العودة   ملتقى نسائم العلم > ملتقى المعتقد الصحيح > ملتقى المعتقد الصحيح

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-08-2017, 12:13 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

شرح أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن

على وجه الإيجاز غير المخِلِّ
هذا الأصل هو أعظم أصول التوحيد، بل لا يقوم التوحيد ولا يتم ولا يكمل حتى ينبني على هذا الأصل، فإنَّ التوحيد يقوى بمعرفة الله، ومعرفةُ الله أصلها معرفة أسمائه الحُسنى وما تشتمل عليه من المعاني العظيمة والتعبُّد لله بذلك.
وفي الحديث الصحيح: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة» - رواه البخاري (رقم: 2736)، ومسلم (رقم: 2677).-
وإحصاؤها تحصيل معانيها في القلب، وامتلاء القلب من آثار هذه المعرفة، فإنَّ كلَّ اسم له في القلب الخاضع لله المؤمن به أثرٌ وحالٌ لا يُحَصِّلُ العبد في هذه الدار ولا في دار القرار أجلَّ وأعظمَ منها، فنسأله تعالى أن يمنَّ علينا بمعرفته ومحبته والإنابة إليه.
اللَّه
هذا الاسم الجليل الجميل هو أعظم الأسماء الحسنى، بل قيل: إنَّه الاسم الأعظم - وممن قال بذلك ابن مَندَة في كتابه التوحيد :2/21.-، وسيأتي التنبيه على الاسم الأعظم عن قريب إنْ شاء الله.
ولهذا تضاف جميع الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم ويوصف بها، فيقال: الرحمن، الرحيم، الخالق، الرازق، العزيز، الحكيم، إلى آخرها من أسماء الله. ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، الرحيم، إلى آخرها.
فمعنى الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين»- رواه ابن جرير في تفسيره (1/54)-.، فجمع رضي الله عنه في هذا التفسير بين الوصف المتعلِّق بالله من هذا الاسم الكريم، وهو الألوهية التي هي وصفه الدال عليها لفظ الله، كما دلَّ على العلم الذي هو وصفه لفظ العليم، وكما دل على العزة التي هي وصفه لفظ العزيز، وكما دلَّ على الحكمة التي هي وصفه لفظ الحكيم، وكما دلَّ على الرحمة التي هي وصفه لفظ الرحيم، وغيرها من الأسماء الدالة على ما قام بالذات من مدلول صفاتها.
فكذلك الله هو ذو الألوهية، والألوهية التي هي وصفه هي الوصف العظيم الذي استحق أن يكون به إلهًا، بل استحق أن لا يشاركه في هذا الوصف العظيم مشارِكٌ بوجه من الوجوه.
وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.
فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤله ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية والربوبية والملك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالرحمة وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالغنى المطلق التامِّ من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده.
فالألوهية تتضمن جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، وبهذا احتج من قال: إنَّ الله هو الاسم الأعظم، ومنهم من قال: إنَّه الصمد الذي تصمد إليه جميع المخلوقات بحاجتها لكمال سيادته وعظمته وسعة أوصافه، ومنهم من قال: إنَّ الاسم الأعظم هو الحي القيوم لوروده في بعض الأحاديث، ولأنَّ هذين الاسمين العظيمين يتضمنان جميع الأسماء الحسنى والصفات الكاملة، فإنَّ الصفات الذاتية ترجع إلى الحي الذي قد كملت حياته فكملت صفاته، وصفات الأفعال ترجع إلى القيُّوم؛ لأنَّه الذي قام بنفسه وقام بغيره - أي: قام بتدبير أمورهم، وتصريف شؤونهم.-، وافتقرت إليه الكائنات بأسرها، وقيل في تعيين الاسم الأعظم أقوال أُخر - وهي تبلغ عشرين قولاً جمعها السيوطي في كتابه «الدر المنظم في الاسم الأعظم» وكثير منها ظاهر ضعفه لعدم قيام دليل صحيح صريح على صحته وثبوته.-، والتحقيق أنَّ الاسم الأعظم اسم جنس لا يراد به اسم معين، فإنَّ أسماء الله نوعان:

أحدهما: ما دلَّ على صفة واحدة أو صفتين أو تضمن أوصافاً معدودة.
والثاني: ما دلَّ على جميع ما لله من صفات الكمال، وتضمَّن ما له من نعوت العظمة والجلال والجمال، فهذا النوع هو الاسم الأعظم لما دلَّ عليه من المعاني التي هي أعظم المعاني وأوسعها.
فاللَّهُ اسم أعظم، وكذلك الصمد، وكذلك الحي القيوم، وكذلك الحميد المجيد، وكذلك الكبير العظيم، وكذلك المحيط. وهذا التحقيق هو الذي تدل عليه التسمية وهو مقتضى الحكمة، وبه أيضاً تجتمع الأقوال الصحيحة كلُّها، والله أعلم - وممن ذهب إلى ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ففي تعليقٍ له على كتاب فقه الأدعية والأذكار (ص155)، قال: «والصواب أنَّ الأعظم بمعنى العظيم، وأنَّ أسماء الله سبحانه كلّها حسنى، وكلّها عظيمة، ومن سأل الله سبحانه بشيء منها صادقًا مخلصًا سالمًا من الموانع رُجيت إجابته، ويدل على ذلك اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك، ولأنَّ المعنى يقتضي ذلك، فكلُّ أسمائه حسنى، وكلّها عظمى عز وجل، والله ولي التوفيق» اهـ.-

والمقصود أنَّ هذا التفسير من ابن عباس رضي الله عنهما يُدْخِلُ فيها وصفَه بالألوهية التي نبهنا هذا التنبيه اللطيف على معنى الألوهية، ويُدْخِلُ فيها وصفَ العباد وهو العبودية، فالعباد يعبدونه ويألهونه.
قال تعالى"وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ "الزخرف: 84 ، أي: يألهه أهل السماء وأهل الأرض طوعاً وكرهاً، الكلُّ خاضعون لعظمته، منقادون لإرادته ومشيئته، عانون لعزَّته وقيُّوميته.
وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كلِّ قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد
والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كلَّ محبوبات النفوس
الدينية والدنيوية العادية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال وأزمنة وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعاً لإلههم وسيدهم ومحبوبهم.
ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال"وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ "الفرقان: 63 ، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته وتبوأوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه وثوابه وكرامته برحمته.
وقد عُلم بهذا أنَّ من بذل هذه المحبة التي هي روح العبادة التي خلق الخلق لها لغير الله، فقد وضعها في غير موضعها، ولقد ضيَّعها أيضاً، ولقد ظلم نفسه أعظم الظلم، حيث هضمها أعظم حقوقها، وبذلك استحق أن يكون الشرك هو الظلم العظيم، وأن يكون المشرك مخلدًا في النار، محرومًا دخول الجنة محرَّمًا عليه، لأنها دار الطيبين الذين عبدوه حق عبادته وأخلصوا له الدين.
وقد جمع الله هذين المعنيين في عدة مواضع مثل قوله تعالى لموسى:
"
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي "طه : 14."وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ".الأنبياء:25 ، "فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا".مريم: 65 ، أي مساميًا مماثلاً في صفات الألوهية.

وكذلك كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله، تتضمن نفي الألوهية عن غير الله، وأنَّه لا يستحق أحد من الخلق فيها مثقال ذرة، فلا يصرف لغير الله شيء من العبادات الظاهرة والباطنة، وتقرر الألوهية كلَّها لله وحده، فهو الذي يستحق أن يؤله محبة ورغبة ورهبة وإنابة إليه، وخضوعًا وخشوعًا له من جميع الوجوه والاعتبارات، فهو المألوه وحده، المعبود، المحمود، المعظّم، المُمَجّد، ذو الجلال والإكرام.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-08-2017, 01:23 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

الرحمن، الرحيم، البَرُّ

الكريم، الجواد، الوهاب، الرؤوف
هذه الأسماء الكريمة متقارب معناها، وكلُّها تدل على أنَّه موصوف بكمال الرحمة وسعة البر والإحسان، وكثرة المواهب والحنان والرأفة.
فجميع ما فيه العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات، فإنَّ ذلك منه ومن رحمته وجوده وكرمه وفضله، كما أنَّ ما صرف عنهم من المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار، فإنَّها من رحمته وبره، فإنَّه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو.
ورحمته تعالى سبقت غضبه وغلبته، وظهرت في خلقه ظهوراً لا ينكر، حتى ملأت أقطار السموات والأرض، وامتلأت منها القلوب حتى حنَّت المخلوقات بعضُها على بعض بهذه الرحمة التي نشرها عليهم وأودعها في قلوبهم، وحتى حنَّت البهائم التي لا ترجو نفعًا ولا عاقبة ولا جزاء على أولادها، وشوهد من رأفتها بهم وشفقتها العظيمة ما يشهد بعناية باريها ورحمته الواسعة، وعمَّت مواهبه أهل السموات والأرض، ويسَّر لهم المنافع والمعايش والأرزاق وربطها بأسبابٍ ميسَّرةٍ وطرقٍ مسهلةٍ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.
وعلم تعالى من مصالحهم ما لا يعلمون، وقدَّر لهم منها ما لا يريدون، وما لا يقدرون، وربما أجرى عليهم مكاره توصلهم إلى ما يحبون، بل رحمهم بالمصائب والآلام، فجعل الآلام كلَّها خيرًا للمؤمن الذي يقوم بوظيفة الصبر. «عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر فكان خيرًا له، وليس
ذلك إلا للمؤمن" -حديث رواه مسلم في صحيحه (رقم: 2999).-

وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وكذلك ظهرت رحمته في أمره وشرعه ظهورًا تشهده البصائر والأبصار، ويعترف به أولوا الألباب. فشَرْعه نور ورحمة وهداية، وقد شرعه محتويًا على الرحمة، وموصلاً إلى أجلِّ رحمة وكرامة وسعادة وفلاح. وشرع فيه من التسهيلاتِ والتيسيراتِ ونفيِ الحرج والمشقات ما يدل أكبر دلالة على سعة رحمته وجوده وكرمه، ومناهيه كلُّها رحمة لأنَّها لحفظ أديان العباد، وحفظ عقولهم وأعراضهم وأبدانهم وأخلاقهم وأموالهم من الشرور والأضرار.
فكلُّ النواهي تعود إلى هذه الأمور، وأيضًا الأوامر سهَّلها وأعان عليها بأسبابٍ شرعيةٍ وأسبابٍ قدريةٍ، وذلك من تمام رحمته، كما أنَّ النواهي جعل عليها من العوائق والموانع ما يحجز العباد عن مواقعتها إلا من أبى وشرد، ولم يكن فيه خير بالكليَّة. وشرع أيضاً من الروادع والزواجر والحدود ما يمنع العباد ويحجزهم عنها، ويقلِّل من الشرور شيئًا كثيرًا.
وبالجملة فشرعه وأمره نزل بالرحمة، واشتمل على الرحمة، وأوصل إلى الرحمة الأبدية والسعادة السرمدية.
الخالق البارئ المصوِّر
أي هو المنفرد بخلق جميع المخلوقات، وبرَأ بحكمته جميع البريَّات، وصوّر بإحكامه وحسن خلقه جميع الكائنات، فخلقها وأبدعها وفطرها في الوقت المناسب لها، وقدّر خلقها أحسن تقدير، وصنعها أتقن صنع وهداها لمصالحها، أعطى كلَّ شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كلَّ مخلوق لما هُيئ وخلق له.
وإذا كان هو الخالق وحده البارئ المصور لا شريك له في شيء من ذلك، فهو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وهو الخالق للذوات والأفعال والصفات، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافراً، من غير أن يجبر العباد على غير ما يريدون.
ففي عموم خلقه ردّ على القدرية حيث أخرجوا أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم عن دخولها تحت خلقه وتقديره، حذراً منهم وفراراً من الجبر، ولم يدروا أنَّ كماله وكمال قدرته ينفي الجبر، وأنَّه قادرٌ على جعل العبد يفعل ما يختاره ويريده جارياً على قدره ومشيئته، فهو أعظم من أن يجبر العباد، وأعدل من أن يظلمهم، بل هم الذين يريدون ويختارون والله هو الذي جعلهم كذلك، وإرادتهم وقدرتهم تابعة لمشيئة الله، "لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ "28" وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ "29"التكوير .
العزيز الجبار المتكبِّر القهَّار القوي المتين
فالعزيز الذي له جميع معاني العزة، "إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا "يونس: 65 ، فهو العزيز لكمال قوته وهذه عزة القوة، ويرجع إلى هذا المعنى القويُّ المتينُ. وعزة الامتناع عن مغالبة أحد، وعن أن يقدر عليه أحد، أو يبلغ العباد ضرّه فيضرّوه، أو نفعه فينفعوه، وامتناعه وتكبره عن جميع ما لا يليق بعظمته وجلاله من العيوب والنقائص، وعن كلِّ ما ينافي كماله، ويرجع إليها معنى المتكبر مع أنَّ المتكبر اسم دالٌ على كمال العظمة ونهاية الكبرياء، مع دلالته على المعنى المذكور وهو تكبره وتنزُّهه عمَّا لا يليق بعظمته ومجده وجلاله.
المعنى الثالث عزة القهر، الدال عليها اسم القهار الذي قهر بقدرته جميع المخلوقات، ودانت له جميع الكائنات، فنواصي العباد كلِّهم بيده، وتصاريف الملك وتدبيراته بيده، والملك بيده، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
فالعالم العلوي والعالم السفلي بما فيها من المخلوقات العظيمة كلُّها قد خضعت في حركاتها وسكناتها، وما تأتي وما تذر لمليكها ومدبِّرها، فليس لها من الأمر شيء، ولا من الحكم شيء، بل الأمر كلُّه لله، والحكم الشرعي والقدري والجزائي كلُّه لله، لا حاكم إلا هو، ولا رب غيرُه، ولا إله سواه.
والعزة بمعنى القهر هي أحد معاني الجبار، ومن معاني الجبار أنَّه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وعلى السلطان وأنواع التصاريف استولى.
ومن معاني الجبار معنى يرجع إلى لطف الرحمة والرأفة، وهو الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويجبر المريض والمبتلى، ويجبر جبرًا خاصًا قلوب المنكسرين لجلاله، الخاضعين لكماله، الراجين لفضله ونواله بما يفيضه على قلوبهم من المحبة وأنواع المعارف الربانية، والفتوحات الإلهية والهداية والإرشاد والتوفيق والسداد.
المَلِك المالك للمُلك
أي الذي له جميع النعوت العظيمة الشأن، التي تفرَّد بها ملك الملوك، من كمال القوة والعزة والقدرة، والعلم المحيط والحكمة الواسعة ونفوذ المشيئة، وكمال التصرف وكمال الرأفة والرحمة، والحكم العام للعالم العلوي والعالم السفلي، والحكم العام في الدنيا والآخرة، والحكم العام للأحكام الثلاثة التي لا تخرج عنها جميع الموجودات:
ـ الأحكام القدرية حيث جرت الأقدار كلُّها والإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والإيجاد والإعداد والإمداد كلُّها على مقتضى قضائه وقدرهِ.
ـ والأحكام الشرعية حيث أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، وخلق الخلق لهذا الحكم، وأمرهم أن يمشوا على حكمه في عقائدهم وأخلاقهم، وأقوالهم وأفعالهم، وظاهرهم وباطنهم، ونهاهم عن مجاوزة هذا الحكم الشرعي، كما أخبرهم أنَّ كلَّ حكم يناقض حكمه فهو شرٌ جاهليٌ من أحكام الطاغوت.
ـ والأحكام الجزائية، وهو الجزاء على الأعمال خيرها وشرها في الدنيا والآخرة، وإثابةُ الطائعين، وعقوبةُ العاصين، وتلك الأحكام كلُّها تابعةٌ لعدله وحكمته وحمده العام، فهذه النعوت كلُّها من معاني ملكه.
ومن معاني ملكه: أنَّ جميع الموجودات كلِّها ملكُه وعبيده المفتقرون إليه، المضطرون إليه في جميع شؤونهم، ليس لأحد خروج عن ملكه، ولا لمخلوق غنىً عن إيجاده وإمداده، ونفعه ودفعه.
ومن معاني ملكه: إنزالُ كتبه، وإرسال رسله، وهداية العالمين، وإرشاد الضالين، وإقامة الحجة والمعذرة على المعاندين المكابرين، ووضع الثواب والعقاب مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها.
كما أنَّ من معاني ملكه: أنَّه كلَّ يوم في شأن يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا، ويكشف غمًّا، ويزيل المشقَّات، ويغيث اللهفات، ويجبر الكسير، ويغني الفقير، ويهدي ضالاً، ويخذل معرضًا موليًا، ويعزُّ قومًا، ويذلُّ آخرين، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، ويغيِّر ما شاء من الأمور الجارية على نظام واحد، ليعرف العباد كمال ملكه، ونفوذ مشيئته، وعظمة سلطانه.
فالملك يرجع إلى ثلاثة أمور: صفات الملك التي هي صفاته العظيمة، وملكه للتصاريف والشؤون في جميع العوالم، وأن جميع الخلق مماليكه وعبيده، فهو الملِكُ الذي له ملكُ العالم العلوي والسفلي، وله التدبيرات النافذة فيها، ليس لله في شيء من ذلك مشارك.
القُدُّوس السلام
أي الذي له كلُّ قُدس وطهارة وتعظيم، وتقدَّس عن صفات النقص. فالقُّدوس يرجع إلى صفات العظمة، وإلى السلامة من العيوب والنقائص، كما أنَّ السلام يدل على المعنى الثاني، فهو السالم من كلِّ عيب وآفة ونقص.
ومجموع ما ينزّه عنه شيئان:
أحدهما: أنَّه منزّه عن كلِّ ما ينافي صفات كماله، فإنَّ له المنتهى في كلِّ صفة كمال، فهو موصوف بكمال العلم وكمال القدرة، منزّه عما ينافي ذلك من النسيان والغفلة، وأن يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومنزّه عن العجز والتعب والإعياء واللغوب، وموصوف بكمال الحياة والقيُّومية، منزّه عن ضدها من الموت والسِّنة والنوم، وموصوف بالعدل والغنى التام، منزّه عن الظلم والحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وموصوف بكمال الحكمة والرحمة، منزّه عن ما يضاد ذلك من العبث والسفه، وأن يفعل أو يشرع ما ينافي الحكمة والرحمة.
وهكذا جميع صفاته منزّه عن كلِّ ما ينافيها ويضادها.
الثاني: أنَّه منزّه عن مماثلة أحد من خلقه، أو أن يكون له نِدٌّ بوجه من الوجوه. فالمخلوقات كلُّها وإن عظمت وشرفت وبلغت المنتهى الذي يليق بها من العظمة والكمال اللائق بها، فليس شيء منها يقارب أو يشابه الباري، بل جميع أوصافها تضمحل إذا نسبت إلى صفات باريها وخالقها، بل جميع ما فيها من المعاني والنعوت والكمال، هو الذي أعطاها إياه، فهو الذي خلق فيها العقول والسمع والأبصار والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي علَّمها وألهمها، وهو الذي نمَّاها ظاهراً وباطناً وكمَّلها، قالت الرسل والملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا.

وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «يا عبادي كلُّكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلُّكم جائع إلا من أطعمته..» إلى آخر الحديث.-رواه مسلم (رقم: 2577)،-

فهو المنزّه عن كلِّ ما ينافي صفات المجد والعظمة والكمال، وهو المنزّه عن الضد والند والكفؤ والأمثال، وذلك داخل في اسمه القدوس السلام.
المؤمن
الإيمان يرجع معناه إلى التصديق والاعتراف، وما يقتضيه ذلك من الإرشاد وتصديق الصادقين وإقامة البراهين على صدقهم، فهو تعالى المؤمن الذي هو كما أثنى على نفسه، وما عَرَّفه رسلَه وعبادَه من أسمائه وصفاته، وأثار ذلك مما هو أعظم أوصاف خيار الخلق من معرفته والإيمان به هو شيء يسير بالنسبة إلى ما له من الكمال المطلق من كلِّ وجه، فهو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده.
وهو تعالى الذي صدّق رسله وشهد بصدقهم بقوله وفعله وإقراره حيث أخبر عن صدقهم. وفعل تعالى أفعالاً كثيرة من معجزات وآيات وخوارق كثيرة وبراهين متنوعة تُعَرِّفُ العباد بصدقهم وتشهد بالحق الذين جاؤوا به، فكلُّ المطالب والمسائل العظيمة لم يبق منها شيء إلا أقام عليه من البراهين شيئاً كثيراً. وقال تعالى"سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ "فصلت: 53 .
فالإيمان الراجع إلى المعرفة والمحبة اللَّهُ أحق به وأولى به، ولنقتصر على هذه الإشارة في هذا المحلِّ العظيم -في تفسير المؤمن- .- ما بين المعكوفتين زيادة من النسخة الثالثة، وهي ملحقة بخط الشيخ ابن سعدي رحمه الله.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-08-2017, 02:43 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

الشهيد المهيمن المحيط
أي المطّلع على جميع الأشياء، الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والخفيات والجليَّات، والماضيات والمستقبَلات، وسمع جميع الأصوات خفيها والجليَّات، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، وصغيرها وكبيرها، وأحاط علمُه وقدرته وسلطانه، وأوليته وآخريته، وظاهريته وباطنيته بجميع الموجودات، فلا يحجبه عن خلقه ظاهر عن باطن، ولا كبير عن صغير، ولا قريب عن بعيد، ولا يخفى على علمه شيء، ولا يشذ عن ملكه وسلطانه شيء، ولا ينفلت عن قدرته وعزته شيء، ولا يتعاصى عليه شيء، ولا يتعاظمه شيء.
وجميع أعمال العباد قد أحصاها وقد علم مقدارها ومقدار جزائها في الخير والشر، وسيجازيهم بما تقتضيه حكمته وحمده وعدله ورحمته، والملوك والجبابرة وإن عظمت سطوتهم، وعظم ملكهم، واشتد جبروتهم، وتفاقم طغيانهم، فإنَّ الله لهم بالمرصاد قد أحاط بأحوالهم، وأحصى وراقب كلَّ حركاتهم وسكناتهم، ونواصيهم بيده، وليس لهم خروج عن تصرفه وإرادته ومشيئته.
أين المفرُ والإلهُ الطالب والمجرمُ المغلوبُ ليس الغالب - القائل لهذا البيت هو نفيل بن حبيب، قاله حين رأى ما أنزل الله عز وجل من نقمته بأبرهة ومَنْ معه حينما قصدوا هدم البيت الحرام.
انظر: تفسير الطبري (15/303)، ولفظه فيه: «والأشرم المغلوب».-

فهذه الأسماء الثلاثة ترجع إلى سعة علمه، وإحاطته بكلِّ شيء، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى شهادته لعباده وعلى عباده بأعمالهم، وإلى الجزاء وانفراد الرب بتصريف العباد، وإجرائهم على أحكام القدر، وأحكام الشرع، وأحكام الجزاء، والله أعلم.
الحميد المجيد
أي: الذي له جميع المحامد والمدائح كلِّها، وهي جميع صفات الكمال، فكلُّ صفة من صفاته يحمد عليها، ويحمد على آثارها ومتعلقاتها، فيحمد على كلِّ تدبير دبّره ويدبره في الكائنات، ويحمد على ما شرعه من الشرائع وأحكمه من الأحكام، ويحمد على توفيقه أوليائه وعلى خذلانه لأعدائه، كما يحمد على إثابته للطائعين وعقوبته للعاصين، وله الحمد على ما تفضل به على العباد من النعم والخيرات والبركات التي لا يمكن العباد إحصاؤها ويتعذر عليهم استقصاؤها.
فحمده تعالى قد ملأ العالم العلوي والسفلي، وله الحمد في الأولى والآخرة، وقد عمَّ حمده كلَّما يتقلَّب فيه العباد، لكون ذلك راجعاً إلى حكمته وعدله وفضله وإحسانه، ووضعه الأمور مواضعها، وهو الحميد الذي يحمده أنبياؤه وأصفياؤه وخيار خلقه، وهو تعالى الحميد الذي يحمدهم على ما أنعم به عليهم فمنه السبب والمسبب.
وأما المجد فهو سعة الصفات وعظمتها، فالمجيد يرجع إلى عظمة أوصافه وكثرتها وسعتها، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى تفرده بالكمال المطلق والجلال المطلق والجمال المطلق، الذي لا يمكن العباد أن يحيطوا بشيء من ذلك، فإذا جُمع بين الحميد المجيد صار اسمُ الحميد أخصَّ بكثرة الأوصاف وسعتها، واسم المجيد أخصَّ بعظمتها وتوحده بالمجد.

الحكيم
أي الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين عباده. فالحكمة هي سعة العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، وعلى سعة الحمد حيث يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها، ولا يتوجه إليه سؤال ولا يقدح في حكمته مقال، فله الحكمة في خلقه وأمره.
أما الحكمة في خلقه فإنَّه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته ونهايته الحق، خلقها بأحسن نظام، ورتَّبها بأكمل إتقان، وأعطى كلَّ مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كلَّ جزء من أجزاء المخلوقات، وكلَّ عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته اللائقة به، بحيث لا يرى الخلقُ في خلق الرحمن تفاوتًا ولا فطورًا، ولا خللاً ولا نقصاً، بل لو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثلاً وأحسن من هذه الموجودات لم يقدروا.
وهذا أمر معلوم قطعًا من العلم بصفاته، فإذا كان من المعلوم لكلِّ منصف مؤمن أنَّ الله له الكمال الذي لا يحيط به العباد، وأنَّه ما من كمال تفرضه الأذهان ويقدِّره المقدرون إلا والله أعظم من ذلك وأجلّ، كانت
أفعاله ومخلوقاته وجميع ما أوصله إلى الخلق أكملَ الأمور وأحسنها، وأنظمها وأتقنها، "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ "النمل: 88 .

فالفعل يتبع في كماله وحسنه فاعله، والتدبير منسوب إلى مدبِّره، والله تعالى كما لا يشبهه أحد في صفاته في العظمة والحسن والجمال، فكذلك لا يشبهه أحد في أفعاله. وقد تحدَّى عباده في مواضع كثيرة من كتابه، هل يجدون أو يشاهدون في مخلوقاته نقصًا وخللاً، ومن ادّعى شيئًا من ذلك بسفاهة عقله وعظم جراءته، فقد نادى على عقله بين العقلاء بالحمق والجنون.
وأما الحكمة في شرعه وأمره، فإنَّه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العبادُ ويعبدوه، فأيُّ حكمة أجلّ من هذا، وأيُّ فضل وكرم أعظم من هذا.
فإنَّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وحمده وذكره، وشكره والثناء عليه أفضلُ العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلُّ المناقب لمن يمنُّ الله عليه بها، وأكمل السعادة والفلاح والسرور للقلوب والأرواح، كما أنَّها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والفلاح السرمدي.
فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، وأكبر الوسائل والمقاصد، ولأجلها خلقت الخليقة، ولأجلها حق الجزاء، ولأجلها خلقت الجنة والنار، ولأجلها جرت على الخليقة أحكامُ الملكِ الجبارِ الشرعيةُ والجزائيةُ لكانت كافيةً شافيةً.
هذا وقد اشتمل شرعه على كلِّ خير، فأخباره تملأ القلوب علماً وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، ويحصل لها من المعارف أفضل الغنائم والمكاسب. وأوامره كلُّها منافع ومصالح، وتثمر الأخلاقَ الجميلة والمناقب الثمينة، والأعمال الصالحة، والهدي الكامل، والأجر العظيم، والثواب الجسيم. ونواهيه كلُّها موافقة للعقول الصحيحة والفطر المستقيمة، لأنَّها لا تنهى إلا عما يضر الناس في عقولهم وأخلاقهم وأعراضهم وأبدانهم وأموالهم.
وبالجملة فالمصالح الخالصة أو الراجحة تأمر بها، والمفاسد الخالصة أو الراجحة تنهى عنها، فهو الحكيم في خلقه وأمره. وكذلك أحكام الجزاء على الأعمال في غاية المناسبة والموافقة للحكمة جملة وتفصيلاً، والله أعلم.

