#1
|
||||
|
||||
الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة
الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة
يقول أبو المُظَفَّر السمْعَاني فيما حكاه عنه ابن حجر العسقلاني"سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب".انتهى . ويقول الطحاوي رحمه الله تعالى: وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى" لا يُسْأَلُ عَما يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ " الأنبياء: 23 . وقال الآجُرِّيُّ: (لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر، لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق). وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "من السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث، ولم يبلغه عقله، فقد كفى ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق، وما كان مثله في القدر".انتهى . وقال علي بن المديني مثل قول الإمام أحمد في القدر. وهذا الذي قرره أهل العلم في القدر يضع لنا عدَّة قواعد في غاية الأهمية: الأولى: وجوب الإيمان بالقدر. الثانية: الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة، وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس. فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال، والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا فمنهم من كذَّب بالقدر، ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يُلزم القول بالجبر، ومنهم من ناقض الشرع بالقدر، وكل انحراف من هذه الانحرافات سبب مشكلات في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم، فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة. الثالثة: ترك التعمق في البحث في القدر، فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها، وبعضها الآخر لا يستوعبها إلا بصعوبة كبيرة. قد يقال: أليس في هذا المنهج حجر عل العقل الإنساني؟ والجواب أن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني، بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدد قواه في غير المجال الذي تحسن التفكير فيه، إنه صيانة للعقل الإنساني من العمل في غير المجال الذي يحسنه ويبدع فيه. إن الإسلام وضع بين يدي الإنسان معالم الإيمان بالقدر، فالإيمان بالقدر يقوم على أن الله علم كلَّ ما هو كائن وكتبه وشاءَه وخلقه، واستيعاب العقل الإنساني لهذه الحقائق سهل ميسور، ليس فيه صعوبة، ولا غموض وتعقيد. أما البحث في سر القدر والغوص في أعماقه فإنه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها، إنّ البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق، بحث في كيفية صفات الله، وكيف تعمل هذه الصفات، وهذا أمر محجوب علمه عن البشر، وهو غيب يجب الإيمان به، ولا يجوز السؤال عن كنهه، والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه، يقال له: هذه الصفات التي يقوم عليها القدر معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة. إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وأظهر أن الإيمان به صعب المنال، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين. ولذا فقد نصَّ جمع من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر، وقد سقنا قريبًا مقالة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى التي يقول فيها"من السَّنة اللازمة الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف ؟". لقد خاض الباحثون في القدر في كيفية خلق الله لأفعال العباد مع كون هذه الأفعال صادرة عن الإنسان حقيقة، وبحثوا عن كيفية علم الله بما العباد عاملون، وكيف يكلف عباده بالعمل مع أنه يعلم ما سيعملون، ويعلم مصيرهم إلى الجنة أو النار. وضرب الباحثون في هذا كتاب الله بعضه ببعض، وتاهوا وحاروا ولم يصلوا إلى شاطئ السلامة، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من أن تسلك هذا المسار وتضرب في هذه البيداء. ففي سنن الترمذي؛ بإسناد حسن عن أبي هريرة قال"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" __________
__________________
|
|
|