#1
|
||||
|
||||
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن لعلم أصول الفقه أهمية بالغة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة في الشرع، وعن طريقه يتمكن الفقيه من الوصول للحكم بسهولة ويُسر، ويتمكن من معرفة الراجح من المرجوح من أقوال الفقهاء، وتمييز الأقوال الصحيحة من السقيمة، وكان أصول الفقه - ولا زال - وسيلة للدفاع عن الدِّين. وفائدة أصول الفقه لا تقتصر على استنباط الأحكام الفقهية وحسب، بل تتعدى إلى جميع الأحكام الشرعية؛ فلا يستغني عن أصول الفقه فقيه، ولا مفسِّر، ولا محدِّث، ولا شارح للعقيدة؛ فهو علم لتفسير النصوص، والترجيح بين الأقوال، وبه يفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك، التعمق في أصول الفقه، وتطبيق الأصول على الفروع، ينمي الملكة الفقهية، والقدرة على الاستنباط، ومع كثرة التطبيقات على مباحث الأصول تزداد الملَكة، وكفى بهذه فائدة! وسوف نتناول في هذا البحث عشرين تطبيقًا على قاعدة: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وقاعدة: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، أحد مباحث أصول الفقه؛ أملاً في تنمية الملكة الفقهية لدى القارئ، ولزيادة قدرته على الاستنباط بكثرة الأمثلة والتطبيقات، وفي مقالات لاحقة - بإذن الله - سنتناول تطبيقات على مباحث أخرى، والله ولي التوفيق.. ربيع أحمد. قبل الشروع في ذكر الأمثلة على قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب" لا بد أن نلقي الضوء قليلاً عليها، ومعنى: العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ أي: إذا ورد لفظ عام وسبب خاص، فإنه يحمل على العموم، ولا يختص بالسبب؛ فكل عامٍّ ورَد لسبب خاص - من سؤال أو حادثة - فإنه يُعمَل بعمومه، ولا عبرة بخصوص سببه؛ لأن الشريعة عامة، فلو قصر الحكم فيها على السبب الخاص، لكان ذلك قصورًا في الشريعة، فما الفائدة أن ينزل الحكم لهذا السبب دون غيره؟! والشريعة معروف أنها لكل العالَمين، وما دامت الشريعة عامة، فلا يُعقَل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين، وإنما يكون الأصل عموم أحكامها، إلا ما دلَّ دليل على خصوصيته، فإنه يقصر على ما جاء خاصًّا فيه. قال الشيخ عبدالوهاب خلاف: إذا ورد النص الشرعي بصيغة عامة، وجب العمل بعمومه الذي دلت عليه صيغته، ولا اعتبار لخصوص السبب الذي ورد الحكم بناءً عليه، سواءٌ كان السبب سؤالاً أم واقعة حدثت؛ لأن الواجب على الناس اتباعُه، هو ما ورد به نص الشارع، وقد ورد نص الشارع بصيغة العموم، فيجب العمل بعمومه، ولا يعتبر خصوصيات السؤال أو الواقعة التي ورد النص بناءً عليها؛ لأن عدول الشارع في نص جوابه أو فتواه عن الخصوصيات إلى التعبير بصيغة العموم، قرينةٌ على عدم اعتباره تلك الخصوصيات[1]. التطبيقات: مثال 1: قوله تعالى" الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ "المجادلة: 2؛ فاللفظ عام، وسببها خاص؛ فسبب نزولها: ظِهار أوس بن الصامت من زوجته، وقد كان في الجاهلية إذا غضب رجل من زوجته وأراد أن يطلقها قال لها"أنتِ عليَّ كظهر أمي"، وهذا ما يعرف بالظِّهار، فغضب ذات يوم منها زوجها أوس بن الصامت، فظاهَرها، وكانت أول حادثة ظهار في الإسلام، فذهبت خولةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ظِهار زوجها، وأنه لم يذكر طلاقًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"ما أراك إلا قد حرُمْتِ عليه"، فأخذت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تبارك وتعالى قوله" قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ "المجادلة: 12]، فلا نقول: إن آيات الظهار نزلت لحل مشكلة هذا الرجل فقط، بل حكمها عام؛ لأن لفظها عام، و(العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب). مثال 2: قوله تعالى" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "البقرة: 174، يعني: اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك؛ لئلا تذهب رئاستهم، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتُّحَف على تعظيمهم إياهم، فخشُوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النَّزْر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة [3]. والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، لكنها عامة في حق كل مَن كتم شيئًا من باب الدِّين[4]. مثال 3: قوله تعالى" وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ "النحل: 126، الآية