10-22-2023, 01:06 AM
|
|
غفر الله لها
|
|
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,266
|
|
من آية 256إلى آية 260. "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "256.
لَمَّا اشتملتْ آيةُ الكُرسيِّ السَّابقة على دلائل الوَحدانيَّة، وعظمة الخالق، وتنزيهه عن شوائبِ ما كَفرتْ به الأمم، كان ذلك من شأنه أنْ يسوق ذوي العقول إلى قَبُول هذا الدِّين الواضِح العقيدة، المستقيم الشَّريعة، باختيارهم دون جَبْرٍ ولا إكراه، ومِن شأنه أن يَجعلَ دوامَهم على الشِّرك بمَحَلِّ السُّؤال: أيُتركَون عليه، أم يُكرَهون على الإسلام؟ فكانت الجملة استئنافًا بيانيًّا .
معنى استئنافًا بيانيًّا :الاستئناف في عمومه ابتداءُ جملةٍ - في أثناء الكلامِ – منفصلةٍ إعرابًا عمَّا قبلها، فإن اتصلت معنًى بما قبلها بتقدير جوابٍ لسؤال مقدر كانت استئنافًا بيانيًّا، وإن انفصلت عمَّا قبلها معنًى وإعرابًا كانت استئنافًا نحويًّا.د. أحمد البحبح/أستاذ النحو والصرف المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة عدن.
"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ:الإكراه معناه: حمل الغير على قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك. والمراد بالدين دين الإسلام والألف واللام فيه للعهد. والرُّشْدُ: الهداية والاستقامة على طريق الحق.والمراد هنا: الحق والهدى.والْغَيِّ ضد الرُّشْدُ.
أي: لا ينبغي أن تُرغِموا أحدًا على اعتناق الدِّين الإسلامي؛ إذ لا حاجةَ لذلك؛ فهو أمرٌ واضحٌ وجَلِيٌّ، قدْ تَميَّز من الضَّلال، وتبيَّنت أدلَّته، وظهرتْ حقائقه، فلا خفاءَ فيه ولا غموض، فمَن هداه الله تعالى له، وشرَح صدرَه، دخَل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبَه، فإنَّه لا يُفيده الدخولُ فيه مُكرَهًا عليه.
والمقصودُ: أنَّ دِين الإسلام من حيث هو، واضحةٌ فيه معالمُ الحقِّ، ويتمايَز بجلاء عمَّا سواه من الباطل، ممَّا يُوجِب اعتناقَه مِن قِبَل كلِّ مُنصِفٍ مُرادُه اقتفاءُ الحقِّ.
فالجملة الأولى وهي قوله-تبارك وتعالى" لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ" تنفي الإجبار على الدخول في الدين، لأن هذا الإجبار لا فائدة من ورائه، إذ التدين إذعان قلبي، واتجاه بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين بإرادة حُرة مختارة فإذا أُكره عليه الإنسان إزداد كرهًا له ونفورًا منه.
فالإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر. والجهاد ما شرع في الإسلام لإجبار الناس على الدخول في الإسلام إذ لا إسلام مع إجبار، وإنما شُرع الجهاد لدفع الظلم ورد العدوان وإعلاء كلمة الله، والرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قاتل العرب ليكرههم على الدخول في الإسلام وإنما قاتلهم لأنهم بدءوه بالعداوة.
والجملة الثانية وهي قوله-تبارك وتعالى" قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" بمثابة العلة لنفي هذا الإكراه على الدخول في الدين، أي قد ظهر الصبح لذي عينين، وانكشف الحق من الباطل، والهدى من الضلال وقامت الأدلة الساطعة على أن دين الإسلام هو الدين الحق وغيره من الأديان ضلال وكفران ومادام الأمر كذلك فقد توافرت الأسباب التي تدعو إلى الدخول في دين الإسلام، ومن كفر به بعد ذلك فليحتمل نتيجة كفره، وسوء عاقبة أمره.
فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ:
الطَّاغوت: هو كلُّ ما تَجاوَز به العبدُ حدَّه، من معبود، أو متبوع، أو مُطاع. إنَّ مَن جحَد ربوبيَّة الطَّاغوت وأُلوهيَّته المزعومتين، فتبرَّأ منه ومن عبادته وطاعته وآمَن بالله تعالى وحده وجودًا ورُبوبيَّةً وأُلوهيَّةً، وبما له من أسماء حسنى، وصفات عُلا، فعبَده وقَبِل خبرَه، وأذْعن لطلبه واتَّقاه، ممتَثِلًا أمره ومجتنبًا نهيه، فإنَّه قد تَمسَّك تمسُّكًا شديدًا بأقوى رِباط، وأَحْكمِ أمر، وهو دِينُ الله تعالى الحقُّ المبرَم، وهو أَوثَق ما يُتمسَّك به لطلب العِصمة والنَّجاة، فيبقى ثابتًا على الحقِّ، مستقيمًا عليه، دون أن يَخشى انقطاعًا وانفكاكًا بخِذلان الله تعالى له وإسلامه إلى التَّهلُكة.
بِالْعُرْوَةِ : والعروة: في أصل معناها تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي من الجهة التي يجب تعليقه منها، وتجمع على عرى.
والعروة من الدلو والكوز مقبضه، ومن الثوب مدخل زره.
استعارة تمثيلية حيث شبه المستمسك بدين الإِسلام بالمستمسك بالحبل المحكم.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :لَمَّا كان الكُفْر بالطَّاغوت، والإيمانُ بالله تعالى مُتعلِّقًا بالنُّطق باللِّسان، واعتقاد القلب،ناسب ذلك هذان الاسمان لله تعالى. قال تعالى"وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"أي: إنَّ الله تعالى يسمعُ كلَّ شيء، ومنه سَماعُه إعلان من أعلن الكفرَ بالطاغوتِ، والإيمانَ باللهِ، وإعلان من أعلن خلافَ ذلك، ويعلمُ أيضًا كلَّ شيء سبحانه، ومن ذلك علمه بما في صدور خلقه مِن الإيمانِ والكفرِ؛ فيُجازي كلَّ واحدٍ منهم بحسب ما يَنطِق به لسانه، وما تُضمِره نَفْسه؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر .موسوعة التفسير بالدرر السنية.
"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"257.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
أنَّ قولَهُ تعالى: اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا...... الآية وقع موقِعَ التعليلِ لقوله: لَا انْفِصَامَ لَهَا؛ لأنَّ الذين كفروا بالطَّاغوت وآمَنوا بالله، قد تَولَّوُا اللهَ فصار وَلِيَّهم؛ فبذلك يَستمرُّ تَمسُّكهم بالعُروة الوُثقى، ويأمَنون انفصامَها، وبعكسهم الذين اختاروا الكُفْرَ على الإسلام، فإنَّ اختيارَهم ذلك دلَّ على خَتْمٍ ضُرِبَ على قلوبهم، فلم يهتدوا، فهم يَزدادون في الضَّلال يومًا فيومًا.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ: أي: مَن آمَن بالله حقًّا، فإنَّه جلَّ وعلا يتولَّاه على الدوام، فيكون عونًا له ونصيرًا، ويؤيِّده ويوفِّقه، ويمكِّنه من التوغُّل شيئًا فشيئًا في طريق اليقين الأوحد، فيَخرُج من ظلمات الضَّلال، ويَخترِق حُجُبَ الشُّبهات والشَّهوات المظلِمة، فيَنكشِف له نورُ الإيمان واليقين، ويُؤتَى نَفاذَ البصيرةِ، ويتجدَّد له السموُّ في مقامات الإيمان، والصُّعود في درجات اليقين، فيُبصِر قلبُه حقائقَ الأمور أكثرَ فأكثر. قال تعالى" وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ "محمد: 17.
مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ: أفرد النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد لا يتعدد وأما طرق الضلال فكثيرة ومتشعبة.صفوة التفاسير.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ:وفي التعبير "بأصحاب النار" إشعار بأنهم ملازمون لها كما يلازم المالك ما يملكه والرفيق رفيقه.
وقولههُمْ فِيها خالِدُونَ تأكيد لبقائهم فيها واختصاصهم بها.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ساقت أحسن البشارات للمؤمنين، وأشد العقوبات للكافرين الذين استحبوا العمى على الهدى.
ثم ساق القرآن بعد ذلك بعض الأمثلة للمؤمنين المهتدين وللضالين المغرورين.فقال-تبارك وتعالى:
" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" 258.
