العودة   ملتقى نسائم العلم > ملتقى القرآن والتفسير > ملتقى القرآن والتفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-09-2021, 06:54 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
Arrow



من آية 26 إلى 34

ـ قال جل وعلا " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ"26 البقرة .
لمَّا ضَرَبَ اللهُ تَعَالى الأَمْثَالَ السَّابِقَةَ – في الربع الأول- للنَّاسِ قَالَ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ اللهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هذِهِ الأَمثالَ.في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة.وَ "مَا" هَاهُنَا لِلتَّقْلِيلِ
يقول تعالى" إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا" أي: أيَّ مثل كان لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق. هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ للدنيا؛ إذ الْبَعُوضَةُ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا سَمِنَتْ مَاتَتْ ، وَكَذَلِكَ مَثَلُ هَؤُلَاءِالْقَوْمِ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ، إِذَا امْتَلَؤُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَلَا "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ"الأنعام:44.
قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ، يَعْنِي قَوْلَهُ"مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا"الْبَقَرَةِ: 17.وَقَوْلُهُ "أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ" الْبَقَرَةِ: 18، قَالَ الْمُنَافِقُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ، فكأن في هذا, جوابًا لمن أنكر ضَرْب مثل هذه الأمثال ، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر.
"إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها" أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شيء جليلًا كان أو حقيرًا، وذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثّل له، فالعظيم يمثّل له بالعظيم، والحقير يمثل له بالحقير،
"فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.
"وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا" الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحُجَّة وحصحص الحقُّ، ويقولون ماذا أراد الله بهذه الأمثال الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا "وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا". الكهف 54.
ثم أجاب عن سؤالهم بقوله:
"يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا" أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.
ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال"وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ" العنكبوت : 43.والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.
وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قالتعالى "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ" سبأ: 13.إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعًا وأجَلّ فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين.
إن الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإن قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا
ثم أكمل الجواب وزاد في البيان فقال:
"وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ" إِلَّا: أداة حصر "الْفاسِقِينَ" مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء.نيابة عن الفتحةِ لأنه جمع مذكر سالم.فسقوا ، فأضلهم الله على فسقهم.فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ عَنْ قِشْرِهَا : اِنْفَصَلَتْ عَنْهُ. فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش ، والمراد من الآية الفاسق الكافر.
أي وما يضلّ بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها.
وفي هذا إيماء إلى أن علّة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن طاعة الله ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثَلِ به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه.
ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال:

"الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" سبأ : 27.

"الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ" وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين الله ، والذي بينهم وبين عبادِه الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامرَهُ ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.
"وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ" وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره-التعزير: النصرة مع التعظيم.- والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها.
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.
فـ"فَأُولَئِكَ "أي: من هذه صفته"هُمُ الْخَاسِرُونَ "في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ "فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه. أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح.
والخسار مراتب متعددة متفاوتة:
قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "28" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"29.
وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمَثَلِ بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجاء به على طريق هذا استفهام بمعنى الإنكار والتوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة.، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله،الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم،ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه
"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"29.
وخلق لهم ما في الأرض جميعًا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
"وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ"30.

هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.يخلف الجن الذين كانوا خلقوا قبل البشر.
" خَلِيفَةً "أي : قوما يَخْلُفُ بعضُهم بعضًا قرنًا بعد قرنٍ وجيلًا بعد جيلٍ ، كما قال تعالى " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ" الأنعام: 165.
" قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيهابالمعاصي . ويسفك الدماء بغير حق أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فَهُم ما كانوا يعلمون الغيب.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا "قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ"أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ،لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياتُه للخلقِ, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كَمُنَ في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوَّهُ مِن ولِّيهِ, وحِزْبَه مِن حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حِكَم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.
" وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ"31.
ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله, وكمال حكمة الله وعلمه فـ " عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " أي: أسماء الأشياء, وما هو مسمى بها، فعلَّمَه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ والمعاني, حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة.
"ثُمَّ عَرَضَهُمْ " أي: عرض المسميات " عَلَى الْمَلَائِكَةِ " امتحانا لهم, هل يعرفونها أم لا؟.
" فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا الخليفة.
"قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"32.
" قَالُوا سُبْحَانَكَ " أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك, ومخالفة أمرك. " لَا عِلْمَ لَنَا " بوجه من الوجوه " إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا " إياه, فضلا منك وجودا، " إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقَرُّوا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.
"قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ"33.
فحينئذ قال الله" يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ " أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة؛ فعجزوا عنها، " فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ" تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، " قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى، " وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ " أي: تظهرون " وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ "

"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"34.
ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود، " إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى " امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال" أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا "الإسراء:61. وهذا الإباء منه والاستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره.
وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا، وتنبيههم على ما لم يعلموه.
وفيه فضيلة العلم من وجوه:
منها: أن الله تعرف لملائكته؛ بعلمه وحكمته ، ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم؛ وأنه أفضل صفة تكون في العبد، ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له؛ لما بان فضل علمه، ومنها: أن الامتحان للغير؛ إذا عجزوا عما امتحنوا به؛ ثم عرفه صاحب الفضيلة؛ فهو أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل آدم؛ وأفضال الله عليه؛ وعداوة إبليس له؛ إلى غير ذلك من العبر.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-12-2021, 01:40 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
افتراضي

من آية 35 إلى 39
"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" 35،36 .
لما خلق الله آدم وفضله، أتم نعمته عليه، بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها، ويستأنس بها، وأمرهما بسكنى الجنة، والأكل منها رغدا، أي: واسعًا هنيئًا، "حَيْثُ شِئْتُمَا" أي: من أصناف الثمار والفواكه، وقال الله له"إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَاوَلَا تَضْحَى"طه : 118.أي لا تصيبك الشمس بحرها.فضمن له استمرار الطعام والشراب، والكِسوة، والماء، وعدم التعب والنصب."وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ"نوع من أنواع شجر الجنة، الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء أو لحكمة غير معلومة لنا"فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ"دل على أن النهي للتحريم، لأنه رتب عليه الظلم.

"فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا "
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه، حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه " وَقَاسَمَهُمَا"الأعراف:21. أقسم لهما باللّه " إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ" الأعراف:21.أي: من جملة الناصحين حيث قلت لكما ما قلت، فاغترا بذلك، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل. فاغترا به وأطاعاه، فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأُهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.

"وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ"

الهبوط قد يكون من مكان أعلى إلى مكان أسفل. وقد يكون الهبوط معنويا. بأن تقول هذا الإنسان هبط في نظري منذ فعل كذا. هو لم يهبط من مكان أعلى إلى مكان أسفل،ولكنه هبط في قيمته. وسواء كان الهبوط ماديا أو معنويا. فإنه حدث ليباشر آدم مهمته على الأرض.. والعداوة بين الإيمان والكفر مستمرة.
وهكذا بعد معصية آدم. هبط هو وحواء من الجنة ليمارسا حياتهما على الأرض.. وقوله تعالى "اهْبِطُوا"معناه أن آدم وحواء وإبليس هبطوا إلى الأرض بعد أن تمت التجربة الإيمانية.

أي: آدم وذريته، أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو، يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق، وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ "فاطر: 6.ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال"وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ " أي: مسكن وقرار، "وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة، مؤقتة عارضة، ليست مسكنًا حقيقيًا، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، ولا تعمر للاستقرار.
وبهذا حذر الله آدم وذريته من أن يتخذوا من الحياة هدفًا لأن متاعها قليل، وأمدها قصير.
"فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"37.
أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه .أي أخذها آدم بالقبول والعمل بها حين علمها.
وهذه الكلمات هي" قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"الأعراف : 23 .
فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته. "فَتَابَ عَلَيْهِ"أي أذن الله له في التوبة ووفقه لها ليتوب ويرجع إليه.

قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا ـ فقيل معنى: ثم تاب عليهم ـ أي وفقهم للتوبة ليتوبوا، وقيل: المعنى تاب عليهم، أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا.
فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى، توبة قبلها وهي أن يوفقه للتوبة ويمن عليه بها، وهذه تعرف بحصولها ووقوعها من العبد، فإذا ألهم الله العبد التوبة فقد تاب عليه أولا، فإذا تاب العبد أتبع ذلك توبة أخرى من الله عليه يمن ويتفضل بها وهي قبوله لتلك التوبة وعفوه عن الزلة وإقالته العثرة، يقول ابن القيم رحمه الله: وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة، قال تعالى" وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "التوبة:118ـ فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا ومقتضيًا لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم والحكم ينتفي لانتفاء علته، وهذا القدر من سر اسميه الأول والآخر، فهو المعد وهو الممد ومنه السبب والمسبب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: وأعوذ بك منك، والعبد تواب والله تواب فتوبة العبد: رجوعه إلى سيده بعد الإباق، وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق، وقبول وإمداد. انتهى.إسلام ويب.

وقال الشيخ العثيمين في دليل التوبتين:
فقوله تعالى"ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى"لِيَتُوبُواْ"أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى"وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" الشورى:25. الإسلام سؤال وجواب.
وقال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية:
هذا بيان لكمال كرم الله تعالى وسعة جوده وتمام لطفه، بقبول التوبة الصادرة من عباده حين يقلعون عن ذنوبهم ويندمون عليها، ويعزمون على أن لا يعاودوها، إذا قصدوا بذلك وجه ربهم، فإن الله يقبلها بعد ما انعقدت سببا للهلاك، ووقوع العقوبات الدنيوية والدينية.
" وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ " ويمحوها، ويمحو أثرها من العيوب، وما اقتضته من العقوبات، ويعود التائب عنده كريمًا، كأنه ما عمل سوءًا قط، ويحبه ويوفقه لما يقربه إليه.
ولما كانت التوبة من الأعمال العظيمة، التي قد تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصة عند نقصهما، وقد تكون فاسدة إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله"
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ".ا.هـ .

"إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
التَّوَّابُ :فالتواب في حق الله تعالى هو الذي يتوب على عبده، أي يعود عليه بألطافه، ويوفقه إلى التوبة، وييسرها له، ثم يقبلها منه.
فهو التواب الذي ييسر أسباب التوبة لعباده مرة بعد مرة بما يظهر لهم من آياته..

الرَّحِيمُ: على وزن فعيل بمعنى فاعل، أي راحم، وبناء فعيل للمبالغة عالم وعليم، وقادر وقدير. والمعنى أنه المثيب على العمل فلا يضيع لعاملٍ عملاً، ولا يهدر لساع سعياً، وينيله بفضل رحمته من الثواب أضعاف عمله.
واقترن اسم " الرَّحِيمُ"مع " التَّوَّاب "لأن التوبة بقسميها، سواء كانت التوفيق للتوبة، أو قبولها، فإن ذلك كله من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، لأن بقاءهم على الذنب من غير توبة سبب للعقوبة.
فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة بل أمهلهم ليتمكنوا من التوبة .
قال أبو السعود في اقتران الاسمين "وفي الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران ". ومثله قال القاسمي.

"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.38""وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ"39.
"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا"كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده ، كما تقول لرجل : قم قم . وقيل: كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة ؛ وبالثاني إتيان الهدى . فكرر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله" فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى"
أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعَاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين:
فريق يهتدى بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا ، وفريق سار في طريق الضلال وكذّب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدًا. تفسير المراغي.
ما هو الخوف وما هو الحزن؟ الخوف أن تتوقع شرا مقبلا لا قدرة لك على دفعه فتخاف منه.. والحزن أن يفوتك شيء تحبه وتتمناه.
أي إن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضى ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاء عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكدّ ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا :والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد.
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: جزاؤهم الخلود في النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها اتباعا لوسوسة الشيطان، وهذا مقابل قوله قبل " فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ".
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-05-2021, 06:28 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
Post

من آية 40 إلى 44
"يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ "40"
يا بَنِي إِسْرائِيلَ :وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال أبو الفرج الجوزي.والخطاب مع فرق بني إسرائيل, الذين بالمدينة وما حولها, ويدخل فيهم من أتى من بعدهم .تفسير السعدي
وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا . يا ابن الشجاع ، بارز الأبطال ، يا ابن العالم ، اطلب العلم ، ونحو ذلك.تفسير ابن كثير.

وعندما ينادي الله تعالى قوم موسى بقوله: يا بني إسرائيل. فإنه يريد أن يذكرهم بمنزلة إسرائيل عند الله. ما واجهه من بلاء. وما تحمله في حياته. فاذكروا ما وصاكم به حين حضرته الوفاة.. واقرأ قوله تبارك وتعالى: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"البقرة: 133.
ثم يأتي بعد ذلك قول يعقوب.. واقرأ قوله تعالى"يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ"البقرة: 132.


اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ:وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه.تفسير السعدي.
وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها، ولم تعين الآية هذه النعمة- وقيل- أراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمانا طويلا. وهذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصّوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضي ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبي يرسله الله لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حُجة للإعراض عن النبي صلى الله عليه وسلم، والازدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيًّا إلا منهم.
"وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ "
العهد أمر موثق بين العبد وربه. وهو ما عهده إليهم من الإيمان به, وبرسله وإقامة شرعه.
والهدف من هذا العهد. ألا يكتموا ما ورد عن الإسلام في التوراة. وألا يخفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جاءت بها.. والله سبحانه وتعالى قد أعطى صفات رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة وفي الإنجيل.. واقرأ قوله تعالى"وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين"البقرة: 89.
"وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" المائدة:12.
"أُوفِ بِعَهْدِكُمْ" وهو المجازاة على ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار....
"وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ " ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده, وهو الرهبة منه تعالى, وخشيته وحده, فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه.
"وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ "41.
ثم أمرهم بالأمر الخاص, الذي لا يتم إيمانهم, ولا يصح إلا به فقال" وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ " وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالإيمان به, واتباعه, ويستلزم ذلك, الإيمان بمن أنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم به، فقال" أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ"أي: موافقًا له لا مخالفًا ولا مناقضًا، فأنتم أولى من آمن به وصدق به, لكونكم أهل الكتب والعلم. وأيضا فإن في قوله "مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ"إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به, عاد ذلك عليكم, بتكذيب ما معكم, لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضا, فإن في الكتب التي بأيدكم, صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به, كذبتم ببعض ما أنزل إليكم, ومن كذب ببعض ما أنزل إليه, فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول, فقد كذب الرسل جميعهم. فلما أمرهم بالإيمان به, نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال " وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" أي: بالرسول والقرآن. وفي قوله" أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ" أبلغ من قوله:ولا تكفروا به، لأنهم إذا كانوا أول كافر به, كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به, عكس ما ينبغي منهم, وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدِهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان, وهو اختيار

العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال" وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًاقَلِيلًا" وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل, التي يتوهمون انقطاعها, إن آمنوا بالله ورسوله, فاشتروها بآيات الله واستحبوها, وآثروها.

وسمى هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، ويخسر عزّ الحق، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبيّن الآيات. فمتاع الدنيا مهما كثر فهو خداع وقليل وزائل "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيل "النساء: 77. " وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُور"الحديد : 20.

"وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ "بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة. فأمرهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير. "وَإِيَّايَ" أي: لا غيري " فَاتَّقُونِ " فإنكم إذا اتقيتم الله وحده, أوجبت لكم تقواه, تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل, فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.

"وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ "42.
أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، فالنهى الأوّل عن التغيير، والنهى الثاني عن الكتمان.
بعد أن حذر الحق سبحانه وتعالى اليهود من أن يبيعوا دينهم بثمن قليل وهو المال أو النفوذ الدنيوي. قال تعالى"وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ"
في التوراة نصوص لم يحرفها اليهود.. ونصوص محرفة. فمن ما حُرِّف في التوراة كل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه.. وأنه النبي الخاتم.. حرفها اليهود.
" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ "43.
بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فأمرهم بإقامة الصلاة أي: ظاهرًا وباطنًا لتطهر نفوسهم كما أمرهم بإيتاء الزكاة التي هي مظهر شكر الله على نعمه،والزكاة فيها فيها تطهير للنفوس من أدرانها ، وتنمية للمال. سمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي.
"وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ "وعبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها. فسبحانه وتعالى يريد أن يلفتهم إلى أن صلاتهم لن تقبل منهم إلا أن يكون فيها ركوع. وصلاة اليهود ليس فيها ركوع.. وإن كان فيها سجود، فإنه سبحانه وتعالى يلفتهم إلى ضرورة وجوب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ "44.
الخطاب هنا لبني إسرائيلذاك أن اليهود كانوا يدّعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان وكانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم.
ولابد أن ننبه إلى أنه إذا كانت هذه الآيات قد نزلت في اليهود. فليس معناها أنها تنطبق عليهم وحدهم. بل هي تنطبق على أهل الكتاب جميعا وعلى أي شخص يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا. وغير المؤمنين. فالعبرة ليست بخصوص السبب. ولكن العبرة بعموم السبب.
لقد كان اليهود يبشرون بمجيء رسول جديد. ويعلنون أنهم سيؤمنون به. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن من قومهم كفروا به. لأنهم كانوا يريدون أن تكون السطوة لهم. بأن يأتي الرسول الجديد منهم. فلما جاء من العرب.. عرفوا أن سطوتهم ستزول وأن سيادتهم الاقتصادية ستنتهي. فكفروا بالرسول وبرسالته.
عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش ـ وكان من أصحاب بدر ـ وقال :كانَ لَنا جارٌ من يَهودَ في بَني عبدِ الأشهلِ قالَ : فخرجَ علَينا يومًا من بيتِهِ قبلَ مبعثِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ بيسيرٍ فوقفَ علَى مجلسِ عبدِ الأشهلِ . قالَ سلمةُ : وأَنا يومئذٍ أحدثُ مَن فيهِ سنًّا عليَّ بردةٌ مضطجعًا فيها بفناءِ أَهْلي فذَكَرَ البعثَ والقيامةَ والحسابَ والميزانَ والجنَّةَ والنَّارَ فقالَ ذلِكَ لقومٍ أَهْلِ شركٍ أصحابِ أوثانٍ لا يرَونَ أنَّ بعثًا كائنٌ بعدَ الموتِ . فقالوا لَهُ : ويحَكَ يا فلانُ ! ترَى هذا كائنًا أنَّ النَّاسَ يُبعَثونَ بعدَ موتِهِم إلى دارٍ فيها جنَّةٌ وَنارٌ يُجزَونَ فيها بأعمالِهِم ؟ قالَ : نعم والَّذي يُحلَفُ بِهِ .لودَّ أنَّ لَهُ بحظِّهِمن تلكَ النَّارِ أعظمَ تنُّورٍ في الدُّنيا يحمُّونَهُ ثمَّ يدخِلونَهُ إيَّاهُ فيطبقُ بِهِ عليهِ وأن ينجوَ من تلكَ النَّارِ غدًا. قالوا لَهُ ويحَكَ وما آيةُ ذلِكَ قالَ نبيٌّ يُبعَثُ من نحوِ هذِهِ البلادِ وأشارَ بيدِهِ نحوَ مَكَّةَ واليمنِ قالوا ومتَى تراهُ قالَ فنظرَ إليَّ وأَنا أحدثِهِم سنًّا فقالَ إن يستنفدَ هذا الغلامُ عمرَهُ يدرِكْهُ قالَ سلمةُ فواللَّهِ ما ذَهَبَ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى بعثَ اللَّهُ تعالى رسولَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ وَهوَ حيٌّ بينَ أظهرِنا فآمنَّا بِهِ وَكَفرَ بِهِ بغيًا وحسدًا فقُلنا ويلَكَ يا فلانُ ألستَ بالَّذي قلتَ لَنا فيهِ ما قلتَ قالَ بلَى وليسَ بِهِ"الراوي : سلمة بن سلامة بن وقش - المحدث : الوادعي- المصدر : صحيح دلائل النبوة .رواه أحمد . وحسنه الشيخ مقبل ـ رحمه الله ـ في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين / مجلد رقم : 5 / 407 .
يَوَدّ : أي : يَوَدُّ الذي رأى هذه النار .
بحظه : أي : بنصيبه .


"وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" والمراد من النسيان هنا الترك، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغي أن يفعله، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البرّ ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم؟ ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد.

"وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ"
ومع أنهم متأكدون من صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال كتبهم إلا أنهم لا يؤمنون. ولو كان عندهم ذرة من العقل لآمنوا بما يأمرهم به كتابهم الذي يتلونه. ولكنهم لا يحكمون عقولهم، وإنما يريدون علوا في الأرض. والآية كما قلنا لا تنطبق على اليهود وحدهم. بل على كل من يسلك هذا السلوك.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-05-2021, 06:31 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
افتراضي

من آية 45 إلى آية 52

"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" 45.
بعد أن بيَّن سبحانه وتعالى أن الإيمان قدوة. وبعد أن لفتنا إلى أن التوراة تطالب اليهود. بأن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام. يطلب الله سبحانه وتعالى الاستعانة بالصبر والصلاة. ومعنى الاستعانة بالصبر أن هناك أحداثا شاقة ستقع. وأن المسألة لن تكون سهلة. بل تحتاج إلى جهد. فالصبر معناه حمل النفس على أمر صعب. وهم ماداموا قد تعودوا على شراء آيات الله بثمن قليل.. لأنهم قلبوا الصفقة. فجعلوا آيات الله ثمنا لمتاع الدنيا. واشتروا بها متاعهم وملذاتهم. وبعد أن تعودوا على الربا وغيره من وسائل الكسب الحرام. لابد أن يستعينوا بالصبر إذا أرادوا العودة إلى طريق الإيمان.
أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور "وَإِنَّهَا"أي: الصلاة "لَكَبِيرَةٌ"أي: شاقة "إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ"الخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته, وسكونه لله تعالى, وانكساره بين يديه, ذلا وافتقارا, وإيمانا به وبلقائه. فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده يوجب له فعلها, منشرحا صدره لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها, وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.
"الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ" 46.
قال ابن جرير ، رحمه الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ،والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى إني ظننت أني ملاق حسابيه وقوله : فظنوا أنهم مواقعوها
قال ابن زيد في قوله" الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ "البقرة:46.قال: لأنهم لم يعاينوا, فكان ظنهم يقينا, وليس ظنا في شك.
"أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أمر يقيني. فمادمت قد جئت إلى الدنيا مخلوقا من الله فأنت لا محالة سترجع إليه.
وهذا اليوم يجب أن نحتاط له. حيطة كبرى. وأن نترقبه. لأنه يوم عظيم.قال تعالى" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ" الحج:1.

" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" 47.
كرر تذكيرهم بالنعم لكمال غفلتهم عما يجب عليهم من شكرها،فضلهم بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالما.
قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك ، فجر لهم الحجر ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون .
وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب .
قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم"وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ"المائدة : 20يعني في زمانهم .

بما جعل فيهم من الأنبياء وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم
وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء، لكن به الشرف للأبناء.
" وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ" 48.
يذكرهم بهذا اليوم. وهو يوم القيامة الذي لا ينفع الإنسان فيه إلا عمله. لما ذكرهم اللهتعالى بنعمه أولًا ،عطف على ذلك التحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال" وَاتَّقُوا يَوْمًا "يعني يوم القيامة " لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا"أي : لا يغني أحد عن أحد " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ " كما قال" وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" الأنعام : 164.ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين " عَنْ نَفْسٍ"ولو كانت من العشيرة الأقربين " شَيْئًا"لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.
"وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ"الشفاعة هي التوسط للغير بجلب منفعةٍ مشروعةٍ له، أو دفع مضرة عنه.
معنى الشفاعة في الشرع : طلب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم – أو غيره – من الله في الدار الآخرة حصول منفعة لأحد من الخلق.
ولا يقبل الله منها شفاعة شافع, فيترك لها ما لزمها من حق.
"وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ " أي ولا يؤخذ منها فداء إن هي استطاعت أن تأتى بذلك.
" وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ" أي لا يمنعون من العذاب.
والخلاصة - إن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين، عند الأمراء والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها، وتضمحلّ فيه جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله.
" وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ"49.
فصل في هذه الآية نعمة مما أنعم به على هذا الشعب ." " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعني نجينا أسلافَكم وأجدادَكم فتُعَد مِنَّة عليهم لأنهم نجوا بنجاتهم. الإنعام على أمة إنعام شامل لأفرادِها سواء منهم من أصابه ذلك ومن لم يصبه.
" يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ" أي يكلفونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذابثم فصل هذا العذاب بقوله:
" يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ" أي يقتلون الذكور ويستبقون البنات إذلالا لكم حتى ينقرض شعبكم من البلاد. فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.
" وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ" أي وفي ذلكم العذاب والتنجية منه امتحان عظيم من ربكم كما قال تعالى"وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ"الأنبياء:35. فالبلاء يكون بمعنى النعمة وبمعنى الشدة فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدة بالصبر. وقوله" مِنْ رَبِّكُمْ" أي من جهته تعالى بتسليطهم عليكم، وبعث موسى وتوفيقه لخلاصكم.
فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.

" وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" 50.
أي واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وجعلنا لكم فيه طرقا تسلكونها حين فراركم من فرعون وجنده.
فقد خرج موسى وقومه وهم شرذمة قليلة خائفة فارة من بطش فرعون، وعرف فرعون بخروجهم فخرج وراءهم على رأس جيش عظيم العدد والعُدة . وعندما جاء قوم فرعون بعددهم الضخم يقاومون قوم موسى وتراءى الجمعان أي أنهم رأوهم رؤية العين قال قوم موسى إنا لمدركون "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ " الشعراء: 61." قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ"62." فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ"63. أي: الجبل الْعَظِيمِ فدخله موسى وقومه.
" وَإِذْ فَرَقْنَا" الفرق: الفصل بين الشيئين. فأمامهم البحر ووراءهم فرعون وجنوده. ولكن حين تخرج الأحداث من نطاق الأسباب إلى قدرة رب الأسباب فهي لا تخضع لأسباب الكون.
"فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ"
كلمة نجَّى-وردت في آية 49- وكلمة أنجى -وردت في آية 50-بينهما فرق كبير.
كلمة نَجَّى تكون وقت نزول العذاب. وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب.

"وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ" أي تشاهدون مصارعَهم وهلاكَم عِيانًا. والفائدة من قوله"وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" بيان تمام النعمة، فإن هلاك العدوّ نعمة، ومشاهدة هلاكه نعمة أخرى فيها سرور.

" وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ"51.
أي واذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم، ذاك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم، فواعده ربه أن يعطيه التوراة وكان الوعد يشمل أربعين ليلة لذلك ، فاستبطئوه واتخذوا عجلًا من ذهب، له خوار فعبدوه وظلموا أنفسهم بإشراكهم.
وفي ذكر هذا تعجيب من حالهم، فإن مواعدة الله موسى بإنزال التوراة إليه نعمة وفضيلة لبني إسرائيل قابلوها بأقبح أنواع الكفر والجهل.

" ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"52.
الله سبحانه وتعالى يمن على بني إسرائيل مرة أخرى.. مع أنهم ارتكبوا ذنبا من ذنوب القمة.. ومع ذلك عفا الله عنهم لأنه يريد أن يستبقي عنصر الخير للناس.. يريد أن يعلم خلقه أنه رب رحيم. يفتح أبواب التوبة للواحد بعد الآخر.. لتمحو خلايا الشر في النفس البشرية.
إن الإنسان حين يذنب ذنبا ينفلت من قضية الإيمان.. ولو لم تشرع التوبة والعفو من الله لزاد الناس في معاصيهم وغرقوا فيها.. لأنه إذا لم تكن هناك توبة وكان الذنب الواحد يؤدي إلى النار.. والعقاب سينال الإنسان فإنه يتمادى في المعصية. وهذا ما لا يريده الله سبحانه وتعالى لعباده

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-05-2021, 06:37 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
Post

من آية 53 إلى آية 61

" وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"53.
" وَإِذْ "اسم للوقت الماضي . و " وَإِذْ"اسم للوقت المستقبل
"آتَيْنَا" أعطينا .
الله سبحانه وتعالى يذكر بني إسرائيل هنا، أنه بعد أن أراهم من المعجزات الكثير. ونجاهم من آل فرعون وشق لهم البحر كان لابد أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا لا يشوبه أي نوع من التردد، ذلك لأنهم رأوا وشهدوا.. وكانت شهادتهم عين يقين. أي شهدوا بأعينهم ماذا حدث.
ولكن هل استطاعت هذه المشاهدة أن تمحو من قلوبهم النفاق والكفر؟. لا، لقد ظلوا معاندين طوال تاريخهم. لم يأخذوا أي شيء بسهولة.فذكرهم بمزيد نعمه عليهم لعلهم يهتدوا.

أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدّكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى، ولكنهم لم يصبروا ،فقبل استكمال الميعاد –الأربعون ليلة- عبدوا العجل من بعد ذهاب موسى للقاء ربه وقبل رجوعه لهم بالتوراة.

" الْكِتَابَ" يعني التوراة. "وَالْفُرْقَانَ" وهو ما يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال. قال الكسائي"الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة، يعني: الكتاب المفرق بين الحلال والحرام"
" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" وكأنه قال: واذكروا أيضًا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها.
" وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"54.
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبيّن في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختم الآية بذكر العفو عنهم.
"إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ "لا يقع الظلم على الله سبحانه وتعالى ولكن عليهم. لماذا؟.. لأنهم آمنوا بالله أو لم يؤمنوا. سيظل هو الله القوي القادر العزيز. لن يُنْقِصَ إِيمانُ أحدٍ أو عدم إيمانه من مُلك الله شيئا. ثم يأتوا يوم القيامة فيعذبهم. فكأن الظلم وقع عليهم.
" فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ "
" فَتُوبُوا " التوبة هي أصل المغفرة، وقد كان من الممكن أن يأخذهم الله بهذا الذنب ويهلكهم كما حدث للأمم السابقة.. أما وقد شرع الله لهم أن يتوبوا. فهذا فضل من الله وعفو.
"إِلَى بَارِئِكُمْ" أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميّز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم- إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوانات وهو البقر.
" فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" يعني ليقتل البريء منكم المجرم. لما عبد قوم موسى العجل وسُقِطَ في أيديهم- أي ندموا على عبادة العجل ، تقول العرب لكل نادم على أمر : قد سُقِطَ في يديه ،- ورأوا أنهم قد ضلوا ، وأرادوا التوبة ، قالوا " لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ " سورة الأعراف/149، فجعل الله لهم امتحانا شديدًا لقبول توبتهم ، وذلك بأن يقتلوا أنفسهم ، فيُغِير بعضهم على بعض ، ويتقاتلوا بينهم حتى يأتي أمر الله بالكفّ. جاء في تفسير ابن كثير :
"
قال قتادة : أمر القوم بشديد من الأمر ، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا ، حتى بلغ الله فيهم نقمته ، فسقطت الشفار من أيديهم ، فأمسك عنهم القتل ، فجعل لحيهم توبة ، وللمقتول شهادة" ...الإسلام سؤال وجواب

.كونه يقدم نفسه ليُقتل فهذا اعتراف منه بأن العجل الذي كان يعبده باطل.. وهو بذلك يعيد نفسه التي تمردت على منهج الله إلى العبادة الصحيحة.. وهذا أقسى أنواع الكَفَّارة.. وهو أن يقتل نفسه إثباتا لإيمانه.. بأنه لا إله إلا الله وندمًا على ما فعل وإعلانًا لذلك.. فكأن القتل هنا شهادة صادقة للعودة إلى الإيمان.

" ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ "
أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ أن القتل يطهركم من الرجس الذي دنّستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب.
" فَتَابَ عَلَيْكُمْ" أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم.
" إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، فالتواب في حق الله تعالى هو الذي يتوب على عبده، أي يعود عليه بألطافه، ويوفقه إلى التوبة، وييسرها له، ثم يقبلها منه.
وَيَذْكُرُ ابْنُ الْقَيِّمِ أنَّ تَوْبَةَ العَبْدِ إِلى رَبِّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ الله عَلَيْهِ قَبْلَهَا وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنَ الله: سَابِقَةٍ وَلاَحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ العَبْدُ فَتَابَ الله عَلَيْهِ ثَانِيًا قَبُولاً وَإِثَابَةً، قَالَ تَعَالَى"وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"التوبة: 118، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُ عَلَيْهِم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُمْ، وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جعَلَتْهُم تَائِبِينَ، فَكَانَتْ سَبَبًا وَمُقْتَضًى لِتَوْبَتِهِم.
وهو الرّحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولو لا ذلك لعجل بإهلاككم على ما اجترحتم من عظيم الآثام.
"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ "55.
و لما تاب بنو إسرائيل وتراجعوا إلى رشدهم اخْتَارَ مُوسَى منهم سَبْعِينَ رَجُلا من خيارهم، ليعتذروا لقومهم عند ربهم، ووعدهم اللّه ميقاتا يحضرون فيه، فلما حضروه، قالوا: يا موسى، أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً قال تعالى" وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُالْغَافِرِينَ"الأعراف:155.
بعد أن تاب الله على قوم موسى بعد عبادتهم للعجل ، عادوا مرة أخرى إلى عنادهم وماديتهم. فهم كانوا يريدون إلها ماديا.. إلها يرونه ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار.
فقفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرًا وطغيانًا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله جهرًا وأصل الجهر الظهور ،أي عِيانًا حتى يؤمنوا به، أي رؤية واضحة يدركونها بحواسهم. فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين. أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت.
"ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" 56.
أولئك الذين أصابتهم الصاعقة من قومه.. فقد ماتوا ثم بعثوا لعلهم يشكرون.
"وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"57.
ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما. أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المنّ والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
إذ كنتم في الصحراء وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية.. وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء.. فظلل الله سبحانه وتعالى عليكم بالغمام.. أي جاء الغمام رحمة من الله سبحانه وتعالى.. ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى.
والمن نقط حمراء تتجمع على أوراق الشجر بين الفجر وطلوع الشمس.. وهي موجودة حتى الآن في العراق.. وفي الصباح الباكر يأتي الناس بالملاءات البيضاء ويفرشونها تحت الشجر.. ثم يهزون الشجر بعنف فتسقط القطرات الموجودة على ورق الشجر فوق الملاءات.. فيجمعونها وتصبح من أشهى أنواع الحلويات. فيها طعم القشدة وحلاوة عسل النحل.. وهي نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله سبحانه وتعالى جعله بالنسبة لهم وقود حياتِهم.. وهم في الصحراء يعطيهم الطاقة.
أما السلوى فهي طير من السماء ويقال أنه السمان.. يأتيهم في جماعات كبيرة لا يعرفون مصدرها.. ويبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه.
فالله تبارك وتعالى قد رزقهم بهذا الرزق الطيب من غمام يقيهم حرارة الشمس، ومَنّ يعطيهم وقود الحركة. وسَلْوَى كغذاء لهم، وكل هذا يأتيهم من السماء دونما تعب منهم.

" كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " أمر إباحة وإرشاد وامتنان. أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين, فلم يشكروا هذه النعمة, واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.
"وَمَا ظَلَمُونَا" يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين, كما لا تنفعه طاعات الطائعين، "وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" فيعود ضرره عليهم.أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابي وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة.
وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يأمر الله به عبادَه فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع عليهم.
" وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"58.
أمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا, ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل, وهو دخول الباب " سُجَّدًا"أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا" حِطَّةٌ "أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.
أي : ادخلوا بابَ القريةِ؛ والقريةُ قيل: هي بيتُ الْمَقْدِسِ، وقيل غيرُ ذلك، مُنْحَنِينَ كهيئةِ مَن يريدُ السُّجودَ؛ خُضوعًا للهِ تعالى وشكرًا. وقيل: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم.
"نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ"بسؤالكم المغفرة.
"وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ"بأعمالهم, أي: جزاءً عاجلًا وآجلا. يغفر خطايا من هو عاص ، وسيزيد في إحسان من هو محسن ولم يعص الل

" فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"59.
"قيلَ لِبَنِي إسْرائِيلَ"ادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولوا حِطَّةٌ"البقرة: 58. فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتاهِهِمْ، فَبَدَّلُوا، وقالوا: حِطَّةٌ، حَبَّةٌ في شَعَرَةٍ"الراوي : أبو هريرة /صحيح البخاري.
فَبدَّل هؤلاءِ اليهودُ الظَّالِمون ما أُمِروا به، ودخَلوا يَزحَفُونَ على مؤَخِّراتِهم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعرَةٍ، وهذا كلامٌ مُهمَلٌ لا معْنى له، وغرَضُهم فيه مُخالَفةُ ما أُمِروا به مِنَ الكلامِ المستلزِمِ لِلاستِغفارِ وطلَبِ حِطَّةِ العُقوبةِ عنهم، فلمَّا عَصَوْا، عاقَبَهمُ اللهُ بالرِّجْزِ؛ وهو العذابُ الأليمُ. وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِن اتِّباعِ سُنَّةِ بَني إسرائيلَ في مُخالَفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والخروجِ عن طاعتِه.
لم يعين الكتاب هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلّط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون: أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينِهم.
"وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"60.

ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذاك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم ظمأ من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته.
"وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ" أي طلب لهم السّقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة.
"فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ "إما حجر مخصوص معلوم عنده, وإما اسم جنس، " فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًاوقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة،قيل كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها،، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب. "قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ"منهم "مَشْرَبَهُمْ"أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال"كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ"أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، " وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" والعثي: أَشَدُّ الْفَسَادِ، أي ولا تنشروا فسادَكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه.
" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"61.
وإذ قال أسلافُكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدًا هو المنّ والسلوى. أي: واذكروا, إذ قلتم لموسى, على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها.
"لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ"وهو المنُّ والسلوى. أي: جنس من الطعام, وإن كان أنواعًا, لكنها لا تتغير.
"فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا"أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، " وَقِثَّائِهَا"وهو الخيار "وَفُومِهَا"أي: ثومها، والعدس والبصل معروف.
" أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ "فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العَيش الرغيد ، والطعام الهنيء الطيب النافع .
" اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا مصرَ من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقضِ عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممِهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل هذا الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم.
"وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهوّن على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستخذي ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذلّه وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه.
"وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ" أي واستحقوا غضب الله بما حلّ بهم من البلاء والنقم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
"ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ" أي إن ما حلّ بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون.
"وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ" ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، فهم قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق: أي بغير شبهة عندهم تسوّغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعنّ له، وكتابهم يحرّم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك.
وفي قوله: بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون بحق أبدًا ، فلا يوجد حق يسوغ قتل نبي ، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم. فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنهم أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين؟
فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعًا.
"ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ" أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتديّن به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرّة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تصير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-05-2021, 06:39 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
Arrow

