلِّ ما يُحدِثُه من إحسانٍ ونِعمةٍ وامتحانٍ وبَلِيَّةٍ، وما يَقضيهِ مِن طاعةٍ ومعصيةٍ، أنه سُبحانَهُ محمودٌ على ذلكَ مشكورٌ حَمْدَ المدحِ وحمدَ الشُّكْرِ، أما حَمْدُ المدحِ فإنه محمودٌ على كلِّ ما خلقَ إذ هو ربُّ العالمينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأما حَمْدُ الشكرِ فلأنَّ ذلك كُلَّهُ نِعمةٌ في حقِّ المؤمنِ إذا اقترنَ بواجبهِ من الإحسانِ، والنِّعمةُ إذا اقترنَتْ بالشُّكرِ صارَت نِعمةً، والامتحانُ والبَلِيَّةُ إذا اقترَنَا بالصبرِ كانا نِعمةً، والطاعةُ من أَجَلِّ نِعَمِهِ. وأما المعصيةُ فإذا اقترَنَتْ بواجِبِها، من التوبةِ والاستغفارِ والإنابةِ والذُّلِّ والخُضوعِ فقد تَرَتَّبَ عليها من الآثارِ المَحمودةِ والغاياتِ المطلوبةِ ما هو نِعمةٌ أيضًا، وإن كان سَبَبُها مسخوطًا مَبْغُوضًا للربِّ تعالَى، ولكنه يُحِبُّ ما يَتَرَتَّبُ عليها من التوبةِ والاستغفارِ، وهو سبحانَهُ أَفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِه مِنَ الرجلِ إذا ضَلَّ رَاحِلَتَهُ بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ عَلَيْهَا طَعامُهُ وشَرابُهُ فأَيِسَ منها ومنَ الحياةِ، فنامَ، ثم استيقَظَ، فإذا بها قد تَعَلَّقَ خِطامُها في أصلِ شجرةٍ فجاءَ حتى أَخَذَها، فاللهُ أفرَحُ بتوبةِ العبدِ حينَ يَتُوبُ إليه من هذا براحلَتِه. فهذا الفرَحُ العظيمُ الذي لا يُشبِهُه شيءٌ أَحَبُّ إليه سبحانَهُ من عَدَمِه، وله أسبابٌ ولوازمُ لا بُدَّ منها، وما يَحصُلُ بتقديرِ عَدَمِه مِنَ الطاعاتِ وإن كان محبوبًا له، فهذا الفَرَحُ أَحَبُّ إليه بكثيرٍ، ووجودُهُ بدونِ لازِمِه مُمتنِعٌ، فله من الحكمةِ في تقديرِ أسبابِه ومُوجِباتِه حكمةٌ بالغةٌ ونِعمةٌ سابغةٌ؛ هذا بالإضافةِ إلى الربِّ جلَّ جلالُه. وأما بالإضافةِ إلى العبدِ فإنه قد يكونُ كمالُ عُبودِيَّتِه وخضوعِه موقوفًا على أسبابٍ لا تَحْصُلُ بدونِه، فتقديرُ الذنبِ عليه، إذا اتَّصَلَ به التوبةُ والإنابةُ والخضوعُ والذلُّ والانكسارُ ودوامُ الافتقارِ كانَ من النِّعَمِ باعتبارِ غايَتِه وما يَعْقُبُه، وإن كان من الابتلاءِ والامتحانِ باعتبارِ صُورَتِهِ ونَفْسِه. والربُّ تَعالَى مَحمودٌ على الأَمْرَيْنِ: فإنِ اتَّصَلَ بالذنبِ الآثارُ المحبوبةُ للربِّ سبحانَهُ من التوبةِ والإنابةِ والذُّلِّ والانكسارِ فهو عَيْنُ مصلحةِ العبدِ، والاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البدايةِ، وإن لم يتصلْ به ذلك، فهذا لا يكونُ إلا من خُبثِ نَفْسِه وشرِّه وعدمِ استعدادِه لمُجاوَرَةِ ربِّه بينَ الأرواحِ الزكيَّةِ الطاهرةِ في الملأِ الأعلَى). - وقال أيضًا في طريقِ الهجرتينِ) (97): (وهو محمودٌ على جميعِ ما في الكونِ من خيرٍ وشرٍّ حمدًا استحَقَّهُ لذاتِه وصَدَرَ عنه خَلْقُه وأَمْرُه فمَصْدَرُ ذلك كُلِّهِ عن الحكمةِ، فإنكارُ الحكمةِ إنكارٌ لحَمْدِه في الحقيقةِ، واللهُ أَعْلَمُ). - وقال أيضًا في طريقِ الهجرتينِ (116): (وأنه سُبحانَهُ المحمودُ على خَلْقِهِ وأَمْرِه وأنَّ له الحِكمةَ البَالِغَةَ والنِّعْمَةَ السَّابِغَةَ). ([10]) القصيدةُ النُّونيَّةُ (241). ([11]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/66). ([12]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (148-149). جمهرة شرح أسماء الله الحسنى = هنا =
__________________
|
|
|