حَاجَّ أى جادل وخاصم وتستعمل المحاجة كثيرا في المخاصمة بالباطل. - أي: إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك، وما حمله على ذلك إلا أن آتاه الله الملك فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله، والاستفهام للتعجب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره والمراد به- كما قال ابن كثير- نمرود بن كنعان بن كوس بن سام ابن نوح ملك بابل، وكان معاصرًا لسيدنا إبراهيم- عليه السلام-
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ: وقوله: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذلك الملك في مقام التدليل على وحدانية الله وأنه- سبحانه - هو المستحق للعبادة أي قال له: ربي وحده هو الذي ينشئ الحياة ويوجدها، ويميت الأرواح ويفقدها حياتها، ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك. أي: هو المنفرد بأنواع التصرف، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة.
ثم حكى القرآن جواب نمرود على إبراهيم فقال: قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أي قال ذلك الطاغية: إذا كنت يا إبراهيم تدعي أن ربك وحده الذي يحيي ويميت فأنا أعارضك في ذلك لأني أنا- أيضا أحيي وأميت وما دام الأمر كذلك فأنا مستحق للربوبية.
قالوا: ويقصد بقوله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُهذا أنه يستطيع أن يعفو عمن حكم بقتله، ويقتل من شاء أن يقتله.
ولقد كان في استطاعة إبراهيم- عليه السلام- أن يبطل قوله، بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الأحياء والإماتة المقصودين بالاحتجاج، لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت، كان في استطاعة الخليل- عليه السلام- أن يفعل ذلك، ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة، وأتاه بحجة هي غاية في الإفحام فقال له- كما حكى القرآن: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ.
أى قال إبراهيم لخصمه المغرور: لقد زعمت أنك تملك الإحياء والإماتة كما يملك الله-تبارك وتعالى- ذلك، ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركا لله-تبارك وتعالى- في قدرته فإن كان ذلك صحيحا فأنت ترى وغيرك يرى أن الله-تبارك وتعالى- يأتي بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأئت بها أنت من جهة المغرب في هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذفها إبراهيم- عليه السلام- في وجه خصمه؟ كانت نتيجتها- كما حكى القرآن-فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي: غلب وقهر، وتحير وانقطع عن حجاجه، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم، لأنه فوجئ بما لا يملك دفعه.وعبر عن هذا المبهوت بقوله: الَّذِي كَفَرَللإشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده.
ثم ختم- سبحانه - الآية بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَأي لا يهديهم إلى طريق الحق.ولا يلهمهم حجة ولا برهانا.بسبب ظلمهم وطغيانهم وإيثارهم طريق الشيطان على طريق الرحمن. أي: إنَّ الله تعالى لا يُوفِّق أهلَ الباطلِ الذين ظلموا أنفسَهم بإيثارهم الكُفْرَ على الإيمان، بل يُبقِيهم على كُفْرهم وضَلالهم، ولو كان قَصْدهم الهدايةَ إلى الحقِّ، لوفَّقهم ويسَّر لهم الوصولَ إليه، فحُجَجهم باطِلة، لا يُمكِن أنْ يُبطِلوا بها حُججَ أهلِ الحقِّ عند المحاجَّة والمُناظَرة
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لونا من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكي يكون في ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون.
ثم ساقت السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله-تبارك وتعالى- وعلى صحة البعث والنشور .
" أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 259.
هذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء،
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا: قال الآلوسي ما ملخصه: قوله:أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ معطوف على سابقه- وهو قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ والكاف اسمية بمعنى مثل . أي أو أرأيت مثل الذي مر على قرية.. وحذف لدلالة أَلَمْ تَرَ عليه. والذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قيل هو عزيز بن شرخيا، وقيل حزقيال بن بوزى وقيل غير ذلك، والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان قد خربها «بختنصر» البابلي.. والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لأنه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن.
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا:ومعنى وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أن جدرانها ساقطة على سقوفها، أى أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها، فأصبحت خالية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو.يقال خوت الدار وخربت تخوى خواء إذا سقطت وخلت.
والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش، وكل شيء يهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش وعرش. والمعنى: أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حيطانها على سقوفها، وفارغة ممن كان يسكنها، فهاله أمرها، وراعه شأنها، وقال على سبيل التعجب كيف يحيى الله هذه القرية بعد موتها، بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب، ويجعلها عامرة بسكانها الذين خلت منهم.