من آية 62 إلى 70


" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"62.
لما بين الله سبحانه وتعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحل بهم من النكال ، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه.تفسير ابن كثير.
وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة, لأن الصابئين, الصحيح أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة, واليهود والنصارى, والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر, وصدقوا رسلهم, فإن لهم الأجر العظيم والأمن, ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر, فهو بضد هذه الحال, فعليه الخوف والحزن. والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف, من حيث هم, لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد, فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا مضمون أحوالهم.
لما ذكر بني إسرائيل وذمهم, وذكر معاصيهم وقبائحهم, ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذِكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها, ليتضح الحق, ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين. تفسير السعدي.
" وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"63.
يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له واتباع رسلِهِ ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق للعمل بما في التوراة رفع الجبل على رؤوسهم ليُقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه بقوة وحزم وهمة وامتثال كما قال تعالى " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأعراف: 171.
الطور هو الجبل ، كما فسره بآية الأعراف.تفسير ابن كثير.
" وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ" وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكي يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد، لأن رؤية ذلك مما يقوّى الإيمان ويحرّك الشعور والوجدان ثمّ بين الميثاق فقال:
" خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ" أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجدّ وعزيمة، ومواظبة على العمل بما فيه.
" وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ" أي وادّارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أُثر عن علي أنه قال: يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"تتقون- عذاب الله وسخطه, أو لتكونوا من أهل التقوى.تفسير السعدي.والمراغي.
المواظبة على العمل تطبع في النفس سجيّة المراقبة لله، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها.
" ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ"64.
أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادّكر.
" فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ"
أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين. ولولا ذلك لخسرتم سعادتي الدنيا والآخرة.
" وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ"65.
" وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ "أي لقد عرفتم ومعنى ذلك أن القصة عندهم معروفة.. وكأنها من قصص التراث التي يتناقلونها.
" الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ "اليهود أمروا بقطع الأعمال الدنيوية يوم السبت ، والتفرغ للعمل الأخروي يوم السبت والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافًا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادّخاره، وأباح لهم العمل في ستة الأيام الأخرى. وأراد الحق تبارك وتعالى أن يبتليهم في هذا اليوم والابتلاء هو امتحانهم فقد كانوا يعيشون على البحر وعملهم كان صيد السمك.
وكان الابتلاء في هذا اليوم حيث حرم الله عليهم فيه العمل وجعل الحيتان التي يصطادونها تأتي إليهم وقد بدت أشرعتها وكانوا يبحثون عنها طوال الأسبوع وربما لا يجدونها.. وفي يوم السبت جاءتهم ظاهرة على سطح الماء تسعى إليهم لتفتنهم.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى"وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْۚ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"الأعراف: 163.

وَاسْأَلْهُمْ أي: اسأل بني إسرائيل عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أي: على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا، فابتلاهم اللّه وامتحنهم، فكانت الحيتان تأتيهم يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي: كثيرة طافية على وجه البحر. وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي: إذا ذهب يوم السبت لا تَأْتِيهِمْ أي: تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر، فتحيلوا على الصيد، فكانوا يحفرون لها حُفَرا، وينصبون لها الشباك، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك، لم يأخذوها في ذلك اليوم، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، وكثر فيهم ذلك، وانقسموا ثلاث فرق معظمهم اعتدوا وتجرؤوا، وأعلنوا بذلك. وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم. وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم، ونهيهم لهم، وقالوا لهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون: لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه، ولم يصغ للنصيح، بل استمر على اعتدائه وطغيانه، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه، إما بهلاك أو عذاب شديد. فقال الواعظون: نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: لنعذر فيهم. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: يتركون ما هم فيه من المعصية، فلا نيأس من هدايتهم، فربما نجع فيهم الوعظ، وأثر فيهم اللوم. وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر، والنهي.
"فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ" ذهب جمهور العلماء إلى أنهم مُسخت صورهم فصارت صور القردة، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم ، أي : إنهم مسخوا مسخًا نفسيًا فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها .
قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوي كما قال مجاهد لا صوري كما قال غيره.
"قِرَدَةً خاسِئِينَ "صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء .

" فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" 66.
وجعل الله هذه العقوبة – وهي المسخ- "نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا" زجرًا وعقابا قويًّا وعبرة، لمن حضرها من الأمم, وبلغه خبرها, ممن هو في وقتهم. "وَمَا خَلْفَهَا "أي: من بعدهم, فتقوم على العباد حجة الله, وليرتدعوا عن معاصيه. "وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات. لأن المتقي يتّعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءَها .
"وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" 67.
أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلًا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله, حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد - لولا تبيين الله لكم - يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره, وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض, فقالوا"أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا" أي قالوا: أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة فقال نبي الله"أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ"فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه, وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل،استهزاءه بمن هو آدمي مثله، وإن كان قد فضل عليه, فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه, والرحمة لعباده.
"قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"68 .
فلما قال لهم موسى ذلك, علموا أن ذلك صدق فقالوا "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِي" أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها.
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم . ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم بالسؤال عن صفاتها، فضيق عليهم ، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم.

" قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ "أي لا كبيرة ولا صغيرة، والفارض المسنة التي لا تلد، والبكر الصغيرة التي لم تلد.
" عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ" وسطبين السنين .
"فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ"أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال. واتركوا التشديد والتعنت. أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال، لكنهم أبوا إلا تنطّعا واستقصاء فأعادوا الطلب.
"قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ"69.
أي سله لأجلنا أن يبين لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضًا تعنت آخر منهم بعد الأول . "إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا "أي: شديدة الصفار.
"تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" الناظرين إليها إليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها.

"قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"70.
سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها بوصف أكثر تحديدًا ،وإنا إن شاء الله لمهتدون إليها ، استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد .

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-05-2021, 06:40 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,260
افتراضي

من آية 71 إلى 80


"قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ"70.
سألوا سؤالا رابعا ، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان . لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها بوصف أكثر تحديدًا ،وإنا إن شاء الله لمهتدون إليها ، استثناء منهم ، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد .
"قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ" 71.