نزلت بالمدينة في شهداء أُحد؛ وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد؛ من تبقير البطون، والمُثْلة السيئة، حتى لم يبقَ أحَد من قتلى المسلمين إلا مُثِّل به، غير حنظلة بن الراهب، فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهَرَنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم، ولنُمثِّلنَّ بهم مُثلةً لم يفعلها أحَد من العرب بأحَد[5]. والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ فالآية الكريمة وإن نزلت في شهداء أُحد، لكنها عامة فيمن أراد القِصاص؛ فالقِصاص بالمِثل ولا زيادة، والتجاوز عن القِصاص بالمِثل، والعفو خير وأبقى. مثال 4: قوله تعالى" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ "النور: 6، نزل في هلال بن أمية لَمَّا قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَريك بن سَحْماء، وقد رجع إلى بيته فوجد امرأته ومعها رجل في البيت، فلم يتعرَّض لهما، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم"البينة، وإلا حدٌّ في ظهرك"؛ أي: إما أن تأتي ببينة على ما تقول، أو يقام عليك الحد، والبينة؛ أي: ائتِ بأربعة شهود يشهدون لك على ذلك، وإلا يقام عليك الحد، فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، وليُنزلن الله في أمري ما يبرِّئ ظهري؛ فنزلت الآية[6]. والآية وإن نزلت بشأن قذف هلال بن أمية لامرأته، إلا أنها عامة في الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يكن لهم شهداءُ يشهدون لهم بصحة ما قذَفوهن به من الفاحشة، فعلى كلٍّ منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنا، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به[7]. مثال 5: قوله تعالى" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "المائدة: 38، نزلت الآية في قطع يدِ سارقِ رداءِ صفوان بن أمية؛ حيث جاء صفوان بن أمية إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجُل سرق رداءه من تحت رأسه وهو نائم، فلم ينكِرْ ذلك الرجل، فأمَر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله، لم أُرِدْ هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"فهلاَّ قبل أن تأتيَني به"[8]، وقيل: نزلت الآية في طُعمةَ بن أُبَيْرق سارقِ الدرع[9]. وسواءٌ أكانت الآية نزلت في سارق رداء صفوان أو سارق الدرع، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، والآية تعُم كل من سرق أن تقطع يده. مثال 6: قوله تعالى" فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ "البقرة: 196، نزل بشأن كعب بن عُجْرة - رضي الله عنه - لما كانت تؤذيه هوامُّ رأسه؛ فعن عبدالله بن معقل، قال "جلست إلى كعب بن عجرة - رضي الله عنه - فسألتُه عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة؛ حُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقَمْلُ يتناثر على وجهي، فقال"ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجَهد بلغ بك ما أرى؛ تجد شاة؟"، فقلت: لا، فقال"فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع"[10]. والآية وإن نزلت بشأن كعب بن عجرة، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، والآية تعم كل مَن كان مريضًا أو به أذًى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه، أو لُبس ثوب، أو تغطية رأس؛ فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية، وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين؛ لكل مسكين: حفنتان من طعام، أو ذبح شاة[11]. مثال 7: قوله تعالى" يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "النساء: 176؛ أي: إن هلك امرؤ، ذكرًا كان أو أنثى، وليس له والد ولا ولد، وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك، وهو يرثها أيضًا إن لم يكن لها والد ولا ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء؛ أي: ذكورًا وإناثًا، فللذَّكر مِثل حظ الأنثيين[12]. وهذه الآية نزلت في جابر بن عبدالله[13]؛ فلم يكن له ولد ولا والد، وأبوه قد قُتل يوم أحد؛ عن ابن المنكدر، سمع جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - يقول: مرضتُ مرضًا، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعُودني، وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صب وَضوءَه علي، فأفقتُ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يُجِبْني بشيء، حتى نزلت آية الميراث[14]. والآية