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ: ألبثه الله-تبارك وتعالى- في الموت مائة عام ثُمَّ بَعَثَهُأي أحياه ببعث روحه إلى بدنه قالَ كَمْ لَبِثْتَ أي كم مدة من الزمان لبثتها على هذه الحال؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.قال هذا استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته.
قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ : أي: ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يومًا أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام ثم أرشده- سبحانه - إلى التأمل في أمور فيها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال- سبحانه : فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ:
قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون . ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا.
وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ :وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله لموته ومرور مائة عام عليه.
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ : أي بموتك ثم بعثك بعد مائة عام هذا آية للناس على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم، لتكون أنموذجا محسوسًا مُشاهدًا بالأبصار، فيعلموا بذلك صحة ما أَخبرتْ به الرسلُ.
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا:
وقوله: نُنْشِزُها : أي: نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه.
والمعنى: قال الله-تبارك وتعالى- لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك ، سنريك آياتنا في نفسك وطعامك وشرابك، ولنجعلك آية للناس. فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته. وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة. ثم أحياه الله بأن ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائما من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقا وجلدًا بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : فلما تبين له كيفية الإحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم أن الله على كل شيء قدير.
تلك هي القصة الأولى التي ساقها الله- تعالى كدليل على قدرته وعلى صحة البعث والنشور.
أما القصة الثانية التي تؤكد هذا المعنى فقد حكاها القرآن في قوله:
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" 260.
قول إبراهيم عليه السلام رَبِّ تصريح بكمال أدبه مع خالقه ويعترف له بالربوبية الحقة، والألوهية التامة، ويلتمس منه معرفة كيفية إحياء الموتى، فهو لا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث- وحاشاه أن يفعل ذلك- فهو رسول من أولى العزم من الرسل، وقد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانًا ليحصل له مرتبة عين اليقين . فهو يريد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، ومن مرتبة البرهان إلى مرتبة العيان، فإن العيان يغرس في القلب أسمى وأقوى ألوان المعرفة والاطمئنان.
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي : أي: فقال الله تعالى لخليله عليه السَّلام: أَوَلستَ قد آمنتَ؟ يعني: أنَّه ما دُمتَ قد آمَنتَ فلِمَ تَطلُبُ هذه الرؤيةَ؟ فأجاب نبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّه مؤمن، لا يَعْتري إيمانَه أدنى شكٍّ، ولكنَّه لفَرْط محبَّته للوصولِ إلى مرتبةِ المُعايَنة، رامَ الترقِّي من درجة عِلْم اليقين إلى عَين اليقين، حتى يزدادَ إيمانًا، ويزدادَ قلبُه طُمأنينةً.
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا :أي: أجاب اللهُ تعالى طلبَه، فأَمَر إبراهيمَ عليه السَّلام أنْ يأخذ أربعةَ طيور، وأنْ يَذبَحهنَّ ويُقطِّعهنَّ؛ ليكون ذلك بمرأًى منه، ولِيَتِمَّ الأمرُ على يديه .ثم أَمَره اللهُ تعالى بتفريق أعضاء الطُّيور الأربعة التي قطَّعهنَّ، وقام بتَنْحِيتهنَّ عنه، بتَبدِيدهنَّ أجزاءً على رؤوس عدَّة جبالٍ؛ لتكون ظاهرةً للعِيان، وأَمَره أنْ يدعوهنَّ، ليُقبِلنَ عليه مُسرِعات، ففعل إبراهيمُ عليه السَّلام ذلك، وجئنَ طائراتٍ على أكمل ما يكون من الحياة.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: أي: اعْلَم يا إبراهيمُ، أنَّ الذي فعَل ذلك له كمالُ العِزَّة، فلا يَغلِبه شيءٌ، ولا يَستعصي عليه شيٌء أراده، وأنَّ أفعاله وأقواله وأقداره وشرائعه كلَّها صادرةٌ عن كمال حِكْمته؛ فيَضَع كلَّ شيء في مُوضِعه الصَّحيح، ولا يَفعل- أبدًا- شيئًا عبثًا. موسوعة التفسير.الدرر السنية.
|