السميع البصير، العليم الخبير
أي السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، سرها وجهرها، "سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ "الرعد: 10 .
البصير الذي أبصر كلَّ شيء دقَّ وجلَّ، فيبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في ظلمة الليل، ويبصر جريان الأغذية في عروق الحيوانات وأغصان النباتات. ولقد أحسن من قال - أوردها صاحب الكشاف (1/57) ولم ينسبها لقائل.-:

يا مَنْ يرى مدَّ البعوضِ جناحَها في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ
ويرى نياطَ عروقِها في نحرِها والمخَ من بين العظامِ النحلِ
امنن عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ما كان مني في الزمانِ الأولِ

العليم بكلِّ شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عن علمه شيء، أحاط علمه بالواجبات والمستحيلات والجائزات، وبالماضيات والحاضرات والمستقبلات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالخفيات والجليات، "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "59.الأنعام . يعلم السر وأخفى، ويعلم ما أكنته الصدور وما توسوس به النفوس، وما فوق السموات العلى وما تحت الثرى.
الخبير الذي أدرك علمه السرائر، واطّلع على مكنون الضمائر، وعلم خفيات البذور ولطائفَ الأمور، ودقائق الذرات في ظلمات الديجور- الديجور: الظلام. معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/329).-.
فالخبير يرجع إلى العلم بالأمور الخفية التي هي في غاية اللطف والصغر، وفي غاية الخفا ومن باب أولى وأحرى علمه بالظواهر والأمور الجلية، والعليم يدل بالمطابقة على الأمرين، وكثيراً ما يأتي ذكر هذه الأسماء الكريمة في سياق الأعمال وجزائها، ليوقظ القلوب وينبهها على إكمالها وإحسانها وإتقانها وإخلاصها وليرغبهم ويُرهبهم.

اللطـيـف
اللطيف من أسمائه الحسنى له معنيان:
أحدهما: بمعنى الخبير، وهو أنَّ علمه دقَّ ولَطف حتى أدرك السرائر والضمائر والخفيَّات.
والمعنى الثاني: اللطيف الذي يوصل أولياءه وعباده المؤمنين إلى الكرامات والخيرات بالطرق التي يعرفون والتي لا يعرفون، والتي يريدون وما لا يريدون، وبالذي يحبون والذين يكرهون -وانظر أمثلة نفيسة جداً لهذا المعنى في كتاب «المواهب الربانية من الآيات القرآنية» للمؤلف رحمه الله (ص: 70 وما بعدها).-،- فيلطف بأوليائه، فييسرهم لليسرى ويجنبهم العُسرى، ويلطف لهم فيقدر أمورًا خارجية عاقبتها تعود إلى مصالحهم ومنافعهم. قال يوسف صلى الله عليه وسلم"إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ "يوسف: 100 ، أي حيث قدَّر أمورًا كثيرة خارجية عادت عاقبتها الحميدة إلى يوسف وأبيه، وكانت في مبادئها مكروهة للنفوس ولكن صارت عواقبها أحمدَ العواقب، وفوائدها أجلَّ الفوائد.

المبدئ المعيد
قال تعالى"وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ "الروم: 27. "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ".الأنبياء: 104 .
فهو تعالى الذي ابتدأ خلق المكلَّفين ثم يعيدهم بعد موتهم، ابتدأهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليرسل إليهم الرسل وينزل عليهم الكتب ويأمرهم وينهاهم، لم يخلقهم عبثاً ولا سدى، ثم إذا انقضت هذه الدار وظهر الأبرار من الفجار، وتمَّت هذه الأعمار، أعادهم بعدما أماتهم ليجزيهم الثواب على إيمانهم وطاعاتهم، والعقاب على كفرهم وعصيانهم جزاءً دائماً بدوام الله، وإعادةُ الخلق أهون عليه من ابتدائه وذلك كلُّه على الله يسير.
وعموم ما دل عليه هذان الاسمان الكريمان يشمل كلَّ إبداء وإعادة لهذه المخلوقات، فالناس في هذه الدار في إبداء وإعادة في نومهم ويقظتهم، كلَّ يوم يعادون ويبدأون. وهذه الأرض كلَّ عام في إبداء وإعادة، يحييها بالماء والأمطار، ثم يعود النبت هشيماً والأخضر رميمًا، ثم هكذا أبدًا ما داموا في هذه الدار رحمة بهم ومتاعًا لهم ولأنعامهم، وذلك كلُّه تابعٌ لحكمته ورحمته.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-08-2017, 03:04 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

الفعَّال لما يريد
وهذا من كمال قوته ونفوذ قدرته، أنَّ كلَّ أمر يريده فَعَلَه، لا يتعاصى عليه شيء، ولا يعارضه أحد، وليس له ظهير ولا عوين ولا مساعد على أيِّ أمر يكون، بل إذا أراد أمراً قال له كن فيكون.
ومع أنَّه الفعَّال لما يريد، فلا يريد إلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فجميع أفعاله تابعة لحكمته، فهو موصوف بالكمال من الجهتين، من جهة كمال القدرة ونفوذ الإرادة، وأنَّ جميع الكائنات قد انقادت لمشيئته وإرادته. ومن جهة الحكمة، فإنَّه الحكيم في كلِّ ما يصدر منه من قول وفعل، "إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "هود: 56، أي في أقواله وأفعاله.

العفو الغفور، الغفار التوَّاب
العَفْوُ والمغفرة من لوازم ذاته لا يكون إلا كذلك، ولا تزال أثارُ ذلك
ومتعلقاتُهُ تشمل الخليقة آناء الليل والنهار، فعفوه ومغفرته وسعت المخلوقات والذنوب والجرائم.
والتقصير الواقع من الخلق يقتضي العقوبات المتنوعة، ولكن عفو الله ومغفرته تدفع هذه الموجَبَات والعقوبات، فلو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.
وعفوه تعالى نوعان:
عفوه العام عن جميع المجرمين من الكفار وغيرهم، بدفع العقوبات المنعقدة أسبابها والمقتضية لقطع النعم عنهم، فهم يؤذونه بالسب والشرك وغيرها من أصناف المخالفات، وهو يعافيهم ويرزقهم ويُدِرُّ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ويبسط لهم الدنيا، ويعطيهم من نعيمها ومنافعها، ويمهلهم ولا يهملهم بعفوه وحلمه.
والنوع الثاني: عفوه الخاص ومغفرته الخاصة للتائبين والمستغفرين، والداعين والعابدين، والمصابين بالمصائب المحتسبين، فكلُّ من تاب إليه توبة نصوحًا وهي الخالصة لوجه الله، العامة الشاملة التي لا يصحبها تردد ولا إصرار، فإنَّ الله يغفر له من أيِّ ذنب كان، من كفر وفسوق وعصيان، وكلُّها داخلة في قوله"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا "الزمر: 53 .
وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنّة في قَبول توبة الله من عباده من أيِّ ذنب يكون. وكذلك الاستغفار المجرد يحصل به من مغفرة الذنوب والسيئات بحسبه، وكذلك فعل الحسنات والأعمال الصالحة تكفر بها الخطايا، "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ "هود: 114 .
وقد وردت أحاديث كثيرة في تكفير كثير من الأعمال للسيئات مع اقتضائها لزيادة الحسنات والدرجات، كما وردت نصوص كثيرة في تكفير المصائب للسيئات، خصوصاً الذي يحتسب ثوابها ويقوم بوظيفة الصبر أو الرضى، فإنَّه يحصل له التكفير من جهتين: من جهة نفس المصيبة وألمها القلبي والبدني، ومن جهة مقابلة العبد لها بالصبر والرضى اللذين هما من أعظم أعمال القلوب، فإنَّ أعمال القلوب في تكفيرها السيئات أعظمُ من أعمال الأبدان.
واعلم أنَّ توبة الله على عبده تتقدمها توبة منه عليه، حيث أذن له ووفَّقه وحرَّك دواعي قلبه لذلك، حتى قام بالتوبة توفيقاً من الله، ثم لما تاب بالفعل تاب الله عليه فَقَبِلَ توبته، وعفى عن خطاياه وذنوبه، وكلُّ الأعمال الصالحة بهذه المثابة، فالله هو الذي ألهمها للعبد وحرَّك دواعيه لفعلها وهيَّأ له أسبابها، وصرف عنه موانعها، والله تعالى هو الذي يتقبَّلها منه ويثيبه عليها أفضل الثواب، فعلى العبد أن يعلم أنَّ الله هو الأول الآخر، وأنَّه المبتدئ بالإحسان والنِعم، المتفضل بالجود والكرم، بالأسباب والمسببات، بالوسائل والمقاصد.
ومن أخص أسباب العفو والمغفرة أنَّ الله يجازي عبده بما يفعله العبد مع عباد الله، فمن عفى عنهم عفى الله عنه، ومن غفر لهم إساءتهم إليه وتغاضى عن هفواتهم نحوه غفر له، ومن سامحهم سامحه الله.
ومن أسبابه التوسل إلى الله بصفات عفوه ومغفرته كقول العبد: اللهم إنَّك عفو تحب العفو فاعف عني، يا واسع المغفرة اغفر لي، اللهم اغفر لي وارحمني إنَّك أنت العفو الغفور.
العليُّ الأعلى
أي الذي له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات:
فهو العلي بذاته قد استوى على العرش، وعلا على جميع الكائنات، وبايَنَها.
العلي بقدْره وهو علو صفاته وعظمتُها، فإنَّ صفاته عظيمةٌ لا يماثلها ولا يقاربها صفة أحد، بل لا يطيق العباد أن يحيطوا بصفة واحدة من صفاته.
العلي بقهره حيث قهر كلَّ شيء ودانت له الكائنات بأسرها، فجميع الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. والفرق بين العلي [و] الأعلى أنَّ العلي يدل على كثرة الصفات ومتعلقاتها وتنوُّعها، والأعلى يدل على عظمتها.
الكبير العظيم
وهو الذي له الكبرياء نعتاً، والعظمة وصفاً.
قال تعالى في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذّبته» -رواه أحمد (2/376)، وأبو داود (رقم: 4090)، وابن ماجه (4174)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 541).-

ومعاني الكبرياء والعظمة نوعان:
أحدهما: يرجع إلى صفاته وأنَّ له جميع معاني العظمة والجلال، كالقوة والعزة، وكمال القدرة، وسعة العلم، وكمال المجد وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء. ومن عظمته أنَّ السموات والأرض جميعها كخردلة في كف الرحمن كما قال ذلك ابن عباس - رواه ابن جرير في تفسيره (12/25).-، وقال تعالى"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ "الزمر: 67 ، "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا "41:فاطر . فله تعالى العظمة والكبرياء الوصفان اللذان لا يقادر قدرهما، ولا يبلغ العباد كنههما.
النوع الثاني: أنَّه لا يستحق أحد التعظيم والتكبير والإجلال والتمجيد غيره، فيستحق على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته، والذل له والخوف منه، وإعمال اللسان بذكره والثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته.
ومن تعظيمه أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. ومن تعظيمه وإجلاله أن يُخضع لأوامره وما شرعه وحكم به، وأن لا يُعترض على شيء من مخلوقاته، أو على شيء من شرعه. ومن تعظيمه تعظيم ما عظَّمه واحترمه من زمان ومكان وأشخاص وأعمال. والعبادة روحها تعظيم الباري وتكبيره، ولهذا شرعت التكبيرات في الصلاة في افتتاحها وتنقلاتها، ليستحضر العبد معنى تعظيمه في هذه العبادة التي هي أجلّ العبادات، "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا "111:الإسراء .
الجليل الجميل
أما الجليل فهو الذي له معاني الكبرياء والعظمة كما تقدَّم التنبيه عليها.
وأما الجميل فإنَّه جميل بذاته، جميل بأسمائه، جميل بصفاته، جميل بأفعاله. فأسماؤه كلُّها حُسنى وهي في غاية الحسن والجمال، فلا يسمى إلا بأحسن الأسماء، وإذا كان الاسم يحتمل المدح وغيره لم يدخل في أسمائه، كما يعلم من استقراء أسمائه الحسنى.
قال تعالى"وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى "الأعراف: 180 ، "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا"مريم: 65 .
وذاته تعالى أكمل الذوات وأجمل من كلِّ شيء، ولا يمكن أن يُعَبَّرَ عن كنه جماله، كما لا يمكن التعبير عن كنه جلاله، حتى إنَّ أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم الذي لا يوصف، والسرور والأفراح واللذات التي لا يقادر قدرها إذا رأوا ربهم وتمتعوا بجماله، نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودُّوا أن لو تدوم لهم هذه الحال التي هي أعلى نعيم ولذة، واكتسوا من جماله جمالاً إلى ما هم فيه من الجمال، وكانت قلوبهم دائماً في شوق عظيم ونزوع شديد إلى رؤية ربهم، حتى إنَّهم ليفرحون بيوم المزيد فرحًا تكاد تطير له القلوب، مع أنَّ هذه اللذة وإن كانت تبعًا لمعرفتهم بربهم ومحبته والشوق إليه، ولكن عند رؤية محبوبهم ومشاهدة جماله وجلاله، تتضاعف اللذة وتقوى المعرفة والحب.
وكذلك هو الجميل في صفاته، فإنَّها صفات حمد وثناء ومدح، فهي أوسع الصفات وأعمُّها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة والبر والإحسان والجود والكرم، فإنَّها من آثار جماله. ولذلك كانت أفعاله كلُّها جميلة لأنَّها دائرة بين أفعال البر والإحسان، التي يحمد عليها ويثنى عليه ويشكر عليها، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها الحكمة والحمد.
فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا ظلم، بل كلُّها هدى ورحمةٌ وعدل ورشد "إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " هود: 56 .
فأفعاله كلُّها في غاية الحسن والجمال، وشرعه كلُّه رحمة ونور وهدى وجمال، وكلُّ جمال في الدنيا وفي دار النعيم فإنَّه أثر من آثار جماله.
وهو تعالى له المثل الأعلى، فمعطي الجمال أحق بالجمال، وكيف يقدر أحد أن يعبر عن جماله وقد قال أعرف الخلق به: «لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» - رواه مسلم في صحيحه (رقم: 222) -..
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-08-2017, 04:11 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