وإن نزلت بشأن جابر بن عبدالله، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ فالآية تعُم مَن مات وليس له والد ولا ولد وهي الكلالة " وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ "النساء: 176؛ أي: وله أخت شقيقة أو أخت لأب، فلها نصفُ ما ترك أخوها، " وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ "النساء: 176؛ أي: وأخوها الشقيق أو لأب يرِث جميع ما ترَكَت إن لم يكن لها ولد، " فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ "النساء: 176؛ أي: إن كانت الأختان اثنتين فأكثر، فلهما الثلثان مما ترك أخوهما، " وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ "النساء: 176؛ أي: وإن كان الورثةُ مختلطين؛ إخوة وأخوات، فللذكر منهم مثل نصيب الأختين[15]. مثال 8: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: يا أيها المؤمنون إذا شارَف أحدكم على الموت، وظهرت علائمه، فينبغي أن يشهد على وصيته: ﴿ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: يشهد على الوصية شخصان عدلان من المسلمين، أو اثنان من غير المسلمين إن لم تجدوا شاهدين منكم ﴿ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: إن أنتم ضربتم في الأرض فقاربكم الأجل، ونزل بكم الموت، ﴿ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: تُوقفونهما من بعد صلاة العصر؛ لأنه وقت اجتماع الناس، وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحلف عديًّا وتميمًا بعد العصر عند المنبر، ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: يحلفان بالله إن شككتم وارتبتم في شهادتهما؛ قال أبو السعود: أي: إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانة وأخذِ شيء من التركة، فاحبسوهما، وحلِّفوهما بالله ﴿ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: يحلفان بالله قائلين: لا نُحابِي بشهادتنا أحدًا، ولا نستبدل بالقسَم بالله عرَضًا من الدنيا؛ أي: لا نحلف بالله كاذبين من أجل المال، ولو كان مَن نقسم له قريبًا لنا، ﴿ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ﴾ [المائدة: 106]؛ أي: ولا نكتم الشَّهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها، إنا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين[16]. والآية نزلت في تميم الداري وعدي بن بداء؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رجلٌ من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوصًا من ذهب، "فأحلَفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم وجد الجامَ بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلانِ من أوليائه، فحلَفا لشَهادتنا أحقُّ من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ [المائدة: 106][17]. والآية وإن نزلت في تميم الداري وعدي بن بداء، فهي عامة من جهة اللفظ، فحينما يظهر على أحدٍ علامة الموت، ويريد أن يوصي بشيء، فالشهادة على الوصية أن يشهد اثنانِ عادلان من الأقارب، أو آخران من غير المسلمين إذا كنتم في سفر، وظهرت أمارات الموت. مثال 9: قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، نزل في اليهود؛ فعن البراء بن عازب، قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال"هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟"، قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال"أنشُدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم"، قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبِرْك، نجده الرجم، ولكنه كثُر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه"، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ "المائدة: 41 إلى قوله" إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ "المائدة: 41، يقول: ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [المائدة: 45]، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47] في الكفار كلها[18]. والآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، فهي عامة في كل مَن فعل فِعلهم؛ فالحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ وفِسق وظلم. مثال 10: قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، نزلت في العُرَنِيين؛ سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إسلامهم، وحاربوا الله ورسوله، فكان جزاؤهم أن لهم خزيًا في الدنيا - وهو ما