"لَّا ذَلُولٌ "البقرة الذلول هي البقرة المروضة الممرنة تؤدي مهمتها بلا تعب.. تماما مثل الخيل المروضة التي لا تتعب راكبها لأنها تم ترويضها.
"تُثِيرُ الْأَرْضَ " تثير غبار الأرض في غير العمل مرحًا ونشاطًا، أي لم تستخدم في حراثة الأرض أو فلاحتها.
"وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ" أي لم تستخدم في إدارة السواقي لسقي الزرع.
"مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا" أي لا شيء فيها ، أي خالية من العيوب لا أذنها مثقوبة. ولا فيها أي علامة من العلامات التي يميز الناس أبقارهم بها.. ولا رجلها عرجاء، خالية من البقع والألوان غير اللون الأصفر الفاقع.
والمتأمل في وصف البقرة كما جاء في الآيات يرى الصعوبة والتشدد في اختيار أوصافها،فهم شددوا على أنفسهم بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم .ولم يجد بنو إسرائيل إلا بقرة واحدة تنطبق عليها هذه المواصفات فقالوا " قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ " أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا. وهذا من جهلهم, وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة.
"فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " فذبحوا البقرة التي وصفت بتلك الصفات. قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها .
" وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" 72
"وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا " هذا أول القصة وإن كانت مؤخرة في التلاوة، أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى, حين قتلتم قتيلا, وادارأتم فيه, أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله. أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، وكل واحد يدرأ عن نفسه ويدّعى البراءة ويتهم سواه.
" وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" أي مُظْهِر القاتل الذي يكتم قيامه بالقتل ويخفيه. فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله،
" فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"73.

" فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ "يعني القتيل. "بِبَعْضِهَا " أي ببعض البقرة، وإنما أمرهم موسى عليه السلام بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة.
فلما ذبحوها, قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها, أي: بعضو منها, إما معين, أو أي عضو منها, فليس في تعيينه فائدة, فضربوه ببعضها فأحياه الله, وأخرج ما كانوا يكتمون, فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى، فكما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات ، " وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" أي لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به. فتنزجرون عن ما يضركم.
"ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"74.
"ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم " أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة.
" مِّن بَعْدِ ذَلِكَ" أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها.
" فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ " وصف قسوتها بأنها كَالْحِجَارَةِ التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أُذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار.
" أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " أَو : بمعنى " بل "أي: إنها أشد قساوة الأحجار، ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال:
"وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ"
بل هي أي قلوبهم أشد من الحجارة غلظة؛ لأن من الحجارة ما يتسع وينفرج حتى تنصبَّ منه المياه صبًا، فتصير أنهارًا جاريةً، ومن الحجارة ما يتصدع فينشق، فتخرج منه العيون والينابيع، ومن الحجارة ما يسقط من أعالي الجبال مِن خشية الله تعالى وتعظيمه.
"وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها.
"أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"75.
"أَفَتَطْمَعُونَ" أفتطمعون أن يؤمنوا لكم هذا استفهام فيه معنى الإنكار .الطمع: تعلق النفس بشيء مطلوب تعلقًا قويًّا، فإذا اشتد فهو طمع، وإذا ضعف كان رجاء ورغبة.

لما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم . فقد كان النبي ﷺ وأصحابه شديدى الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه .
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ: تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به.
"وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ" يعني التوراة.
" ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ " يغيرون ما فيها من الأحكام.فيضعون له معاني ما أرادها الله, ليوهموا الناس أنها من عند الله, وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله, فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟!
" مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ " أي من بعد ما علموه وفهموه وعرفوه.
" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين.
"وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"76 .
"وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا" أي وإذا لقى اليهود أصحاب محمد ﷺ قال المنافقون منهم: إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.
"وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ" قال أبو جعفر: يعني أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود -الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم.
"قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ " أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يجىء مصدقا لما معهم ،وأنه حق وقوله صدق.
" لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ "كي يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم- فالمحاجة هي أن كل طرف يأتي بحجته.
" أَفَلَا تَعْقِلُونَ"أي: أفلا يكون لكم عقل، فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.

" أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ " 77.
فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم، وزعموا أنهم بإسرارهم لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين، فإن الله يعلم سرهم وعلنهم.
" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"78.
" وَمِنْهُمْ"أي: من أهل الكتاب "أُمِّيُّونَ "أي: عوام، ليسوا من أهل العلم، " لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ": عن ابن عباس ، في قوله تعالى" إِلَّا أَمَانِيَّ "يقول : إلا قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا .وقيل: والأماني واحدها أمنية وهي التلاوةأي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط – تلاوة لفظية فقط دون التلاوة الحكمية-.أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرهما في العمل، وهذا على حدّ قوله تعالى "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ".الجمعة:5.
"وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ " أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظنّ من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبني على البرهان القاطع الذي لا شكّ فيه.


فذكر في هذه الآيات علماءَهم، وعوامَّهم، ومنافقيهم، ومن لم ينافق منهم، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين.
" فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ"79.
والويل : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة .
" فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ"
عن عكرمة ، عن ابن عباس : قال : هم أحبار اليهود . وكذا قال سعيد ، عن قتادة : هم اليهود .توعد تعالى أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيّروها. المحرفين للكتاب . " فَوَيْلٌ"أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامّهم: هذا المحرّف من عند الله في التوراة.
" لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " أي ليأخذوا لأنفسهم عرضا من عرض الدنيا؛ في مقابلة هذا المحرّف ثمنا وهي الأموال التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها. والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس, فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم, ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق, بل بأبطل الباطل, وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال " فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ" أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرّف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي. وكرر الويل تغليظًا لفعلهم .وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات: تغيير صفة النبي ﷺ، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة.
" وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 80.
ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهؤلاء يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم.
المسّ واللمس بمعنى واحد، والمراد بالنار نار الآخرة، والمعدودة: المحصورة القليلة. يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله" قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ"
قل لهم أيها الرسول " أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا" أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم فتستوجبون بذلك الخروج من النار ! أم أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقّا؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده.
أو هل عرفتم ذلك بوحيه الذي عهده إليكم فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون توبيخ وتقريع .
" أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلّغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.
وخلاصة هذا - إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين: إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقوّل عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدّعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.

رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 08:06 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. تركيب: استضافة صوت مصر