الحَكَمُ العدل
أي هو تعالى الملك الحكمُ الذي له الحكم في الدنيا والآخرة.
ففي هذه الدار لا يخرج الخلق عن أحكامه القدرية، بل ما حكم به قدرًا نفذ من غير مانع ولا منازع، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولا يخرج المكلفون عن أحكامه الشرعية التي هي أحسن الأحكام، والتي هي صلاح الأمور وكمالها، ولا يستقيم لهم دين ورشد إلا باتباع هذه الأحكام
التي شرعها على ألسنة رسله "وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "
المائدة: 50 ، "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا "الأنعام: 114 .
وفي الآخرة لا يحكم على العباد إلا هو، ولا يبقى لأحد قول ولا حكم، حتى الشفاعاتُ كلُّها منطويةٌ تحت إرادته وإذنه، ولا يشفع عنده أحد إلا إذا حكم بالشفاعة.
وهذه الأحكام كلُّها بالحكمة والعدل، فهو الحكم العدل الذي تمت كلماته صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فأوامره كلُّها عدل لأنَّها منافع ومصالح، فهي عدل ممزوجة بالرحمة، ونواهيه كلُّها عدل لكونه لا ينهى إلا عن الشرور والأضرار. وهي أيضًا مقرونة برحمته وحكمته، ومجازاته للعباد بأعمالهم، عدلٌ لا يهضم أحدًا من حسناته، ولا يزيد في سيئاتهم أو يعذبهم بغير جرم اجترحوه، "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "الإسراء: 15 .
وحكمه بين العباد كلُّه مربوطٌ بالعدل، فلا يمنع أحدًا حقه، ولا يغفل عن الظالمين، ولا يضيع حقوق المظلومين، فعدله تعالى شاملٌ للخليقة كلِّها حتى الحيوانات غير المكلفة فإنَّه يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء من كمال عدله.
ومن كمال عدله: أنَّه أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا "الإسراء: 15 .
ومن كمال عدله: أنَّه أعطى عباده الأسماع والأبصار والعقول والقدرة على أفعالهم والإرادة، ومكنهم من جميع ما يريدون ولم يجبرهم على أفعالهم.
فَعَدْلُهُ وحكمته ورحمته يبطل بها مذهبُ الجبرية، كما أنَّ كمال قدرته ومشيئته وشمولَها لكلِّ شيء حتى أفعال العباد تُبطل مذهب القدرية الذين يزعمون أنَّهم أهل العدل وهم في الحقيقة أهل الظلم.
فالحق هو ما ذهب إليه أهل السنة، وهو ما دلت عليه البراهين العقلية والبراهين النقلية ودلت عليه أسماؤه الحسنى، كما نبّهنا عليه أنَّ أفعال العباد واقعةٌ تحت اختيارهم وإراداتهم خيرَها وشرَها، ومع ذلك فلا خروج لها عن قضائه وقدره.
الفـتّـاح
للفتَّاح معنيان:
أحدهما: يرجع إلى معنى الحَكَم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينهم بشرعه، ويحكم بينهم بإثابة الطائعين وعقوبة العاصين في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى"قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ "26:سبأ ، "رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ "الأعراف: 89 . فالآية الأولى فتحه بين العباد يوم القيامة، وهذا في الدنيا بأن ينصر الحق وأهله، ويذل الباطل وأهله، ويوقع بهم العقوبات.
المعنى الثاني: فتحه لعباده جميع أبواب الخيرات. قال تعالى"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا "فاطر: 2: الآية. يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصهم بلطفه وعنايته أقفال القلوب، ويُدِرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يُصلح أحوالها وتستقيم به على الصراط المستقيم، وأخص من ذلك أنَّه يفتح لأرباب محبته والإقبال عليه علومًا ربانية، وأحوالاً روحانية، وأنوارًا ساطعة، وفهومًا وأذواقًا صادقة.
ويفتح أيضًا لعباده أبواب الأرزاق وطرق الأسباب، ويهيئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكلين فوق ما يطلبون ويؤملون، وييسّر لهم الأمور العسيرة، ويفتح لهم الأبواب المغلقة.
الـرزّاق
الذي تكفل بأرزاق المخلوقات كلِّها، وأوصل إليها أرزاقها ومعائشها، وعلم أحوالها وأماكنها، "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "6:هود. يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وقد هيأ لعباده في الأرض جميع الأرزاق.
قال تعالى"أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) "عبس .
والله تعالى هو الرزاق الذي يرزق قلوب خيار المؤمنين من العلوم والمعارف وحقائق الإيمان، ما تتغذى به وتنمو وتكمل، ويرزق الحيوانات كلَّها من أصناف الأغذية ما تتغذى به وتنمو نموها اللائق بها. فينبغي للعبد إذا سأل الله الرزق أن يستحضر الأمرين بأن يرزقه رزقًا حلالاً واسعًا، ويرزق قلبه العلم والإيمان والعرفان.
ورزقه لعباده أيضًا نوعان:
نوع له سبب، كما جعل الله الحراثة والتجارة والصناعة وتنمية المواشي والخدمة ونحوها طرقاً يرتزق بها جمهور الناس. قال تعالى"وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ "الحجر: 20. أي أسبابًا ترتزقون بها.
ونوع يرزق الله به عبده بغير سبب منه، كأن يقيض الله له رزقاً قدرياً سماوياً محضاً، أو على يد غيره من غير أن يكون من المرتزق سعيٌ في ذلك، لأجل الاحتراز عن السؤال فإنَّه من جملة الحرف، ولأجل الاحتراز عمن تجب نفقته عليه من زوج أو قريب أو سيد أو مالك، فإنَّ هذه إما من عمل الإنسان ـ يعني من آثار عمله ـ وإما أن يكون تابعًا لغيره.
ولكن نريد أنَّه يوجد بعض المخلوقات لا شيء عندها، ولا عمل لها ولا سعي منها، إما عاجزة عجزًا كليًا، أو كسلانة عن طلب معيشتها. والله تعالى قد قدّر لها من ألطاف رزقه ما تستغني به من وجوه لا تحتسبها وطرق لا ترتقبها، "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "60"العنكبوت .
ومن لطائف رزقه أنَّه قد يرد على الإنسان العاجز عن إدراك رزقه قوةُ حال وقوة توكل، ييسّر الله له بسببها رزقاً عاجلاً، وقد يأتيه ذلك بدعوة مستجابة وخصوصاً عند الاضطرار، "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ "النمل: 62 .
فكما أنَّ الباري إذا رأى عبده مضطرًا إلى كفايته، منقطعًا تعلقه بغيره أجاب دعوته وفرّج كربته، فكذلك المضطر إلى طعام أو شراب متى وصل إلى حالة ييأس فيها من كلِّ أحد ويوقن بالهلاك، أتاه من رزق ربه وألطافه ما به يعرف غاية المعرفة أنَّ الله هو المرجو وحده لكشف الشدائد والكروب، فكم من الوقائع الكثيرة في هذا الباب الدالة على لطف الملك الوهاب.
ومن ألطاف رزقه أنَّ كثيرًا من المرضى يبقون مدة طويلة لا يتناولون طعامًا ولا شرابًا، والله تعالى يعينهم على تماسك أبدانهم فضلاً منه وكرمًا، ولو بقي الصحيح بعض هذه المدة عن الطعام والشراب لهلك.
ومن لطائف رزقه أنَّ الأجنَّةَ في بطون الأمهات جعل غذاءها في أرحام الأمهات بالدم الذي يجري مع عروقها، لأنَّها لا تحتمل غذاء تأكله وتشربه، ولو فرض ذلك لأضرّ به في الرحم، وأضرّ بأمه بما يخرج منه من الفضلات، ثم لما وضعت الحوامل أولادها وكان من ضعفه لا يحتمل الأغذية العادية، أجرى له الباري من ثديي أمه لبنًا لطيفًا خالصًا سائغًا للشاربين، فيه الغذاء الطعامي والغذاء الشرابي، فلم يزل كذلك حتى قوي على تناول الأطعمة الغليظة.
وكذلك لما كان في حال وضعه غير مقتدر على مباشرة ذلك بنفسه، حنّن اللّهُ الأمهاتِ من الآدميين والحيوانات، وأوقع في قلوبها الرحمة العظيمة والرقة على أولادها، فأعانت أولادها على تناول الأرزاق والأغذية. فتبارك الله اللطيف الخبير.
وتنوعُ الأرزاق وكثرة فنونها لا يحصيها وصف الواصفين، ولا تحيط بها عبارات المعبِّرين.

الواحد الأحد الفرد
أي هو الواحد المتفرِّد بصفات المجد والجلال، المتوحِّد بنعوت العظمة والكبرياء والجمال، فهو واحد في ذاته، وواحد في أسمائه لا سمي له، وواحد في صفاته لا مثيل له، وواحد في أفعاله لا شريك له ولا ظهير ولا عوين، وواحد في ألوهيته فليس له ندّ في المحبة والتعظيم، ولا له مثيل في التعبد له والتأله، وإخلاص الدين له، وهو الذي عظمت صفاته ونعوته حتى تفرد بكلِّ كمال، وتعذر على جميع الخلق أن يحيطوا بشيء من صفاته أو يدركوا شيئًا من نعوته، فضلاً عن أن يماثله أحد في شيء منها.
فأحديته تعالى تدل على ثلاثة أمور عظيمة:
ـ نفي المثل والندّ والكفؤ من جميع الوجوه.
ـ وإثبات جميع صفات الكمال بحيث لا يفوته منها صفة ولا نعت دال على الجلال والجمال.
ـ وأنّ له من كلِّ صفة من تلك الصفات أعظمَها وغايتها ومنتهاها "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى "النجم .

الصـمـد
أي السيد العظيم الذي قد كمل في علمه وحكمته وحلمه وقدرته وعزَّته وعظمته وجميع صفاته، فهو واسع الصفات عظيمها، الذي صَمَدَت إليه جميعُ المخلوقات، وقصدته كلُّ الكائنات بأسرها في جميع شؤونها، فليس لها ربٌ سواه، ولا مقصود غيره تقصده وتلجأ إليه في إصلاح أمورها الدينية، وفي إصلاح أمورها الدنيوية، تقصده عند النوائب والمزعجات، وتضرع إليه إذا عرتها الشدَّات والكربات، وتستغيث به إذا مسَّتها المصاعب والمشقات، لأنَّها تعلم أنَّ عنده حاجاتها، ولديه تفريج كرباتها لكمال علمه وسعة رحمته، ورأفته وحنانه، وعظيم قدرته وعزته وسلطانه.

الغني المغني
قال تعالى"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15" إلى " وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى 48"النجم ، فهو تعالى الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه، ولا يمكن إلا أن يكون غنيًا لأنَّ غناه من لوازم ذاته، فكما لا يكون إلا خالقًا رازقًا رحيمًا محسنًا، فلا يكون إلا غنيًا عن جميع الخلق لا يحتاج إليهم بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكونوا كلُّهم إلا مفتقرين إليه من كلِّ وجه، لا يستغنون عن إحسانه وكرمه وتدبيره وتربيته العامة والخاصة طرفة عين.
ومن كمال غناه: أنَّ خزائن السموات والأرض بيده، وأنَّ جوده على خلقه متواصل آناء الليل والنهار، وأنَّ يديه سحاء في كلِّ وقت.
ومن كمال غناه: أنَّه يدعو عباده إلى سؤاله كلَّ وقت ويعدهم عند ذلك بالإجابة، ويأمرهم بعبادته، ويعدهم القبول والإثابة، وقد آتاهم من كلِّ ما سألوه، وأعطاهم كلَّ ما أرادوه وتمنوه.
ومن كمال غناه: أنَّه لو اجتمع أهل السموات والأرض، وأول الخلق وآخرهم في صعيد واحد، فسألوه كلَّما تعلقت به مطالبهم، فأعطاهم سؤلهم، لم ينقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر.
ومن كمال غناه العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن وصفه، ما يبسطه على أهل دار كرامته من اللذات المتتابعات والكرامات المتنوعات، والنعم المتفننات مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فهو الغني بذاته، المُغني جميع مخلوقاته، أغنى عباده بما بسط لهم من الأرزاق، وما تابع عليهم من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وبما يسَّره من الأسباب الموصلة إلى الغنى.
وأخصُّ من ذلك أنَّه أغنى خواص عباده بما أفاضه على قلوبهم من المعارف والعلوم الربانية والحقائق الإيمانية، حتى تعلقت قلوبهم به ولم يلتفتوا إلى أحد سواه.
وهذا هو الغنى العالي كما قال (صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنَّما الغنى غنى القلب» - رواه البخاري (رقم: 6446) ومسلم (رقم: 1051).-. فمتى غَنِيَ القلبُ بالله وبما فيه من المعارف وحقائق الإيمان، وغني برزقه وقنع به وفرح بما أعطاه الله، صار العبد الذي وصل إلى هذه الحال لا يَغْبِطُ الملوكَ وأهلَ الرئاسات، لأنَّه حصل له الغنى الذي لا يبغي به بدلاً، والذي به يطمئن القلب وتسرُّ به الروح، وتفرح به النفس.
فنسأل الله أن يغني قلوبنا بالهدى والنور والمعرفة والقناعة، وأن يمدنا من واسع فضله وحلاله.