نفذ فيهم من التقطيع والتقتيل - ولهم في الآخرة عذاب عظيم؛ بسبب أنهم قتلوا وهم مرتدون[19]. وعن أنس بن مالك: "أن قومًا من عكل - أو قال: من عرينة - قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحُّوا، قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النَّعَم، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خبرُهم من أول النهار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمَر بهم، فقُطِّعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يُسقَوْن"، قال أبو قلابة: "فهؤلاء قوم سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله"[20]. والآية وإن نزلت في العرنيين من حيث السبب، فهي عامة من حيث اللفظ؛ فكل من يفعل نحو ما فعلوا - كقطاع الطريق ونحوهم، الذين يعرضون للناس في القرى والمدن، فيغصبون الأموال، ويقتلون الرجال، ويخيفون الناس - فهؤلاء يستحقون القتل، أو الصلب، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو النفي. مثال 11: قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175، 176] تحكي الآيات قصةَ رجل آتاه الله العلمَ والآيات البينات، وكان حقه أن يتولاه الله ويزيده هدًى لو عمِل بموجب ذلك العلم؛ كما قال: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ [المائدة: 16]. لكنه انسلخ من العمل بموجب تلك الآيات، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فتخلى الله عنه، وتسلَّط عليه الشيطان فكان من الغاوين؛ ففيه أكبر الدلالة على أن اتباع الهوى ثغرة في القلب يتسلل منها المفسدون. وهو مَثَلٌ مضروب لكل من تعلم العلم ووعاه، لكنه لم ينتفع به، ولم يعمل بموجبه، بل أخلد إلى متاع من متاع الدنيا، وسار خلف شهواته، وما تهواه نفسه، دون ما يُرضي ربه، فهو ملازم لغيِّه وضلاله حال جهله، وحال تعلُّمه، لم ينتفع بالعلم فيترك الغي؛ فهو في ذلك أشبه بالكلب الذي لا ينتفع بالراحة، فيترك اللهث؛ فهو ملازم للهث حال راحته وحال تعبه، أعاذنا الله من الخِذلان، وأسباب الضلال والحرمان[21]. وهذه الآيات وإن كانت نزلت في رجل من بني إسرائيل، اسمه: بلعام بن باعوراء، إلا أنها تعم كل من لم يعمل بما علم. مثال 12: عن أبي هريرة، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو الطَّهُور ماؤُه، الحِلُّ مَيْتته))[22]، فلا عبرة بكون السؤال ورَد في حالة خاصة، وهي التوضؤ بماء البحر؛ فالعبرة بعموم اللفظ: ((الطهور ماؤه))، لا بخصوص سببه، وهو التوضؤ بماء البحر. مثال 13: عن ابن مسعود: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وجدت امرأة في البستان، فأصبتُ منها كل شيء، غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114][23]، فهذا دليل على أن كل السيئات هذه تغفر بالصلاة، وليس الحكم خاصًّا بهذا الرجل فقط؛ فاللفظ قد جاء عامًّا. مثال 14: عن أبي سعيد، قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((الماء طَهور لا ينجِّسه شيء))[24]؛ فالماء طَهور لا ينجسه شيء لا يختص ببئر بضاعة فقط، رغم أن السؤال كان عن بئر بضاعة. مثال 15: عن جابر، قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هاتان ابنتا سعد، قُتل أبوهما معك يوم أُحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدَعْ لهما شيئًا من ماله، ولا ينكحان إلا بمال، فقال"يقضي الله في ذلك"، فنزلت آية المواريث، فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمهما، فقال"أعطِ ابنتَيْ سعد الثلثين، وأعطِ أمهما الثُّمُن، وما بقي فهو لك"[25]، فلا عبرة بكون الحكم ورد بخصوص توريث ابنتي سعد. مثال 16: جاء ناسٌ من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة، فأبطؤوا عنه، حتى رُئِي ذلك في وجهه، قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بُصرَّة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرِف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من سنَّ في الإسلام سنَّة حسنة، فعُمل بها بعده، كتب له مثل أجر مَن عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعُمل بها بعده، كتب عليه مثلُ وِزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء"26]. فهذا الحديث ورد في مناسبة معينة، ولكن لفظه عام، فهنا العبرة بعموم اللفظ؛ أي: إنه يشمل كل مَن دعا إلى سنة حسنة بفعله أو قوله، وليست العبرة بخصوص السبب في حق هذا الأنصاري الذي بدأ بالصدقة. مثال 17: عن أبي بَكْرةَ، قال: لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن فارسًا ملَّكوا ابنة كسرى، قال: ((لن يفلحَ قوم ولَّوا أمرهم امرأةً))[27]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قاله حينما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، فإن الحديث لفظه عام؛ أي: لا يجوز للمرأة أن تتولى الولايات العامة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولَّوا أمرهم امرأة)) يدل على أن مناط عدم الفلاح هو الأنوثة، وفي ذلك دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها؛ لأن تجنُّب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب، وهو نصٌّ في منع المرأة من تولِّي أيٍّ من الولايات العامة، وكونها رئيسة أو وزيرة أو قاضية كلها من الولايات العامة، والحديث وإن كان ورد بشأن تولية بوران ملك الفُرس، إلا أنه أتى بصيغة من صيغ العموم؛ أي: تدل على جميع الأفراد بدون حصر الأفراد بعدد معين، وهي لفظ (قوم)، فتدل على كل قوم ولَّوا أمرهم أي امرأة، ولفظ امرأة أيضًا عام؛ لأنه نكرة في سياق النفي؛ أي: أيُّ امرأة ملكت أمر قومها فلن يفلحوا؛ لأن (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب). مثال 18: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله))، فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى، فغدَوْا كلهم يرجوه، فقال: ((أين علي؟))، فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرَأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((انفُذْ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله لأن يهديَ الله بك رجلاً، خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم))[28]، الشاهد: قول النبي: ((والله لأن يهدي الله بك رجلاً، خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم))، قاله لعلي - رضي الله عنه - عندما بعثه لخيبر؛ فالحديث إن كان موجهًا لعلي - رضي الله عنه - من ناحية السبب، لكنه عام من جهة المعنى؛ فعلى جميع الغزاة أن يتريَّثوا ولا يعاجلوا بالقتال، وأن يجتهدوا بالدعوة بالموعظة الحسنة، فلعل الناس تترك القتال ويدخلون في الإسلام، وإن كان الحديث في شأن هداية الكفار من جهة السبب، لكنه عام من جهة اللفظ، فيشمل هداية الكفار والمسلمين. مثال 19: عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أُبْدِعَ بي، فاحملني، فقال: ((ما عندي))، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على مَن يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير، فله مِثل أجر فاعله))[29]، الشاهد: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير، فله مثل أجر فاعله)) بشأن هذا الصحابي الذي دل رجلاً على مَن يعطيه راحلة تحمله، و(العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب)؛ فألفاظ الحديث عامة؛ فكل من أرشد إلى خير، فله مثل أجر مَن فعله. مثال 20: عن أبي هريرة قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جُنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيتُ الرَّحْل، فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هِرٍّ؟"، فقلت له، فقال "سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس"[30]. الشاهد: قول النبي صلى الله عليه وسلم بشأن فعل أبي هريرة"المؤمن لا ينجس"، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب؛ فألفاظ الحديث عامة؛ فأي مسلمٍ طاهرٌ ليس بنجس. تنبيه: ليس معنى أن "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب" أن نتغافل عن السبب؛ فصورة السبب قطعية الدخول، وما عداها فدخوله ظني، بمعنى أن سبب نزول الآية وسبب ورود الحديث لا يكون خاصًّا فيمن نزلت فيه الآية، أو ورد الحديث بسببه، وإنما يكون عامًّا شاملاً لغيره؛ فالعامُّ يشمل جميع أفراده وصوره، وصورة السبب التي نزلت الآية من أجلها قطعية الدخول. مثال: المرأة التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها، قطعية الدخول في آية الظِّهار في سورة المجادلة، وظهار غيرهما ظنيُّ الدخول في الآية؛ لاحتمال ألا يراد بالعموم جميع أفراده، لكن الحكم يشملها؛ لأن (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب). والسبب سببان: سبب جاء بسبب شخص أو سؤال شخص، والثاني سبب لحالة أو وصف، فما كان بسبب سؤال أو بسبب شخص، فالشريعة لا تتعلق بأشخاص؛ فتكون العبرة بعموم اللفظ، أما إن كان اللفظ العام هذا جاء بسبب حالة أو بسبب وصف معين، فإنها لا تعمم، بل تبقى على