ذو الجلال والإكرام
وردت في القرآن مقرونة في عدة مواضع. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» -- رواه أحمد: (4/177)، والترمذي (رقم: 3525)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم: 1536).-. وهذان الوصفان العظيمان للرب يدلان على كمال العظمة والكبرياء والمجد والهيبة، وعلى سعة الأوصاف وكثرة الهبات والعطايا، وعلى الجلال والجمال، ويقتضيان من العباد أن يكون الله هو المعظَّم المحبوب الممجَّد المحمود المخضوع له المشكور، وأن تمتلئ القلوب من هيبته وتعظيمه وإجلاله ومحبته والشوق إليه.

بديع السموات والأرض
أي خالقهما ومبدعهما بأحسن خلقة ونظام، وأبدع هيئة وصفة، قد تمت فيهما أوصاف الحسن ونهاية الحكمة، وأودع فيهما من لطائف صنعته وعجائب قدرته وأسرار خلقته ما يشهد لمبدعها بكمال الحكمة، وسعة الحمد، وواسع العلم، ولطيف اللطف، ودقيق الخبرة.
الرب، ورب العالمين
الذي ربّى جميع المخلوقات بنعمه، وأوجدها وأعدّها لكلِّ كمال يليق بها، وأمدها بما تحتاج إليه. أعطى كلَّ شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كلَّ مخلوق لما خلق له، وأغدق على عباده النعم، ونمّاهم وغذّاهم وربّاهم بأكمل تربية.
وتربيته وربوبيته تعالى نوعان:
ربوبية عامة لكلِّ مخلوق برّ وفاجر، وهو عموم الخلق والرزق والتدبير والإنعام بكلِّ نعمة، فليس له شريك في شيء من ذلك.
وتربية خاصة لأوليائه، ربّاهم فوفقهم للإيمان به والقيام بعبوديته، وغذّاهم بمعرفته ونمّى ذلك بالإنابة إليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسّرهم لليسرى، وجنّبهم العسرى، ويسّرهم لكلِّ خير، وحفظهم من كلِّ شر.
ولهذا كانت أدعيةُ الأنبياء وأولي الألباب والأصفياء الواردةُ في القرآن باسم الرب استحضارًا لهذا المطلب، وطلبًا منهم لهذه التربية الخاصة، فتجد مطالبهم كلَّها من هذا النوع، واستحضار هذا المعنى عند السؤال نافع جدًا.
ومن أسمائه تعالى: المُعِز، المُذِل، الخافض الرافع، المعطي المانع، المحيي المميت، القابض الباسط.
وهي من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق كلُّ واحد منها إلا مع الآخر، لأنَّ الكمال المطلق باجتماعها. ووردت هذه في القرآن على
وجه الإخبار عنه بها بالفعل، لأنَّها من معاني الربوبية، ومن معاني الملك، فيغني عنها اسم الرب والملك، فإنَّ هذه المعاني العظيمة من معاني
الملك، فإنَّ الملِك من صفاته أنَّه يعزّ ويذل، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، بحسب علمه وحكمته ورحمته، كما أنَّه يحيي ويميت ويداول الأيام بين الخليقة.
الودود
أي المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة، وآلائه الواسعة، وألطافه الخفية، ونِعَمِه الخفية والجليَّة، فهو الودود بمعنى الواد، وبمعنى المودود، يحب أولياءه وأصفياءه ويحبونه، فهو الذي أحبهم وجعل في قلوبهم المحبة، فلمّا أحبوه أحبهم حبًا آخر جزاء لهم على حبِّهم.
فالفضل كلُّه راجع إليه، فهو الذي وضع كلَّ سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى ودّه. تودَّد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة، الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإنَّ القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال.
والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكلُّ وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودَّد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كَمَّلَ لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم لحقائق الإحسان، وبها يسّر لهم الأمور، وبها فرّج عنهم الكربات وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسّرها ونفى عنهم الحرج، وبها بيّن لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسّر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعًا وقدرًا، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسارّ، وبها لطف بهم ألطافاً شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم.
فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان الداخلية والخارجية الظاهرة والباطنة، فإنَّها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم، فإنَّ القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه.
ومن تودُّده أنَّ العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرِّمات، ويقصِّر في الواجبات. والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئاً، ثم يقيّض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه ودَّه وحبه. ولعل هذا والله أعلم سر اقتران الودود بالغفور في قوله"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ "14:البروج .
ومن كمال مودته للتائبين: أنَّه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يُقَدَّر، وأنَّه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين. وأنَّ من أحبّه من أوليائه كان معه وسدَّده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيهاً عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» -رواه البخاري (رقم: 6502).-.

وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام. وأما مودة أوليائه له فهي رُوْحهم ورَوْحهم وحياتهم وسرورهم، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من
الحقوق المتنوعة، وبها كفّوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه
وجوارحَهم عن مخالفته، وبها صارت جميعُ محابهم الدينيةِ والطبيعيةِ تبعًا لهذه المحبة.
أما الدينية فإنَّهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبّوا كلَّ عمل يقرب إليه، وأحبّوا ما أحبه من زمان ومكان، وعمل وعامل.
وأما المحبة الطبيعية فإنَّهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب، وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم. وأيضًا فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنَّهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله"كُلُوا وَاشْرَبُوا "الأعراف: 31. ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلُّها مشغولة بالتقرّب إلى محبوبهم.
وكلُّ هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضّل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب.
فكما أنَّ الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكِّدات والمكدِّرات من كلِّ وجه.
الحليم الصبور، الشاكر الشكور
في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله،يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم»
- رواه مسلم (رقم: 2804).-. فصبره تعالى على معاصي العاصين، ومحاربة المحاربين، صبرٌ عن قوة واقتدار، وهو الصبر الكامل، فإنَّ العباد يتبغضون إليه بالمعاصي وهم مضطرون إليه، وهو يتحبَّب إليهم بالنعم مع كمال غناه، وهو تعالى يحلم عن زلاَّتهم ويسترهم مع كثرة هفواتهم، ويتمادون في الطغيان والله تعالى لا يزيده ذلك إلا حِلمًا وكرمًا.
ومن حِلمه تعالى أنَّ العبد يسرف على نفسه، والله تعالى قد أرخى عليه حِلمه، فإذا تاب العبد وأناب فكأنَّه ما جرى منه جرم، ومع كمال حلمه وصبره فهو تعالى الشكور لعباده، الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، وإذا أخلص العبد عمله ضاعفه بغير حساب، وجعل القليل كثيرًا والصغير كبيرًا، ويتحمل عبدُه من أجله بعضَ المشاق، فيشكر الله له ويقوم بعونه ويكون معه، فتنقلب تلك المشاق والمصاعب سهولات، وتلك المتاعب راحات.
الـرقـيـب
أي المطّلع على ما في القلوب، وما حوَته العوالم من الأسرار والغيوب، المراقب لأعمال عباده على الدوام، الذيأحصى كلَّ شيء، وأحاط بكلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء وإن دقَّ، الذي يعلم ما أسرّته السرائر، من النيات الطيبة والإرادات الفاسدة.
ومن تعبّد الله باسمه الرقيب أورثه ذلك المقام المستولي على جميع المقامات، وهو مقام المراقبة لله في حركاته وسكناته، لأنَّ من علم أنَّه رقيب على حركات قلبه وحركات جوارحه وألفاظه السرية والجهرية، واستدام هذا العلم، فإنَّه لا بد أن يثمر له هذا المقام الجليل، وهذا سرٌ عظيم من أسرار المعرفة بالله. انظروا إلى ثمراته وفوائده العظيمة وإصلاحه للشؤون الباطنة والظاهرة.
القريب المجيب
أي هو تعالى القريب لكلِّ أحد، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وقربه تعالى نوعان:
قربٌ عام بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته، فهو أقرب إلى كلِّ أحد من نفسه.
وقربٌ خاص من عابديه وداعيه ومحبيه، قرب لا يُدْرَكُ له حقيقة، وإنَّما تُعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده، وحضور القلب عنده في تلك الحال التي حصل فيها القرب.
ومن آثاره: الإجابةُ للداعين والإثابة للعابدين، وما أحسن اقتران القريب بالمجيب. قال تعالى"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ "البقرة: 186 ، وقال تعالى"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ "غافر: 60 .
فهو المجيب إجابة عامة للدَّاعين مهما كانوا وأين كانوا، وعلى أيِّ حال كانوا كما وعدهم بهذا الوعد المطلق.
وهو المجيب إجابة خاصة للمستجيبين له، المنقادين لشرعه. ولهذا عقَّب ذلك بقوله"فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ، أي فإذا استجابوا لي أجبتهم. وتقدم الحديث الذي فيه حالة المحب المستجيب لربه بفعل النوافل بعد الفرائض، وأنَّ الله يقول: «ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن أستعاذني لأعيذنَّه» - تقدم ص50-.

وهو المجيب أيضاً إجابة خاصة للمضطرين كما قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] ، وكذلك من انقطع رجاؤه من المخلوقين وقوي طمعه وتعلقه بالله رب العالمين، فما أسرع الإجابة لهذا، وكلَّما قويت حاجة العبد وقوي طمعه بربِّه حصل له من الإجابة بحسب ذلك.
الحسيب الكافي الحفيظ


أي: هو الكافي عباده كلَّما إليه يحتاجون، الدافع عنهم كلَّما يكرهون فكفايته عامة وخاصة.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-08-2017, 09:22 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

أما العامة فقد كفى تعالى جميع المخلوقات، وقام بإيجادها وإرزاقها وإمدادها وإعدادها لكلِّ ما خلقت له، وهيأ للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم ويقنيهم ويطعمهم ويسقيهم.
وأما كفايته وحسبه الخاص فهو كفايته للمتوكِّلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين. قال تعالى"وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ "الطلاق: 3. أي كافيه كلَّ أموره الدينية والدنيوية. وقال تعالى"أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ"لزمر: 36.أي: من قام بعبوديته الظاهرة والباطنة كفاه الله ما أهمَّه، وقام تعالى بمصالحه، ويسر له أموره.
قال تعالى"وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا "الطلاق: 2. أي من جميع المكاره والمضايق، "وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ "الطلاق: 3 .
وإذا توكل العبد على ربه حق التوكل، بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتمادًا قوياً كاملاً في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقويت ثقته وحسن ظنه بربه حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدَّده في أقواله وأفعاله، وكفاه همَّه وجلا غمه.
ومن معاني الحسيب أنَّه الحفيظ على عباده كلَّما عملوه، أحصاه الله ونسوه، وعلم تعالى ذلك، وميّز الله صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحق من الجزاء ومقداره من الثواب والعقاب. فهو في هذا المعنى بمعنى الحفيظ، وللحفيظ أيضًا معنى آخر يقارب معنى الكافي الحسيب، وهو الذي تكفل بحفظ مخلوقاته وإبقائها، "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا "فاطر: 41 . فهذا حفظ عام.
وأما الحفظ الخاص فقد قال صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك»- رواه أحمد (1/293)، والترمذي (رقم: 2516)-. . فمن حفظ أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب، وحفظ فرجه ولسانه وجميع أعضائه، وحفظ حدود الله فلم يتعدها، حفظه الله في دينه من الشبهات القادحة في اليقين، وحفظه من الشهوات والإرادات المناقضة لما يحبه الله ويرضاه، وحفظ عليه إيمانه "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ "البقرة: 143 ، وحفظ الله عليه دنياه، وحفظه في أولاده وأهله ومن يتصل به.

وكذلك ينقله الله من حالة أعلى من ذلك - كذا في الأصل ولعلها «إلى حالة أعلى من ذلك».، وهي أنَّه من حفظ الله وجده أمامه وتجاهه يسدِّده ويوفقه، وتحصل له معية الله الخاصة التي لا تحصل إلا لخواص الخلق.

الأول الآخر، الظاهر الباطن

قد فسَّرها صلى الله عليه وسلم بتفسير جامع واضح، حيث قال في دعاء الاستفتاح: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» - رواه مسلم (رقم: 2713). وهو في أذكار النوم-. فبيَّن معنى كلِّ اسم ونفى ما يناقضه، وهذا أعلى درجات البيان. وهنا نكتفي بهذا التفسير والبيان الذي لا يُحتاج إلى غيره.


الواسع

أي واسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، فجميع العوالم العلوية والسفلية الظاهرة والباطنة كلُّها لله.

قال تعالى"وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "البقرة . وواسع العلم والحكمة، وعام القدرة، ونافذ المشيئة، وواسع الفضل والإحسان والرحمة، "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا "غافر: 7 .

ومن لطائف التعبد لله باسمه الواسع، أنَّ العبد متى علم أنَّ الله واسع الفضل والعطاء وأنَّ فضلَه غير محدود بطريق معين، بل ولا بطرق معينة، بل أسباب فضله وأبواب إحسانه لا نهاية لها أنَّه لا يعلق قلبه بالأسباب، بل يعلقه بمسبِّبها، ولا يتشوش إذا انسدَّ عنه باب منها، فإنَّه يعلم أنَّ الله واسع عليم، وأنَّ طرق فضله لا تعد ولا تُحصى، وأنَّه إذا انغلق منها شيء انفتح غيره مما قد يكون خيرًا وأحسن للعبد عاقبة.
قال تعالى مشيراً إلى هذه الحال التي كثير من الناس لا يوفقون لها، "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ "النساء: 130 ، لما كانت هذه الحال وهي حال الفراق يغلب على كثير من الزوجات الحزن، ويكون أكبر داع لهذا الحزن ما تتوهمه من انقطاع رزقها من هذه الجهة التي تجري عليها، فوعد الله الجميع وبشّرهم بفتح أبواب الخير لهم، وأنَّه سيعطيهم من واسع فضله.
وكم من عبد بهذه المثابة له سبب وجهة من الجهات التي يجري عليه الرزق، فانغلقت ففتح الله له باباً أو أبواباً من الرزق والخير. وبهذا يُعْرَفُ الله ويُعْلَمُ أنَّ الأمور كلَّها منه، وأنَّه "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ "فاطر: 2 .
ومن سعته وفضله: مضاعفة الأعمال والطاعات، الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة بغير عد ولا حساب.
ومن سعته: ما احتوت عليه دار النعيم من الخيرات، والمسرَّات والأفراح واللذات المتتابعات، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فخير الدنيا والآخرة وألطافهما من فضله وسعته، وجميع الأسباب والطرق المفضية إلى الراحات والخيرات كلُّها من فضله وسعته.
النور الهادي الرشيد
النور من أوصافه تعالى على نوعين:
نور حسي: وهو ما اتصف به مـن النور العظيم، الذي لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ونور جلاله ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا النور لا يمكن التعبير عنه إلا بمثل هذه العبارة النبوية المؤدية للمعنى العظيم، وأنَّه لا تطيق المخلوقات كلُّها الثبوت لنور وجهه لو تبدَّى لها، ولولا أنَّ أهل دار القرار يعطيهم الرب حياة كاملة، ويعينهم على ذلك لَمَا تمكنوا من رؤية الرب العظيم. وجميع الأنوار [في]]- ما بين المعكوفتين زيادة يقتضيها السياق. السموات العلوية كلُّها من نوره، بل نور جنات النعيم التي عرضها السموات والأرض ـ وسعتُها لا يعلمها إلا الله ـ من نوره، فنور العرش والكرسي والجنات من نوره، فضلاً عن نور الشمس والقمر والكواكب.
والنوع الثاني: نوره المعنوي وهو النور الذي نوّر قلوب أنبيائه وأصفيائه وأوليائه وملائكته، من أنوار معرفته وأنوار محبته، فإنَّ لمعرفته في قلوب أوليائه المؤمنين أنوارًا بحسب ما عرفوه من نعوت جلاله، وما اعتقدوه من صفات جماله، فكلُّ وصف من أوصافه له تأثير في قلوبهم، فإنَّ معرفة المولى أعظم المعارف كلِّها، والعلم به أجلّ العلوم، والعلم النافع كلُّه أنوار في القلوب، فكيف بهذا العلم الذي هو أفضل العلوم وأجلّها وأصلها وأساسها.
فكيف إذا انضم إلى هذا نور محبته والإنابة إليه، فهنالك تمتلئ أقطار القلب وجهاتُه من الأنوار المتنوعة وفنونِ اللذات المتشابهة في الحسن والنعيم.
فمعاني العظمة والكبراء والجلال والمجد، تملأ قلوبهم من أنوار الهيبة والتعظيم والإجلال والتكبير.
ومعاني الجمال والبر والإكرام: تملأها من أنوار المحبة والود والشوق.
ومعاني الرحمة والرأفة والجود واللطف: تملأ قلوبهم من أنوار الحب النامي على الإحسان، وأنوار الشكر والحمد بأنواعه والثناء.

ومعاني الألوهية: تملأها من أنوار التعبد، وضياء التقرُّب، وسناء التحبُّب، وإسرار التودُّد، وحرية التعلق التام بالله رغبة ورهبة، وطلباً وإنابة، وانصراف القلب عن تعلقه بالأغيار كلِّها.
ومعاني العلم والإحاطة والشهادة والقرب الخاص: تملأ قلوبهم من أنوار مراقبته، وتوصلهم إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات كلِّها؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك.
فكلُّ معنى ونعت من نعوت الرب يكفي في امتلاء القلب من نوره، فكيف إذا تنوّعت وتواردت على القلوب الطاهرة الزكية الذكية، وهنا يصدق على هذه القلوب القدسية انطباق هذا المثل عليها، وهو قوله"مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ِ "النور: 35. الآية.
وهذا النور المضروب هو نور الإيمان بالله، وبصفاته وآياته مثله في قلوب المؤمنين مثل هذا النور الذي جمع جميع الأوصاف التي فيها زيادة النور، وهو أعظم مثل يعرفه العباد. وقد دعا صلى الله عليه وسلم لحصول هذا النور فقال: «اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم اجعلني نورًا» -- رواه مسلم (رقم: 763). .
ومتى امتلأ القلب من هذا النور فاض على الوجه، فاستنار الوجه، وانقادت الجوارح بالطاعة راغبة. وهذا النور الذي يكون في القلب هو الذي يمنع العبد من ارتكاب الفواحش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» - رواه البخاري (رقم: 2475)، ومسلم (رقم: 57)-.. فأخبر أنَّ وقوع هذه الكبائر لا يكون ولا يقع مع وجود الإيمان ونوره.
والهادي الرشيد من أسمائه الحسنى هما بمعنى النور بهذا المعنى، فالله يهدي ويرشد عباده إلى مصالح دينهم ودنياهم، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم هداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره.
فالله خلق المخلوقات فهداها الهداية العامة لمصالحها، وجعلها مهيئة لما خلقت له، وهدى هداية البيان، فأنزل الكتب وأرسل الرسل، وشرع الشرائع والأحكام، والحلال والحرام، وبيّن أصول الدين وفروعه، وعلوم الظاهر والباطن، وعلوم الأولين والآخرين، وهدى وبيّن الصراط المستقيم الموصل إلى رضوانه وثوابه، ووضّح الطرق الأخرى ليحذَرَها العباد، وهدى عباده المؤمنين هداية التوفيق للإيمان والطاعة، وهداهم إلى منازلهم في الجنة، كما هداهم في الدنيا إلى سلوك أسبابها وطرقها.
ولهذا يقول أهل الجنة حين تتم عليهم نعمة الهداية"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ "الأعراف: 43 . وقال تعالى"مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ "178:الأعراف .
والهداية المطلقة التامة هي الهداية التي يسألها المؤمنون ربهم في قوله: {2 3 4 : 6! ! } أي اهدنا إليه واهدنا فيه. وفي قول الداعي: «اللهم اهدنا فيمن هديت» -- جزء من حديث «قنوت الوتر» رواه الإمام أحمد (1/200)، وغيره..
وللرشيد معنى آخر بمعنى الحكيم، فهو الرشيد في أقواله وأفعاله، وهو على صراط مستقيم فيما يشرعه لعباده من الشرائع، التي هي رشد وحكمة، وفيما يخلقه من المخلوقات ويقدره من الكائنات، الجميع رشد وحكمة، لا عبثٌ فيها ولا شيءٌ مخالف للحكمة.
الولي
ولايته تعالى وتوليه لعباده نوعان:
ولاية عامة: وهو تصريفه وتدبيره لجميع الكائنات، وتقديره على العباد ما يريده من خير وشر، ونفع وضر، وإثبات معاني الملك كلِّها لله تعالى.
والنوع الثاني في الولاية والتولي الخاص، وهذا أكثر ما يرد في الكتاب والسنّة كقوله"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ "البقرة: 257 ، "وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ "الأنفال: 40 ، "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " محمد: 11 .
وهذا التولي الخاص يقتضي عنايته ولطفه بعباده المؤمنين، وأنَّ الله يربيهم تربية خاصة، يصلحون بها للقرب منه ومجاورته في جنات النعيم، فيوفقهم للإيمان به وبرسله، ثم يغذي هذا الإيمان في قلوبهم وينمّيه، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ويغفر لهم في الآخرة والأولى، ويتولاهم برعايته وحفظه وكلاءته، فيحفظهم من الوقوع في المعاصي، فإنَّ وقعوا فيها بما سوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء، وفّقهم للتوبة النصوح، فإذا تولوا ربهم تولاهم ولايةً أخصَّ من ذلك، وجعلهم من خواص خلقه بما يهيئ لهم من الأسباب الموصلة لهم إلى كلِّ خير.
قال تعالى"أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ "يونس .
فأخبر في هذه الآية عن الأسباب التي نالوا بها ولاية الله، وهي الإيمان والتقوى، والفوائد والثمرات العظيمة التي يجنونها من هذه الولاية، وهي الأمن التام وزوال ضده من الخوف والحزن، والبشارة الكاملة في
الدنيا بما يبين لهم ويبشرهم به من اللطفِ والعنايةِ والتوفيقِ للخيرات والحفظ من المخالفات، وبالثناء الحسن بين العباد، وبالرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو تُرى له، والبشارة عند الموت، وفي القبر، وفي عَرَصَات القيامة.

فهذا تنبيه جامعٌ، متوسطٌ بين الاختصار المخل والطول الممل، وفيه من التفصيلات النافعة، والنكت اللطيفة، والفوائد والفرائد ما لا تكاد تجده مجموعاً في محل واحد، ولنتبع هذا المقصد الجليل ببقية المقاصد من علوم التوحيد، فنقول: بيان الأصول التي كَثُر الكلام فيها بين السلف، وبين أهل الكلام، وهي متفرعة على أسماء الله الحسنى وصفاته، ولكن لزيادة الإيضاح نبيّن دلالة القرآن عليها بخصوصها.
القول في علو الباري، ومباينته لخلقه، واستوائه على عرشه
هذا الأصل العظيم لم يزل الصحابة والتابعون لهم بإحسان يعترفون ويعلمون علماً لا يرتابون فيه بما دلّ عليه الكتاب والسنّة من علوِّ الله تعالى، وأنَّه فوق عباده، وأنَّه على العرش استوى، وأنَّ له جميع معاني العلو: علو الذات، وعلو القدر وعظمةِ الصفات، وعلو القهر لجميع الكائنات، حتى نبغت الجهمية ومن تبعهم فأنكروا المعنى الأول، لا ببرهان عقلي، فإنَّ العقل دلّ على علو الله تعالى على خلقه بذاته دلالة فطرية واضحة، ولا ببرهان نقلي، فإنَّ جميع النصوص تنافي قولهم وتبطله وتثبت له تعالى كمال العلو من كلِّ وجه.
في القرآن «العلي» في مواضع كثيرة وفيه «الأعلى»، وذلك يدل على أنَّ علوه من لوازم ذاته وأنَّ جميع معانيه ثابتة لله تعالى.
وفيه الإخبار عن فوقيته للمخلوقات كقوله"يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ "النحل: 50 .
والإخبار بعروج الأشياء إليه وصعودها وبنزولها منه، كقوله"تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ "المعارج: 4 ، "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ "فاطر: 10 ، وكقوله"حم "1" تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ } في عدة مواضع. فيدل ذلك على علوه، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
وكذلك قصة موسى وفرعون إذ قال فرعون"وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى"غافر:36،37 . وهذا ظاهر غاية الظهور أن فرعون قد أنكر ما قاله موسى صلى الله عليه وسلم من علو الله على خلقه، فقال هذه المقالة موهماً وملبساً على قومه، ولذلك كان السلف يسمون الجهمية الفرعونية لاعتقادهم نفي العلو، كما اعتقده وأنكره فرعون.
ومن ذلك: اسمه الظاهر حيث فسّره صلى الله عليه وسلم أنَّه الذي ليس فوقه شيء.
ومن ذلك: اختصاصه لبعض مخلوقاته بقربه وعِنديته، كقوله عن الملائكة"وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ "الأنبياء: 19.
وأما استواؤه على العرش فقد ذكره الله في سبعة مواضع من القرآن، مثل قوله"الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" طه:5 فالاستواء معلوم والكيف مجهول، كما يقال مثل ذلك في بقية صفات الباري، فإنَّ الكلام فيها مثل الكلام في الذات، فكما أنَّ لله ذاتاً لا تشبهها الذوات، فله تعالى صفات لا تشبهها الصفات.
فصفة العلو لله تعالى ثابتة بالسمع والعقل كما تقدم، وصفة الاستواء ثبتت في الكتاب وتواترت بها السنّة.




رد مع اقتباس
  #7  
قديم 07-08-2017, 10:43 PM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

القول في نزول الرب إلى السماء الدنيا

وإتيانه ومجيئه يوم القيامة
وذلك أنَّ الله تعالى فعّال لما يريد، وقد تواترت السنة بنزول الرب إلى السماء الدنيا. والكتاب قد دلّ على كمال قدرته، وأنَّه الفعّال لما يريد،وأنَّه ليس له مثيل ولا شبيه، فإذا أخبر المعصوم -صلى الله عليه وسلم- بنزوله إلى السماء الدنيا، فما عذر المؤمن إذا لم يعتقد ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وأنَّه ليس كمثله شيء فهو ينزل كيف يشاء مع كمال علوه، فإنَّ علوه من صفاته الذاتية، ونزوله وإتيانه من أفعاله الاختيارية التابعة لقدرته ومشيئته.
وقال تعالى"وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا " الفجر:22 ، وقال تعالى"هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ "الأنعام: 158. الآية.
وهذا صريح لا يقبل التأويل بوجه، ومن تأوّل هذا فكلُّ صفاته بل وأسمائه الحسنى يتطرّق إليها هذا التأويل، بل التحريف الباطل المنافي للكتاب والسنّة.