هذه الحالة فقط؛ أي: عامةً في هذه الحالة دون غيرها؛ أي: مخصوصة بهذه الحالة، ويقاس عليها مثل هذه الحالة. وإذا دل الدليل على تخصيص العام بما يشبه حال الذي ورد من أجله الحكم، فإنه يختص بما يشبه هذا الحال، يعني: إذا ورد لفظ عام على سبب، وكان هذا السبب على حال تقتضي صدور هذا الحكم، أو صدور هذا النص، وجب أن يخص عمومه بما يشبه تلك الحال؛ مثال ذلك: عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يظلل عليه، والزحام عليه، فقال: ((ليس من البر الصيام في السفر))[31]، هنا الحالة: الصيام في السفر، ووصف الحالة: أن الرجل سيهلِك وهو يظللون عليه لما حصل له من مشقة شديدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"ليس من البر الصيام في السفر"، واللفظ عام، يعني: أي صيام في السفر لا يكون برًّا، إذًا كل صيام - سواء كان نفلاً أو فرضًا، ما دام في السفر - فهو ليس من البر، سواء مستطيع أو غير مستطيع، أيضًا ليس من البر. وهذا اللفظ العام بسبب وصف حالة هذه الحالة، أن رجلاً ظلل عليه، وكاد يموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"ليس من البر الصيام في السفر"، فهنا لا أقول: العبرة بعموم اللفظ، أقول هنا: القرينة تثبت أنه مخصص بهذه الحالة، يعني: كأني أقول: التقدير: ليس من البر أن يصوم الرجل الذي يشق عليه الصيام في السفر؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر أحيانًا، فدلَّ على أن المقصود بالحديث ما يشبه حال الرجل ممن يشق عليه الصيام في السفر، إذًا يتقيد الحديث بالحال التي ورد من أجلها الحديث، لا بالشخص الذي ورد من أجله الحديث. هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. [1] علم أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف ص 189. [2] رواه أحمد في مسنده حديث رقم 27319، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم 15245، وابن حبان في صحيحه حديث رقم 4279. [3] تفسير ابن كثير 1/ 352. [4] اللباب في علوم الكتاب 3/ 187. [5] تفسير البغوي 3/ 103. [6] رواه البخاري في صحيحه رقم 4747، وسنن ابن ماجه حديث رقم 2067، والترمذي في سننه 3179. [7] تفسير المراغي 18/ 76. [8] رواه ابن ماجه في سننه، وصححه الألباني رقم الحديث 2595، ورواه أحمد في مسنده حديث رقم 27637، ورواه الطبراني في المعجم الكبير حديث رقم 7326. [9] أسباب النزول للواحدي ص 195. [10] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 1816. [11] أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري 1/ 177. [12] أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري 1/ 584. [13] أسباب النزول للواحدي ص 188، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر 2/ 843. [14] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5651، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1616. [15] صفوة التفاسير للصابوني ص 297. [16] صفوة التفاسير للصابوني ص 342. [17] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2780. [18] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1700، والنسائي في السنن الكبرى 7180، والبيهقي في السنن الكبرى 17118. [19] الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم لأحمد بن عبدالعزيز ص 133. [20] رواه أبو داود في سننه، وصححه الألباني، حديث رقم 4364. [21] أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة 1/ 390. [22] صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود رقم 83. [23] صحيح؛ إرواء الغليل للألباني رقم 2353. [24] صححه الألباني في إرواء الغليل رقم 14. [25] حسنه الألباني في إرواء الغليل رقم 1677. [26] الحديث رواه مسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي. [27] رواه البخاري، باب المغازي، رقم الحديث 7099، والإمام مسلم باب جهاد رقم 103، ورواه الترمذي في سننه 8/ 30 باب الفتن، والنسائي في سننه باب القضاء 8، وابن ماجه في سننه رقم الحديث 23. [28] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 3009، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2406. [29] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1893. [30] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 285، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 371. [31] صححه الألباني في إرواء الغليل رقم 2407.الألوكة .
__________________
|
|
|