القول في رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة
على هذا جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين والهدى، وبه أخبر الله في كتابه في عدة آيات منها قوله تعالى"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ "22" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "23" القيامة. أي حسنة نيّرة من السرور والنعيم، تنظر إلى وجه الملك الأعلى.
وقال تعالى"كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ "15: المطففين . وهذا من أدلِّ الأدلة على أنَّ المؤمنين غير محجوبين عن ربهم، لأنَّ الله توعَّد المجرمين بألم الحجاب، فيستحيل أن يُحجب المؤمنون عنه ويكونوا كأعدائه.
وفي عموم قوله تعالى"عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ "23: المطففين. ما يدل على رؤية الباري، فهم ينظرون إلى ما أعطاهم مولاهم من النعيم الذي أعظمه وأجلّه رؤية ربهم، والتمتع بخطابه ولقائه.
وقال تعالى"لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "يونس: 26. يعني: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه كأنَّهم يرونه، فإن لم يصلوا إلى ذلك استحضروا رؤية الله تعالى، وأحسنوا إلى عباد الله بجميع وجوه البر والإحسان القولي والفعلي والمالي. فهؤلاء لهم الحسنى وهي الجنة بما احتوت عليه من النعيم المقيم، وفنون السرور، ولهم أيضاً زيادة على ذلك وهو رؤية الله والتمتع بمشاهدته، وقربه ورضوانه والحظوة عنده، بذلك فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم (برقم: 181) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.- ، وكذلك قوله تعالى"لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا " جمعت كلَّ نعيم، "وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ "ق: 35 ، وهو النظر إلى وجه الله الكريم، والتمتع بلقائه وقربه ورضوانه.
وكذلك ما في القرآن من التعميم لجميع أصناف النعيم، فإنَّ أعظم ما يدخل فيه رؤيةُ وجهه الذي هو أعلى من كلِّ نعيم، كقوله تعالى"وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ "الزخرف: 71 ، فكلُّ ما تعلَّقت به الأماني والشهوات والإرادات، فهو في الجنة حاصل لأهلها، وجميع ما تلذه الأعين من جميع المناظر العجيبة المسِرَّة، فإنَّه فيها على أكمل ما يكون.
وقوله"تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ "الأحزاب: 44 ، فهذا إخبار عن تحية الكريم لهم، وأنَّه سلَّمهم من جميع الآفات، وسلَّم لهم جميع اللذات والمشتهَيات، وإخبار عن رؤيته وقربه ورضوانه، لأنَّ اللقاء تحصل به هذه الأمور.

ذكر أصول الإيمان الكلية
قد ذكر الله الإيمان ذكرًا عامًا مطلقًا في مثل قوله"آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ "النساء : 131، "وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" الحديد : 19، "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا "، وذكره مقيدًا بما يجب الإيمان به.
وأجمع الآيات المقيدة هي الآية العظيمة التي فرض الله فيها على الناس الإيمان بجميع أصوله الكلية، وهي قوله تعالى"قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "136" البقرة وقد أخبر أنَّ الرسول والمؤمنين قاموا بهذه الأصول في قوله"آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ"
- كما في صحيح مسلم :برقم: 181. من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه-.
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "285"البقرة .
فعلى كلِّ مؤمن أن يؤمن بالله، ويَدْخُلُ في الإيمان بالله الإيمانُ بكلِّ ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونفي أضدادها.
وأركان ذلك ثلاثة: الإيمان بالأسماء كالعزيز الحكيم العليم الرحيم.. إلى آخرها.
والإيمان بالصفات: كالإيمان بكمال عزة الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
والإيمان بأحكام الصفات ومتعلقاتها: كالإيمان بأنَّه يعلم كلَّ شيء، ويقدر على كلِّ شيء، ورحمته وسعت كلَّ شيء.. إلى آخرها.
فهذا الإيمان بالله المتعلق بالعلم والاعتقاد، ثم يتبع هذا الإيمان بالله المتعلق بالحب والإرادة، وهو التأله لله والقيام بعبوديته، امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه. ولهذا كان القيام بالدين كلِّه تصديقاً واعتقاداً وانقياداً داخلاً بالإيمان بالله.
وبهذا يُعرف أنَّ إطلاق الإيمان في كثير من الآيات القرآنية يشمل هذا كلَّه، لأنَّه رتب على المطلق من الأمر والمدح والثواب ما رتبه على المقيد. فجميع الأوصاف الجميلة داخلة في الإيمان، وكذلك الإيمان التام ينفي الأخلاق الرذيلة كما قال تعالى"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ "4"الأنفال .
فوصفهم بالإيمان القلبي وأعمالِ القلوب مـن التوكل والزيادة في الإيمان، وبأعمال الجوارح من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة بالقيام بحقه وحق خلقه. وأخبر أنَّ هؤلاء هم الذين حققوا الإيمان، وأنَّ لهم من الله المغفرة الكاملة والثواب التام.
وقال تعالى"قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ 2" إلى أن قال"أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .11" المؤمنون .
فأخبر عنهم بالفلاح، وبشّرهم بالمنازل العالية، كما وصفهم بالإيمان الكامل الذي أثّر في قلوبهم الخضوع والخشوع في أشرف العبادات، وحفظ ألسنتهم وفروجهم وجوارحهم، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومراعاتهم للأمانات الشاملة لحقوق الله وحقوق خلقه، وأنَّهم مراعون لها، قائمون بها، وبالعهود التي بينهم وبين الله، والتي بينهم وبين خلقه.
وقد ذكر ما يشبه ذلك في سورة المعارج، وكذلك ذكر الله خصال الإيمان في قوله"وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ "البقرة: 177. الآيات، فحيث أطلق الله الإيمان، أو أثنى على المؤمنين مطلقاً دخلت فيه جميع هذه الأمور.
وقد يخص بعضها بالذكر ولكنها متلازمة لا يتم بعضها إلا ببعض.
ومن الإيمان بالملائكة: الإيمان بأنَّهم قد جمعوا خصال الكمال ونزّههم الله في أصل خلقتهم من جميع المخالفات، فهم عباد مكرمون عند ربهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقد جعل الله كثيراً منهم وظائفهم التدبير لحوادث العالم، وأقسم بهم في عدة آيات، فهم المدبِّرات أمراً والمقسِّمات والملقيات للأنبياء والرسل ذكرًا عذرًا أو نذرًا، وهم الحفظة على بني آدم يحفظونهم بأمر الله من المكاره، ويحفظون عليهم أعمالهم خيرها وشرها، وقد وصفوا في الكتاب والسنّة بصفات جليلة، يتعين على العبد الإيمان بكلِّ ما أخبر به الله ورسوله عنهم وعن غيرهم.
ومن الإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم: الإيمان بأنَّ الله اختصهم بوحيه ورسالته، وجعلهم وسائط بينه وبين عباده في تبليغ رسالاته وأمره وشرعه، وجمع فيهم من صفات الكمال ما فاقوا فيه الأولين والآخرين، من الصدق العظيم، والأمانة التامة، والقوة العظيمة، والشجاعة، والعلم العظيم، والدعوة والتعليم، والإرشاد والهداية، والنصح التام، والشفقة والرحمة بالعباد، والحلم والصبر الواسع، واليقين الكامل.
فهم أعلى الخلق علومًا وأخلاقًا، وأكملهم أعمالاً وآدابًا، وأرفعهم عقولاً، وأصوبهم آراء، وأسماهم نفوسًا.
اختارهم الله واصطفاهم وفضّلهم واجتباهم، بهم عُرِف الله، وبهم وحّد، وبهم عُرف الصراط المستقيم، وعلى آثارهم وصل أهل الجنة إلى كلِّ نعيم، فلهم على العباد الإيمانُ بهم، والاعترافُ بكلِّ ما جاءوا به، ومحبتُهم وتعزيرهم وتوقيرهم واحترامهم، واقتفاء آثارهم والاهتداء بهديهم.
وهذه الأمور ثابتة لجميع الأنبياء، ولنبينا صلى الله عليه وسلم من هذه الأوصاف أعلاها وأكملُها. فلقد جمع الله به من الكمال ما فرقه في غيره من الأنبياء والأصفياء، وله على أمته أن يقدموا محبته على محبة أنفسهم وأولادهم ووالديهم والناس أجمعين، وأن يقوموا بحقه، وهو القيام بشرعه وتعلمه وتعليمه، واتباعه ظاهرًا وباطنًا، ويعتقدوا أنَّه خاتم الأنبياء، وأفضل الخلق أجمعين، وأنَّه أصدق الخلق وأنصحهم وأعظمهم في كلِّ خصلة حميدة، ومنقبة جميلة، وأنَّه أكمل الله به الدين، وأتمَّ به النعمة على المؤمنين، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وخصّه بخصائص لم تكن لأحد قبله من الرسل، وأيّده بالآيات البيّنات والمعجزات الظاهرات، والبراهين القواطع، والأنوار السواطع.
صفاته صلى الله عليه وسلم من أكبر الأدلة على صدقه، وأنَّه رسول الله حقاً، وما بعث به من الهدى والرشد والرحمة، والعلوم الربانية، والمعارف الإلهية، والعبوديات الظاهرة والباطنة المزكية للقلوب، المنمّية للأخلاق، المثمرة لكلِّ خير من أعظم البراهين على رسالته، وأنَّها من عند الله.
وما جاء به من القرآن العظيم، وما احتوى عليه من علوم الغيب والشهادة، ومن علوم الظاهر والباطن، ومن علوم الدنيا والدين والآخرة، ومن الهداية إلى كلِّ خير، والتحذير من كلِّ شر، ومن الإرشاد إلى أقوم الطرق وأهدى السبل، وأقرب الوسائل وأرجح الدلائل، كلُّ ذلك دليل وبرهان على أنَّه من عند الله، تنزيل من حكيم حميد، وأنَّ من جاء به هو الرسول الأمين والصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ولهذا نقول: ومن الإيمان بالله ورسوله: الإيمان بهذا القرآن العظيم، وأنَّه كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأنَّه تكلم به حقاً، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فنقلته الأمة كلُّها بأسرها قرناً بعد قرن.
ولهذا كان هذا القرآن متواترًا تواترًا لا يقاربه شيء من الكلام المنقول، وهذا من حفظ الله، فإنَّه تعالى أنزله وتكفّل بحفظه.
ومن تمام الإيمان به التصديق التام بكلِّ خبر أخبر به عن الله، وعن المخلوقات، وعن أمور الغيب وغيرها، وأنَّه لا يمكن أن يأتي خبر صحيح ينقضه، أو يَرِد بما يخالف الحس، بل يعلم أنَّ كلَّ ما خالفه فإنَّه باطل بنفسه.
ومن تمام الإيمان به الإقبالُ على معرفة معانيه، والعمل بكلِّ ما دلّ عليه بالتصديق بأخباره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وقد وصف الله القرآن بأنَّه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، وأنَّه تبيان لكلِّ شيء، فما من شيء يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم، إلا وقد بيّنه أتم بيان، وأمر عند التنازع في الأمور كلِّها أن ترد إليه، فيفصل النزاع ويحل المتشابهات بلفظه الصريح، أو بمعانيه المتنوعة التي بيّنتها السنّة، وبلّغها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وأمر العباد بتدبُّره والتفكر في معانيه.
وأخبر أنَّ أحكامه أحسنُ الأحكام، وأخباره أصدق الأخبار، ومواعظه أنجع المواعظ، فهو المبِيْنُ لكلِّ ما يحتاجه الخلق، وهو المفصّل لجميع العلوم؛ كلُّه، محكمٌ من جهة الحِكَمِ والحُكْم والإتقان والانتظام، وكلُّه متشابه في حسنه وبيانه وحقه، وتصديق بعضه لبعض، وبعضه محكم من جهة التوضيح والتصريح، وبعضه متشابه من جهة الإجمال والإطلاق، يجب ترجيعه ورده إلى المحكم ليتضح الأمر ويزول اللبس، فيه الدليل والمدلول، يحتوي على جميع الأدلة النقلية والعقلية والفطرية قد جمع الله فيه كلَّ خير ونفع للعباد.
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 07-09-2017, 01:46 AM
الصورة الرمزية أم أبي التراب
أم أبي التراب أم أبي التراب غير متواجد حالياً
غفر الله لها
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 4,252
Arrow

الإيمان باليوم الآخر
ومن تمام الإيمان بالله ورسله وكتبه: الإيمانُ باليوم الآخر، وهو كلُّ ما جاء به الكتاب والسنّة ممَّا يكون بعد الموت من أحوال الموت والبرزخ والقبر، والقيامة والجنة والنار، ومتعلقات ذلك كلِّه داخل بالإيمان باليوم الآخر.
وقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث المتنوعة في فتنة القبر، وعذابه ونعيمه، وأنَّ الميت تعاد إليه روحه في قبره فيُسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن: الله ربي، ومحمد نبيي، والإسلام ديني، فيفسح له في قبره وينوّر له فيه، ويُنَعَّمُ فيه إلى يوم القيامة، كما وُصِفَ ذلك وفُصِّلَ في السنّة.
وأما الكافر والمنافق فيضله الله عن الصواب لظلمه وكفره، فيضيق عليه قبره، ولا يزال يعذب إلى أن تقوم الساعة.
ومن المذنبين من يعذّب في القبر مدة بقدر ذنوبه، ثم يرفع عنه العذاب، ومنهم من يرفع عنه العذاب بشفاعة أو دعاء أو صدقة أو نحو ذلك.
ثم إذا تكامل الآدميون وماتوا جميعاً أمر تعالى إسرافيل بالنفخ في الصور، فيخرجون من قبورهم إلى موقف يوم القيامة، حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداع كأنَّهم إلى نصب يوفضون، يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفداً، ويساق المجرمون إلى جهنم ورداً، فيقفون موقفاً عظيماً لا تتصور العقول عظمه وفظاعته وهوله، ولكن الله يخففه على المؤمنين.
ويسيل العرق منهم فيكونون على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حَلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وتدنوا الشمس منهم فتكون على قدر ميل منهم، ويصيب الخلق من الهمِّ والكرب ما الله به عليم، فيفزعون إلى من يشفع لهم إلى ربهم ليريحهم من هذا الموقف، ويفصل بينهم، فيأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلُّهم يعتذر ويدفعهم إلى من بعده.
فإذا جاءوا لعيسى صلى الله عليه وسلم قال: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم عبدٍ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيجيب طلبتهم ويلبي دعوتهم، ثم يأتي إلى تحت العرش فيسجد لله سجدة عظيمة، يفتح الله عليه من الثناء والتحميد والتمجيد لله ما لم يفتحه على أحد من الأولين والآخرين ويقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعطَ، واشفع تشفع، ويبعثه الله ذلك المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أهل السماء وأهل الأرض - -حديث الشفاعة الطويل الذي أورد معناه المصنف رواه البخاري (رقم: 7410)، ومسلم (رقم: 193)..
وينزل الله للفصل بين عباده ومحاسبتهم، وحينئذ تنشر دواوين الأعمال الحاوية لحسنات العباد وسيئاتهم، وكلٌّ يُعطى كتابه، فيكون عنوان أهل السعادة أن يعطوا كتبهم بأيمانهم، فيكون ذلك أول البشرى بما تحتوي عليه كتبهم من الخيرات، ويعطى أهل الشقاء كتبهم بشمائلهم، ومن وراء ظهورهم بشارة لهم بالشقاوة، وفضيحة لهم بين الخلائق.
فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ويحاسب الكفار محاسبة توبيخ وفضيحة بين الخلائق، ثم يؤمر بهم إلى النار، ويحاسب الله بعض المؤمنين حساباً يسيراً يضع الله عليه كنفه ويقرره بذنوبه، فإذا ظن أنَّه هالك قال الله له: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فلا يطلع عليها أحد من الخلق، ويعطى كتابه بيمينه، وتوضع الموازين التي توزن بها الأعمال الصالحة والسيئة، "فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ "المؤمنون: 102، 103 .
وينقسم الناس ثلاثة أقسام: قسم مستحقون للثواب المحض، سالمون من العقاب، وهم السابقون وأصحاب اليمين، الذين أدوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وتابوا مما جنوه من المخالفات.
وقسم مستحقون للعقاب المحض، والمخلدون في نار جهنم، وهم جميع من لم يؤمن بالرسل الإيمان الصحيح، من مشرك ومستكبر، وجاحد ومنافق، ويهودي ونصراني ومجوسي، وجميع من حكمت عليه النصوص الصحيحة بالخروج من الإسلام.
وقسم ثالث ظالمون لأنفسهم مخلطون، فهؤلاء من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة ولم يدخل النار، وَمَنْ استوت حسناته وسيئاته فهم أهل الأعراف، وهو موضع عال مشرف على الجنة والنار، يقيمون فيه ما شاء الله تعالى، ثم يتداركهم المولى برحمته فيدخلهم الجنة.
ومَنْ رجحت سيئاته على حسناته، فلا بد من دخوله النار بقدر
ذنوبه، ثم بعد ذلك يدخل الجنة إلا أن تحصل له شفاعة، فإنَّ الشفاعة لأهل الذنوب والمعاصي ثابتة، يشفع محمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع الأنبياء، ويشفع خواص المؤمنين فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها وأعماله تقتضي الزيادة على تلك المدة أن يخرج منها، ويخرج الله من النار أقوامًا برحمته.

وينصب الصراط على متن جهنم، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمن مرّ عليه فهو من الناجين، ولا يدع الله في النار أحداً في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، ويبقى فيها أهلها الذين هم أهلها خالدين أبداً، لا يفتر عنهم عذابها.
وقد وصف الله تعالى عذاب النار وصفة أهلها بأفظع الأوصاف، وأنَّ الله يجمع لهم بين أصناف العقاب، يعذبهم بالنار المحرقة التي تطّلع على الأفئدة، وكلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلوداً غيرها، ليعاد عليهم العذاب ويذوقوا شدته، وبالجوع المفرط والعطش المفرط.
فالجوع والعطش، من أعظم العذاب والآلام، وما يغاثون به إذا طلبوا الشراب والطعام عذابٌ أشد وأفظع، فإنَّهم إذا استغاثوا للشراب أغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، فلا يدعهم العطش الشديد حتى يتناولوه، فيقطع منهم الأمعاء، ويستغيثون للطعام فيؤتون بالزقوم الذي حرارته أعظم من حرارة الرصاص المذاب، وهي في غاية المرارة وقبح الريح، فيغلي في بطونهم كغلي الحميم، ويسلسل المجرمون بسلاسل من نار، وتغل أيديهم إلى أعناقهم ويسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون.
ويترددون في عذابهم بين لهب النار وحرارتها التي لا يمكن وصفها، وبين برد الزمهرير البارد الذي يكسر العظام من قوة برده، ويجمع لهم بين جميع ألوان العذاب، وبين عذاب الحجاب عن ربهم، وبين اليأس من رحمته، وآخر أمرهم العذابُ المؤبد والشقاء السرمدي.
وأما الجنة وما أعد الله فيها لأهلها من النعيم، وما عليه أهلها من السرور القلبي والروحي والبدني، فقد ذكر الله أوصاف الجنة مبسوطاً مفصلاً في كثير من الآيات، وأطلقه معمَّماً شاملاً في آيات، مثل قوله تعالى"لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ "35"ق ، "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "يونس: 26 ، "وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ "الزخرف: 71 ، "فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ "السجدة: 17 ، "وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا "20) :الإنسان ، "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ "74:الزمر ، إلى غير ذلك من الآيات العامة الشاملة لنعيم الأبدان، وسرور الأرواح، وأفراح القلوب، وشهوات النفوس، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ووصف نعيمها مفصلاً، فتقدم ذكر رؤية الباري الذي هو أعلى نعيم يحصل لأهل الجنة، والتمتع بلقائه ورضوانه، وسماع كلامه وخطابه.
وأخبر تعالى أنَّ جميع أصناف الفواكه الموجودة في الدنيا موجودٌ في الجنة ما يشبهها في الاسم فقط، لا في الحسن واللذة وطيب الطعم والتنعم بتناوله، وفيها أشياء ليس لها في الدنيا نظير، ولهذا قال"فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ" 52الرحمن ، وقوله"وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ"21:الواقعة. وذللت قطوفها أي ثمارها تذليلاً، كقوله"وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ "الرحمن: 54. يتناوله القائم والقاعد والماشي وعلى أيِّ حال.
وأنَّ أنهارها تجري من تحتهم أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، ولهم فيها من كلِّ الثمرات.
ووصف فرشهم بأنَّ بطائنها من إستبرق وهو أعلى أنواع الحرير، فكيف بالظهائر، وأنَّ لباسهم فيها الحرير، وحليهم الذهب والفضة واللؤلؤ وأنواع الجواهر الفاخرة، وذلك شامل لذكورهم وإناثهم، وأنَّ أزواجهم الحور العين خيّرات الأخلاق، حِسَان الأوجه، جمع الله لهنَّ بين الحسن والجمال الباطن والظاهر، كأنَّهنَّ الياقوت والمرجان من حسنهنَّ وصفائهنَّ، وأنَّهنَّ عُرُب متحببات إلى أزواجهنَّ بحسن التبعُّل، ولطف الآداب، وحسن الحركات والألفاظ الرقيقة والحواشي المليحة.
وأنَّهنَّ أبكارٌ أترابٌ في غاية سن الشباب وقوته، وفي كمال الصفاء بينهنَّ وعدم التباغض، بل نزع الغل من صدور جميع أهل الجنة، إخواناً على سرر متقابلين، وأنَّهنَّ مطهراتٌ من جميع الآفات، مطهراتٌ من الأدناس الحسية والأدناس المعنوية، كاملاتٌ مكملاتٌ، وأنَّهنَّ قاصرات طرفهن على أزواجهنَّ من حسن أزواجهنَّ وعفتهنَّ، قاصراتٌ طرف أزواجهنَّ عليهنَّ من جمالهنَّ الفائق الذي لا يبغي بعلها بها بدلاً، ولا يقول لو أنَّ هذا الوصف أكمل من هذا، لأنَّه يرى ما يحير لبّه، ويذهل عقله من الحسن الباهر، والبهاء التام.
وأنَّهم في الجنة متعاشرون مع أحبابهم وأصحابهم، يتزاورون ويتطارحون الكلام الطيب، والأحاديث الشائقة، ويتذاكرون نعم الله وآلاءه عليهم، سابقاً ولاحقاً، ويسبِّحون الله بكرة وعشياً، وأنَّ الله نزّههم من البول والأدناس، وكلِّ ما لا تشتهيه النفوس، بل طعامهم وشرابهم يخرج عرقاً أطيب من المسك الأَذْفَر، وأنَّ الله جمع بينهم وبين من صلح من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وزوجاتهم ليتم نعيمهم، ويكمل سرورهم.
وهذه الآية تجمع كلَّ نعيم تتعلق به الأماني، وتطلبه النفوس وهي قوله تعالى: "ذَوَاتَا أَفْنَانٍ "48 :الرحمن. وهي جمع فن، لا جمع فنن، أي كلُّ نوع وجنس من النعيم والسرور موجود فيهما، حاصل على أكمل الوجوه وأتمها، وتمام ذلك الخلود الدايم، والنعيم المستمر، والأفراح المتواصلة التي تزداد على الدوام. فجميع ما ورد به الكتاب والسنّة من أحوال الدارين وتفاصيل ذلك كلِّه داخلٌ في الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان باليوم الآخر على درجتين:
أحدهما: التصديق الجازم الذي لا ريب فيه بوجود ذلك على حقيقته. فهذا لا بد فيه من الإيمان.
والدرجة الثانية: التصديق الراسخ المثمر للعمل، فإنَّ من علم ما أعد الله للطائعين من الثواب، وما للعاصين من العقاب علماً واصلاً إلى القلب، فلا بد أن يثمر له هذا الإيمان الجد في الأعمال الموصلة إلى الثواب، والحذر من الأعمال الموجبة للعقاب.
ومن أصول أهل السنّة والجماعة أنَّ الدين والإيمان اسم يجمع اعتقادات القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنَّه يزيد وينقص ويتفاضل أهل الإيمان فيه تفاضلاً عظيماً، وجعلهم الله في كتابه ثلاث طبقات:
سابقين إلى الخيرات، وهم الذين أدّوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات.
وأصحاب اليمين اقتصروا على أداء الفرائض، واجتناب المحارم.
وظالمين لأنفسهم خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.
قال تعالى"وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ "التوبة ، وقوله"لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ "الفتح: 4 ، "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى "مريم: 76" . والهدى هو علوم الإيمان وأعماله، والنصوص على هذا الأصل من الكتاب والسنّة كثيرة جدًا.
وهو معلومٌ بالحس والوجدان؛ فإنَّ المؤمنين يتفاضلون في علوم الإيمان، قلة وكثرة، وقوة يقين وضعفه، ويتفاضلون في أعمال القلوب التي هي روح الإيمان وقلبه، مثل محبة الله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والإخبات والخضوع والتعظيم. هذا أمر لا يمتري فيه من له أدنى عقل.
ويتفاضلون في أعمال الجوارح كالصلاة والزكاة والصيام والحج فرض ذلك ونفله، والقيام بحقوق الله وحقوق عباده من البر والصلة للأقارب والجيران والأصحاب والإحسان إلى الخلق تفاوتاً عظيماً.
فمن زعم أنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقد قال ما خالف النقل والعقل والحس والواقع، حتى ولو فسَّره بمجرد التصديق، فإنَّه يتفاوت تفاوتًا ظاهرًا لكلِّ أحد.
ويتفرَّع على هذا الأصل أنَّ العاصي وصاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بالكلية، ولا يعطى الاسم الكامل المطلق، فهو مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق ناقص الإيمان بما تركه من واجبات الإيمان، ما معه من الإيمان الذي لا يخالطه كفر يمنعه من الخلود في النار.
وأما الإيمان المطلق الكامل، فإنَّه يمنع دخول النار بالكلية، وقد ذكرنا في القواعد أنَّ أسماء المدح والثناء على المؤمنين، وترتيب الثواب المطلق عليه ونفي العقاب إنَّما هو الإيمان الكامل، وأنَّ خطاب الله للمؤمنين بالأمر والنهي والتشريع يعمُّ كاملَ الإيمان وناقصَه - انظر القاعدة الثامنة والعشرين من كتاب المصنف «القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن» ص60..
ويتفرع أيضاً على هذا الأصل أنَّ العبد قد يجتمع فيه خير وشر، وإيمان وخصال كفر، أو نفاق، وأنَّه يستحق المدح على ما فيه من خصال الخير، والذم على ما فيه من خصال الشر.
ومن أصول أهل السنّة والجماعة: الإيمان بقضاء الله وقدره، وهو داخل في الإيمان به وبكتبه وبرسله، فيعلمون أنَّ الله قد أحاط بكلِّ شيء علماً، وأنَّه كتب في اللوح المحفوظ جميع الحوادث، صغيرها وكبيرها، سابقها ولاحقها، ثم قدّرها وأجراها بمواقيتها بحكمته وقدرته وعنايته وتمام علمه، وأنَّه كما أنَّ جميع الحوادث - إلى هنا انتهى المنسوخ في «بستان العارفين..» وجاء في خاتمته «.. وأنَّه كتب في اللوح المحفوظ جميع الحوادث بمواقيتها بحكمته وقدرته، وأنَّ أعمال العباد مع أنَّهم فاعلون لها حقيقة فإنَّها داخلة في قضائه وقدره، فالله خالقهم وخالق جميع صفاتهم، وخالق السبب التام خالقٌ للمسبب، فلا يجبرهم عليها بل وقعت بإرادتهم وقدرتهم، وهم الذين عملوها واستحقوا جزاءها من خير وشر، والله أعلم وصلى الله على محمد وسلم». وإلى هنا ـ كذلك ـ انتهت النسخة التي بعنوان: «فتح الرب الحميد..».
مرتبطة بحكمته وعلمه فإنَّها مرتبطة بقدرته، وأنَّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ أعمال العباد كلَّها خيرها وشرها داخلة في قضائه وقدرته، مع وقوعها طبق إرادتهم وقدرتهم، ولم يجبرهم عليها، فإنَّه خلق لهم جميع القوى الظاهرة والباطنة، ومنها القدرة والإرادة التي بها يختارون وبها يفعلون.
رد مع اقتباس
إضافة رد


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 07:52 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. تركيب: استضافة صوت مصر